حلاق الدواب.. مهنة مصرية نادرة تنتعش صيفا وتركد في الشتاء!!
25.01.2017
عديدة هي المهن القديمة والمتناثرة بأماكن مخفية في مصر، لا تتوقف عندها أنظار الناس عادة، وإنما يتوارثها الأبناء عن الآباء الذين تعلموها من الأجداد، وهي مازالت تصارع التطور التكنولوجي من أجل البقاء، ومن تلك المهن، مهنة “قصّاص الدواب”، التي تمثل أهمية خاصة للذين يمتهنونها، ولمن يعتمدون على الحيوانات لقضاء مصالحهم اليومية.
كتبت شيرين الديداموني ..القاهرة- “الحلّاق”، أو “المزيّن”، أو “القصّاص”، كلها مترادفات، لمن يعمل بتلك المهنة، التي تشمل الخيول والحمير والكلاب والبغال والأغنام أيضا، ولا يشغل بال العامل بها امتلاك صالون ذي مرايا فخمة، أو ما إذا كانت الحلاقة ستمارس في أماكن راقية أو فقيرة، إذ الزبائن من الدواب، لا تهتم بالمظاهر، كما أن الحلاق لا يهتم بامتلاك أدوات فخمة، أو مستوردة من الخارج، فكل ما يحتاج إليه، مجرّد مقص، وقليل من الخبرة، وموهبة مصقولة بالكثير من المهارة والإجادة اليدوية.
“قصّاص الدواب”، لا يعرف طوال حياته غير تزيين الحيوانات، وقصّ شعرها، وتقليم أظفارها، ومعالجتها لتتهيأ للأعمال الشاقة، دون معوقات؛ كالشعر الزائد عن الحاجة الذي يكون مرتعا للحشرات الضارة، مثل البعوض والقمل والبق والبراغيث. في منطقة “الجيّارة”، بالقرب من مجرى العيون بمصر القديمة (وسط القاهرة)، يناضل حلاق الحيوانات، بملامحه المصرية الأصيلة، من أجل الحفاظ على مهنته من الانقراض، وهناك لن تحتاج إلى جهد كبير، لتهتدي إلى محمد مصطفى القصاص، الذي تجاوز الأربعين عاما، إذ شهرته تسبق اسمه، وبالرغم من أنه نال تلك الشهرة من حلاقته للحمير، إلا أنه لا يحب أن يناديه أحد بحلاق الحمير، فهو كما قال لـ”العرب”، يحب تسمية “قصاص الخيول أو الدواب”.
اتخذ محمد، بمقصه وفرشاته الخشنة، من سور مجرى العيون، صالون حلاقة مفتوحا، لاستقبال زبائنه المجردين من البردعة والسرج، وليس بهذا الصالون الكائن في الهواء الطلق أيّ مفروشات، ويلجأ إليه أصحاب الحيوانات، لكي يضع الحرفي لمساته الساحرة بتسريحاته (قصّاته) المختلفة على أجساد الدواب.
حلاقة الدواب تنتشر أصلا في الأرياف أكثر من المدن، لكن عائلة محمد مصطفى هي الأشهر في العاصمة المصرية، حيث ورث أفرادها المهنة عن الأجداد منذ ما يزيد عن المئة وعشرين عاما، وقد كانت هذه العائلة تقوم في الماضي بقصّ شعر الخيول الخاصة بالملك فاروق وكذلك دواب العائلة المالكة سابقا في قصر عابدين (قصر الحكم)، وتردد على آباء محمد وأجداده فنانون كثيرون، لحلاقة شعر ووبر حيواناتهم، مثل الممثل الراحل أحمد مظهر.
