دلالات اليد في الثقافة العربية تجسد تطور الوعي التاريخي !!
07.03.2016
تعتبر اليد من أكثر أعضاء الجسم بروزا وأهمية من حيث وظيفتها العملية باستخدامها كوسيلة للعمل والإنتاج والإبداع فهي أداة القيام بالعمل اليدويّ وأغلب الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته اليومية يدوية. فتمثل اليد محور الحركة ورمز العمل وهي تختزن في حرفيها الإثنين دلالات كثيرة ترتبط بمراجع ثقافية أنتروبولوجية وأخرى تاريخية تجسّد مراحل تطوّر الوعي البشري من خلال استعماله لليد التي ارتبطت في المخيال الشعبي العربي بالعطاء والإحسان ولكن كذلك بالمنع والبخل.
كتب د. محمد الجويلي ..أطلقت الثقافة الشعبية صفات عدّة على اليد لتحيل على صاحبها فيقال “يد كبيرة” بمعنى الكرم والعطاء و”يد شحيحة” بمعنى البخل والإمساك. وهذه المعاني نجد لها صدى في لسان العرب في معنى اليد وكثيرا ما تنسجم اللغة مع السياق الثقافي والاجتماعي فهي نابعة من ذاكرة الجماعة وتأويلاتها، فمن معاني اليد عند ابن منظور النعمة والإحسان، الجاه والقدر، القدرة والسلطان، الندم والذلّ، الجماعة، الأكل، والأيادي بمعنى النعم، ويد اللّه عمله، يد الدّهر عمله وفعله، ولك فيه يد يعني لك فيه عمل، “اليد العليا” المعطية المتعفّفة، و”اليد السفلى” السائلة أو المانعة، ومن أمثال العرب “يد الله مع الجماعة” أي حفظه ووقايته، و”اليد لفلان على فلان” أي الأمر النافذ والقهر والغلبة، ويد بيضاء دلالة على النّقاء، ويد قذرة؛ شخص سيّء وطالح.
تؤكّد معاني اليد كما وردت في لسان العرب على ارتباط اليد بالعطاء والإحسان وهي من القيم العربية الأصيلة فكثيرا ما مدح الأدب العربي الكرم والإحسان وذمّ البخل والمنع فكانت اليد العليا اليد المعطاء رمزا للصدقة باعتبارها رمزا للتآزر والتقارب بين الناس، في حين تكون اليد المانعة أو السائلة يدا سفلى فمن أمسك يده بخلا ومنعا مثله مثل من مدّ يده للسؤال والتسول. وهذا ما يرتبط بمعنى الندم والذلّ وهو مصير البخيل المانع أو السائل الذي نسي أن وظيفة اليد العمل والسعي وليس تجميدها في حركة واحدة ثابتة تدلّ على عجز صاحبها وتخليه عن وظيفته الأساسية وهي العمل. فباستغلال يده في غير محلّها يشلّها ويمنعها من الفعل منتظرا ما يرتزق به من عطايا الناس وينسى أن يسعى إلى الرزق بيديه.
وهكذا تتحوّل اليد من الوسيلة إلى الهدف وهو العمل فتصبح دالّة على ما تسعى إليه، وهو ما يفسّر القول يد الدّهر لا ترحم بمعنى أنّ الدّهر قادر على أن يفعل بالإنسان، وبما أنّ الفعل والعمل طالما ارتبطا بالـيد الوسيلة الأولى للقيام بالفعل فإنّ اليد قد ظلت لصيقة بـالعمل وكأنها من توابعه، فلا يظهر إلاّ بظهورها، بل لا يتحقّق الفعل إلاّ باليد. وهذا ما يفسّر كذلك قولنا “لحقته يد المنون” وهو تعبير مجازيّ فليس للموت يد، وإنّما التّعبير جعل للموت يدا حتى تقوم بالفعل وهو أن تمسك بروح الإنسان، بما أنّ الفعل المادي لا يتمّ إلاّ بواسطة اليد.
