شبان تونسيون يلوذون من كوابيس الحياة إلى ذكريات الزمن الجميل !!
11.12.2015
تزداد ضغوط الحياة على التونسيين مع زحمة المدينة المعاصرة الممتلئة بالضجيج والتلوث والعجلة، فاختار بعضهم سرقة بعض الوقت يقضيه في المدينة العتيقة حيث رائحة البخور والقهوة والمعمار القديم الذي يسرّ العين وموسيقى المالوف التي تطرب الأذن.
تونس - على وقع موسيقى المالوف وأنغام الطبوع التونسية التقى الشاب الشاذلي الخذيري ورفاقه تحت “قوس″ أحد أعرق مقاهي المدينة العتيقة في تونس العاصمة وأقدمها، أين جمعهم الشغف بالمقامات التونسية فاتخذوا من مقهى سوق “الشواشين” مقرا للقاءاتهم اليومية.
ويقول الشاذلي، طالب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، “المدينة العتيقة فرضت نفسها بكل مكوناتها، بمقاهيها وأسواقها ومعمارها ورائحتها الذكية الطيبة، لذلك تجد الشباب اليوم راغبا فيها وفي العودة إليها، والتعرف أكثر إلى جذوره وأصوله، والتشبث بها على الرغم من صغر سنهم”.
وحوْل فناجين الشاي الأخضر، التي فاحت منها رائحة النعناع، وعلى مقربة من آخر “وَجقْ” (وهو عبارَة عن موقد صغير جدا كان في القديم تغلى عليه القهوة وتقدّم للعاملين في السوق وللمارة من المتبضعين)، لاح صوت هالة، طالبة الفنون الجميلة العضو في كورال فرقة الشباب التونسي للمالوف، مرددة أغنية قديمة للفنان التونسي الشيخ العفريت.
تقول هالة “أميل لهذا المعمار التقليدي القديم الذي يميز مقاهي المدينة العتيقة.. فهنا تعود بنا الذكريات إلى الزمن الجميل، الذي لم نعشه ولكن الحنين إليه يسري في عروقنا.. هنا كل شيء تقليدي، الجلسة والموسيقى التي نسمعها والمشروبات كذلك، وهو ما يجعل المكان أكثر راحة وهدوءا بعيدا عن صخب المدن والحياة العصرية”.
ويحدثنا صاحب المقهى معز بو كراع قائلا “مقهى سوق الشواشين، هو الوحيد الذي أبقى على آخر وجقْ في المدينة العتيقة محافظة منه على تراث الأجداد، والمقهى لم يكن بالشكل الذي عليه اليوم، ولكن التطور الذي عرفته المدينة جعله يواكب متطلبات العصر ورغبات الحرفاء، وبالتالي فقد توسع على بهو كبير مطل على محلات الشواشين وعلى محلات الصائغية كذلك”.
من جانبه، يضيف المختص في التراث والتقاليد التونسية، عبدالستار عمامو، أن “هذا المقهى ارتبط بسوق الشواشين، ففي قديم الأزمان لم تكن هناك مقاه بالمعنى والشاكلة التي عليها مقاهي هذه الأيام، بل كانت القهوة والشاي يقدّمان إلى أصحاب الصنائع على غرار الشواشين والذهب والصوف وغيرها”.
ويشتمل الشواشين على ثلاثة أسواق هي “السوق الحفصي”، “السوق الصغير” و”السوق الكبير”، وتم بناء السوقين الأخيرين من قبل حمودة باشا الحسيني بين عامي 1782 و1814. والشواشين هي نسبة للشاشية (قبعة تقليدية) أتى بها إلى البلاد التونسية المهاجرون القادمون من الأندلس.
وليس ببعيد عن مقهى سوق الشواشين، وتحديدا في سوق “التُّرُك”، شيد مقهى “المْرابط”، على بعد أمتار قليلة من جامع الزيتونة المعمور، ولعَلّ ما يميّز هذا المقهى جلسته الخاصّة، ففيه يجتمع الرواد على حصائر حيكت من نبتة السمار، وحول مائدة خشبيّة صغيرة نقشت بزخارف تقليدية علَتْها فناجين القهوة العربية والشاي.