الأجيال المتعاقبة من عائلة القصاص، كانت الدواب -وخاصة الخيول والحمير- هي مصدر رزقهم الوحيد، وأقرب الأصدقاء إليهم، حتى أن أصغر طفل فيهم يعرف بمجرد النظر إلى الحيوان، نوع الشعر، وعمر صاحبه، وسعره، ومن أي سوق جاء. شهرة محمد الطيبة، أتت من رفقه بالحيوانات التي يتعامل معها، وكانت سببا أساسيا لتردد الكثيرين عليه، حدثنا قائلا “لا ينبغي أن تكون معاملة الحيوان قاسية، ويجب أن تبتسم دائما في وجهه، لأنه يحس بالمعاملة ويميزها، وطبعا يختلف الأمر من حيوان إلى آخر”.
ثم يشرح “الحيوان الصومالي على سبيل المثال -لأنه تربى في الصحراء- ليس مُروّضا، ولذلك يحتاج إلى الضرب والتكبيل لأنه قوي، أما المصري أو السوداني فهما من تربية مزارعين، ومن ثمّ فهما أليفان، ويسهل التعامل معهما، وغالبا ما يعتادان على الحلاقة بسرعة”. كلام محمد أكده العلم الحديث، حيث ذكرت دراسة حديثة في جامعة “ساسكس” البريطانية، نشرت بمجلة رسائل البيولوجيا، أن الخيول يمكنها قراءة تعبيرات الوجه البشري الإيجابية والسلبية، واكتشف الباحثون أنه عند نظر الخيول إلى الوجوه الغاضبة، فإنها تراها بالعين اليسرى، وتأتي بسلوكيات توحي بإدراكها أنها بصدد مشاعر سلبية.
خيول مدللة
أصحاب الخيول يحرصون دائما على تزيينها، والذهاب بها إلى “القصّاص”، لكن البعض منهم يتهمون القصاصين، بالمغالاة في سعر الحلاقة، والطريف كما يوضح بيشوي عدلي صاحب عربة كارو لـ”العرب”، “أن السعر المتهاود (المنخفض)، ينطبق فقط على الحصان الذي يأتي به صاحبه إلى السور مكان الحلاقة، أما إذا أراد أصحاب الخيول الحلاقة في الإسطبل (مكان تجمع الجياد)، فالسعر يتضاعف”.
بيشوي يفسر ذلك قائلا إن الحصان، الذي يأتي إلى الإسطبل، هو حصان “ابن ناس.. ومدلل”، لكن أغلب العاملين في مهنة الكارو (وهي عربة يجرّها حصان أو حمار)، لا يقدرون على سعر “الحلاقة المنزلية”، لذلك يذهبون بأحصنتهم أو حميرهم إلى حلّاق السور. ولأن تلك المهنة تنتعش في موسم الصيف، فعلى أصحاب الحمير والبغال، الحجز مقدما، أو دفع ثمن أكبر، بسبب الزحام الشديد، إذا كانوا متعجلين، ويحرص أصحاب الحمير، على إنعاش حميرهم بحلاقة صيفية خفيفة تسمح لها بالانطلاق، أما في أشهر الخريف، فتقل الحيوانات التي يسعى بها أصحابها إلى الحلاقة، لأن شعرها يتساقط من تلقاء نفسه.
وفي فصل الشتاء، يكون الشعر مرغوبا فيه للحيوان، لإشاعة الدفء في جسده، ومن ثمّ لا يعمل أصحاب تلك المهنة شتاء، وفي كل الأحوال، لا يجب أن تزيد المدة القصوى لترك الشعر دون حلاقة عن عام، وغالبية الزبائن يفضلون الحلاقة لحيواناتهم كل ستة شهور. والعلاقة بين الحصان والحلاق في الأساس، علاقة عاطفية لا يفهمها الكثيرون، وهي تسمح للأخير بتدليل زبونه، والعمل على إسعاده ضمن حدود محسوبة بدقة، لجعل منظره مبهجا، خاصة إذا كان الحصان في طريقه للبيع أو للسباق.