وتؤكد الأقوال الشعبية رمزية اليد المتمثلة في العمل فيقال “يداه خوات (إخوة)” ويعني أن يديه ماهرتان وتتقنان أيّ عمل يدويّ وتصلحان ما فسد، وعلى العكس من ذلك “يداه موش خوات” ويعني أنّ يديه لا تتقنان أيّ عمل بل وتفسدان كلّ ما أمسكتا به. ويقال كذلك عن شخص ماهر في إتقان عمل يدويّ ”أصابعه من ذهب” و”أصابعه تغزل الحرير” وهي دلالة على قدرة الأصابع على الإتقان والتفنن في الصناعة.
كما ترتبط اليد بمرجع ثقافي اجتماعي في الأمثال الشعبية التي تعبّر بصورة لا واعية عن رمزية اليد لدى المجموعة مثل قولنا “اليد الواحدة لا تصفّق” وهو مثل معروف في الثّقافة العربيّة. وفعلا اليد وحدها غير قادرة على القيام بعمل، على الأقلّ عمل نهائي وتامّ، إلا في حالات شاذّة تقوم اليد الواحدة بعمل (في حالة فقدان اليد الأخرى)، وإنّما المألوف، هو أن تتشارك اليدان كما يتشارك الشخصان في عمليّة المشي، حيث يكون الوضع الطّبيعي للعمل في عمل الاثنين معا، فنجد فعلا أنّ اليد الواحدة لا يمكن أن تقوم بحركة التّصفيق.
ففعل التّصفيق يتمباليدين معا، ومن هنا تتّخذ الـيد مفهوما آخر اجتماعيا وأخلاقيّا يدخل في دائرة المبادئ والقيم الإنسانيّة، وهو مفهوم التّعاون، إذ لا بدّ من التّعاون بين النّاس حتّى يتم تحقيق العمل، وفي ذلك إحالة على أنّ الفرد وحده لا يمكن له أن يحقّق كلّ ما يريده، بل لا بدّ له من التّعاون مع بقيّة الأفراد من أجل المجموعة، وهو ما نجد له صدى في لسان العرب حيث أنّ من معاني اليد الجماعة وكأنّ اليد لا تكون واحدة أبدا بل هي مجموع الأصابع والكفّ فترمز إلى التصفيق والأكل والمنح والعطاء والنعم وهي أعمال اجتماعية جماعية حتى وإن تحققت بصورة فردية.
ولا ننسى أن اليد هي وسيلة للتواصل فهي لغة صامتة ولكنها معبّرة أكثر أحيانا من الكلام من خلال حركاتها وإيماءاتها تكاد تكون لغة عالمية أو إنسانية خاصة في تعبيرها عن المصافحة والتحية والترحيب وهي تعكس عادات الناس في التواصل وتبادل التحية بشدّ الكفّ على الكفّ. وتكتسب اليد أهميتها أيضا من خلال حركاتها وعلاقتها بالعبادة والتعبّد ومنها تستمدّ قوّتها وتتخذ بعدا قدسيا لقداسة العمل الذي تقوم به وتأتي حركة رفع اليدين إلى الأعلى للتعبير عن مخاطبة الإله ودعوته والتوسل إليه وتقترن في الصلاة بالتكبير وهو ما تضفيه حركة اليدين من خشوع وابتهال وتأتي منسجمة مع رغبة المصلّي أو المتعبّد في التقرّب إلى الله.
وتُخفض اليدان في حركة شبه منغلقة أو بين الانفتاح والانغلاق عند قراءة الفاتحة تلبية لرغبة الدعاء وكأنّ اليدين تستعدّان لملئهما بركة وإيمانا أو تنتظران أن تُملآ يقينا وخيرا ورحمة، ما يملأ القلب راحة وطمأنينة، وكأن المرء يحتاج ليديه وقد اعتاد أن يأخذ بهما ما يريده من أشياء حسية كي يتحصّل على ما هو روحي لا يمسك في الحقيقة باليد بل بالوجدان حتى وإن استعمل اليد في طلبه.
*المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|