وبحسب عمامو “هذا المقهى موجود منذ أواخر القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، ولكنّه مع بداية القرن العشرين كان بمثابة المركز الثقافي الذي جمع مختلف عازفي ومغنيي المالوف التونسي، قبل تأسيس المدرسة الراشدية، وعلى رأسهم الفنان ذو الأصول الأندلسيّة خميس ترنان، الذي كان يقوم بفصل موسيقي كل مساء في هذا المقهى، وقد لعب بالتّالي دورا ثقافيا في تلك الحقبة، لا سيما في المحافظة على التراث الغنائي الأندلسي”.
ويستطيع زائر المدينة العتيقة في تونس، أيضا، بعد جولة من التبضّع أن يستريح قليلا، ويستظل بأغصان العنب المترامية على امتداد أحد أزقة المدينة العتيقة، وهو سوق الرّبَعْ، وبإمكانه أن يحتسي شيئا من عصير العنب، الذي لن يجده في أي مقهى بكامل تونس، على حدّ قول صاحب “مقهى العنبة”.
ويقع مقهى العنبة خلف جامع الزيتونة وعلى مقربة من سوق البركة (حيث يباع الذّهب) ويغص بالحرفيين، ولكن الملفت للانتباه أن أغلبهم كانوا من الشباب.
الطالب حسام بشير ذو الـ20 سنة، وهو أحد هؤلاء، يقول “تجمعني بهذا المقهى ذكريات عديدة، فأنا وفيّ له، أرتاده منذ 7 سنوات، حينها كنت أدرس في المعهد الصادقي، بالنسبة إليّ “العنبة” لها طابعها الخاص لما تقدمه من مشروبات لها مذاق خاص يميزها عن غيرها”.
ويضيف بشير “نحن الشباب نريد أن نخرج من الروتين اليومي الممل، ونرغب في العودة إلى أصولنا الحضارية والثقافية.. هنا نشعر فعلا بتاريخ بلادنا”.
أما الطالبة آمنة التي تزور المقهى للمرة الأولى، ورغم تعوّدها على ارتياد المقاهي العصرية، فقد عبّرت عن انبهارها بهذا المقهى وبرائحة المدينة العتيقة وجمالها.
وقالت “المقاهي العادية أصبحت مملة وروتينية، فرغم أنها مجهزّة بكافة الوسائل التكنولوجية الحديثة على غرار الإنترنت، وعلى الرّغم من توفر كل شيء فيها، إلا أن ذلك يخلق قطيعة بين الجالسين فيها، فكل شخص ينغلق على عالمه الافتراضي الخاص به، ويفقد التواصل مع رفاقه في حين أن هذه المقاهي القديمة تبعده عن كل ما هو افتراضي وتجعله في تواصل مستمر مع الآخر”.
ويقول محمّد المزوغي، صاحب مقهى العنبة، “هو من أقدم المقاهي في تونس ويعود إلى 1890، وهو كذلك برائحة المدينة العربية، وأردنا من خلاله أن نحافظ على روح المدينة، بنفس الطابع وبنفس البناء والمعمار دون تغيير، وأي بناء دخيل على هذه الصبغة يزعجنا نحن أصحاب السّوق.. وهو ما يجعل لهذا المقهى سحرا يجذب الحريف إليه ويحاكي تاريخه”.
ويعتبر عمامو أنّ “مقهى العنبة يعدّ اكتشافا شبابيّا طريفا، وباعتباره واقعا في قلب المدينة إلا أنه لم يكن معروفا لغير أصحاب الحرف في السوق، ولكن قبل سنوات قليلة اكتشفه بعض الشباب وأصبح يقبل عليه لتنتقل العدوى في ما بعد إلى غيرهم من أصحاب جيلهم، وبالتالي فقد أسدى هؤلاء الشباب خدمة كبيرة للثقافة في تونس بإحيائهم لهذه المعالم القديمة”.
ووفق عمامو “فإن أحد الأسباب التي جعلت الشباب يقبل اليوم على معالم المدينة العتيقة ومنها المقاهي، مهرجان المدينة، الذي كانت غايته منذ تأسيسه في الثمانينات إعادة الشباب إلى مدينة تونس، وحينها بدأ الشّباب باكتشاف هذه المقاهي، وخلقت لديهم عادة ارتيادها والالتقاء فيها، فهم يأتونها من كل مكان من أحياء المدينة ومن خارجها”.
www.deyaralnagab.com
|