وابتكر الحلاقون قصّات ورسومات جديدة، ويحاولون دائما تقديم الجديد من تسريحات متنوعة، فهناك الحلاقة “المودرن” (الحديثة)، بأن تُكتب أسماء أو حروف أو كلمات معينة عند قص الشعر، وهناك الحلاقة العاديّة المحلية، وكل حسب رغبته، وقدرته على الإنفاق، غير أن الشيء الأهم في تلك المهنة، هو كيفية الإمساك بالمقص لإنجاز القصات، مع الحفاظ على الحيوان، حتى لا يتأذى أو يُجرح في أي منطقة من جسده.
وأنواع الخيل عديدة، فهناك نوع يمتلك شعرا أشقر، وهناك البُني، وكل حصان له طريقة حلاقة، حسب نوع الشعر؛ هل هو ناعم أم خشن، ولكل واحد من الدواب معاملة خاصة. تتفاوت مدة الحلاقة طبقا لردة فعل الدابة، ففي حالة توتر الحصان أو الحمار، ولجوئه إلى العض والرفس، تمتد مدة الحلاقة إلى أكثر من ثلاث ساعات، حيث يقوم الحلاق بربط القائمتين الخلفيتين بإحدى القائمتين الأماميتين بحبل، كي لا يتمكن من الرفس، ويستخدم عصا صغيرة لتفادي العض طوال عملية الحلاقة، فيفتح فم الحصان ويضعها بين أسنانه.
أما إذا كان الحمار هادئا ومتعاونا، فيمكن الانتهاء من حلاقة الرأس والجسد في ساعة واحدة، أو حتى أقل، وتكون الحلاقة في تلك اللحظة متعة للحلاق، وكأنه يقوم برسم لوحة زيتية فوضوية المعالم. وتختلف الطلبات من زبون إلى آخر، في ما يتعلق بالكم المطلوب حلاقته من الشعر أو النقوش التجميلية، فالبعض من أصحاب الدواب، لا يرغب في إزالة شعر الحصان أو الحمار تماما وصولا إلى طبقة الجلد (وهي الحلاقة التي تسمى على الزيرو)، وإنما يرغبون في تجميل حيواناتهم، وتدليلها وتحسين مظهرها، وهناك من يحرص على ترك نقوش أو تصميمات على جلد الحصان أو الحمار.
وتلقى النقوش رواجا كبيرا لدى الزبائن، حيث يطلبون نقوشا معينة، تحولت مع مرور الأيام إلى موضة اجتاحت عالم الحيوان، ومن أشهرها نقش “السمكة”، وهناك “سبعات ثمانيات”، والتي غالبا ما ترسم على الجزء الخلفي من الظهر أو الفخذين، أما “الأهرامات الثلاثة”، فنادرا ما يطلبها الزبون.
مهنة دونية
أكثر ما يضايق أصحاب تلك المهنة، أن المجتمع المصري بكل طبقاته، ينظر إليها باحتقار وازدراء ودونية منقطعة النظير، إذ لا تلقى قبولا اجتماعيا، خاصة خارج المجتمع الريفي، وتكون مادة للتندر بين الكثيرين، لكون أصحابها يعملون مع حيوانات مُهانة، تجر عربات القمامة، أو عربات الروبابيكيا.
مصطفى القصاص (والد محمد)، الذي يطلقون عليه هنا، ملك المقص، بجلبابه ووجهه المألوفيْن للمحيطين به، لا تفارقه حقيبته المصنوعة من القماش، والتي بداخلها أدوات الحلاقة التي يستخدمها في عمله، فهي كما قال لـ”العرب”، لم تفارقه على الإطلاق منذ أكثر من ستين عاما، وفيها مقص، وماكينة حلاقة كبيرة، تختلف عن مثيلتها البشرية بأنها أطول قليلا، والمقص يشبه مقص البستاني.
ملك المقص، لا تربطه هو أو أحد عائلته بالقراءة والكتابة أي صلة، بل أجاد المهنة من دون توفير وقت أو مجهود في التعلم، ويقول “ألفتها عيناي.. وسجّلها عقلي”. ويشرح الرجل السبعيني، الذي تربى وسط المقصات وأصوات الدواب ورائحتها، أنه يبدأ أولا باستخدام فرشاة خشنة لتنظيف جسم الحصان، ثم يمرر الماكينة على الجسد طولا وعرضا انتهاء بالرأس، ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الثانية باستخدام المقص لتهذيب كتل الصوف في رقبة الحيوان وذيله، وأخيرا يأخذ في تنفيذ النقوش على الجزء الخلفي من الظهر أو حسب طلب الزبون.
حلاقة شعر الدواب، عند عم مصطفى، أمتع بكثير من حلاقة شعر البشر، حيث أن نوعية شعرها متقاربة لا تتغير كثيرا، أما البشر فلم يفكر مصطفى يوما أو يتمنى الحلاقة لهم، لأن طلباتهم غريبة، وهم مرة يريدون شعرهم ” مفلفلًا” ، ومرة “سبايكي”، وهناك الحلاقة “كاريه”، علاوة على أن رؤوسهم غريبة الشكل، ومطالبهم تتغير بين فترة وأخرى، بخلاف الحيوان، الذي يستكين له، ويتقبل كل ما يفعله به.
ماكينة حلاقة عم مصطفى يدوية، اقتناها منذ وقت طويل جدا، ولم تتعد تكلفتها العشرين دولارا، بينما الماكينة الكهربائية، لا يستطيع شراءها، لأن سعرها يتجاوز المئتي دولار. أكد عم مصطفى، أن أسعار الحلاقة تصل إلى 70 جنيها (ما يقرب الأربعة دولارات)، أو أكثر، للحصان أو الحمار الكامل، حسب نوع القصّة، ويتردد عليه في الصيف يوميا أكثر من خمسة حيوانات، تتنوع بين الخيول والأحمرة، وأحيانا تكون هناك جمال أيضا، أما في الشتاء فمن الممكن أن يمر اليوم دون قدوم حتى مهرة صغيرة.
ويمكن أن يكون شعر الخيول قاسيا جدا أو مرنا، لكن شعر العنق عادة ما يكون أكثر نعومة وأخف وأقصر من شعر الذيل، هذا الاختلاف أرجعته منال وجيه، طبيبة بيطرية، لاختلاف السلالة، وطريقة التغذية والتربية، بما في ذلك الظروف الطبيعية والنظام الغذائي والمناخ. وأوضحت لـ “العرب”، أن شعر الخيل يتكون من ألياف بروتينية، تمتص الماء ببطء، ومن الممكن تفاعلها مع مواد صبغية تقليدية لتلوينه، كما يمكن تجعيده، ويتم بيعه لصانعي الأحذية، حيث يدخل في صناعة فرشة الحذاء، والبعض من الملابس.
أما سلمى صلاح، طالبة بكلية التربية الفنية بالقاهرة، فهي تأتي مع زملائها بالكلية إلى ملك المقص، مرة كل عام، لشراء شعر الخيل المقصوص من الذيل، لاستخدامه في الأوتار الخاصة بآلاتهم الموسيقية والأنسجة الصلبة. وفي مهنة حلاقة الدواب، العديد من المخاطر، كما يحكي ملك المقص، ومن ذلك، أنه حدث ذات ليلة، بتر عقلتين من إصبع ابنه، بسبب عضة حصان، فالركل أو العض كثيرا ما يتعرض لهما الحلاقون عند ممارستهم القص، وهناك أيضا مضايقات البلدية (مجلس المدينة)، التي تفاجئهم بين الحين والآخر، فتصادر الخيول والحمير، لتعطيله حركة السير، ثم يذبح المسؤولون الحمير المصادرة، لإطعامها للحيوانات المفترسة بحديقة الحيوان.!!
المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|