فحم الفواكه.. صناعة العسل المر في مصر !!
07.04.2015
صناعة الفحم في مصر صامدة رغم قِدمها وتدر أرباحا أكبر من المهن الأخرى، إذ توجد حوالي 2200 مكمورة فحم في أماكن مختلفة من المحافظات المصرية
رغم كلّ الشعارات التي تتردّد عن حماية البيئة في الوسط الحضري، فإنّ حِرفا وصناعات ملوِّثة عديدة في مصر لا تزال تجد لها مكانا في قلب التجمّعات السكانيّة، ومن بينها صناعة الفحم، فهي لئن كانت تدرّ أموالا وافرة نسبيّا على أصحابها، فإنّ لها تأثيرات سلبية خطيرة على العاملين فيها وأسرهم والوسط المحيط بها..
لا تزال صناعة الفحم في مصر صامدة رغم قِدمها، إذ توجد حوالي 2200 مكمورة فحم في أماكن مختلفة من المحافظات المصرية، يشتغل بين أكوامها نحو مليوني عامل، غير أنّ بعض القرى تشكو أكثر من غيرها من هذه الآفة البيئيّة المربحة ماليا.
يفيد محمد حسن، أحد ملّاك مكامير الفحم، أنّ قرية أجهور الكبرى، الواقعة بمركز طوخ من محافظة القليوبية في دلتا النيل شمال مصر، توجد بها لوحدها 220 مكمورة لإنتاج الفحم.
وعند المرور بجوار أيّ مكمورة فحم، ينتاب الشخص غير المتعوّد على استنشاق مثل تلك الغازات شعور بالمأساة الصحيّة التي يعانيها الممتهنون لتلك الحرفة، لا سيما أنّهم يمضون أكثر من 10 ساعات يوميا وسط تلك الغازات، حتى صارت جزءا من حياتهم اليومية لإنتاج الفحم النباتي أو ما يعرف باسم فحم المكمورة.
ويرى أصحاب المهنة أنّ المكاسب التي يجنيها العاملون بها هي التي تجعلهم يتعايشون معها، فهم يتقاضون أجرا يوميا يقدر بـ70 جنيها (9 دولار تقريبا)، وهو أجر مرتفع مقارنة بمعظم الحرف الأخرى، إضافة إلى الأرباح الكبيرة التي يجنيها أصحاب المكامير من تصدير إنتاجها للخارج.
والمكمورة، هي مكان لتجميع أخشاب الأشجار من مخلفات الأراضي الزراعية التي تشتهر بها مصر، ثم يتولّى العمّال تقطيعها وتخزينها حتى تجفّ لفترة تتراوح بين ستة أشهر وعام حسب نوعية الأشجار وأعمارها. وبعد ذلك يمرّون إلى المرحلة الثانية، وهي الكبس بوضع طبقات من قش الأرز فوق الأخشاب، ثمّ تُغطّى بطبقة من الرماد، قبل أن يُشعِل العمّال في المرحلة اللاحقة النيران فيها ببطء، لينتج عنها ما يعرف بـ”فحم الفواكه”.
يقوم العاملون، بعد هذه الخطوة، بتبريد الفحم من خلال رشّ المياه وتركه لمدة 4 أيام، ومن ثمّ غربلته للتخلّص من أي شوائب عالقة به، وأخيرا تتولّى عاملات من النساء تغليفه ليصبح جاهزا للاستخدام المحلي والتصدير.
توارثت الأجيال هذه الحرفة باعتماد المراحل تلك دون أن تتغيّر منذ مئات السنين، ولا يخفي ملاك المكامير والمشتغلون بها ضيقهم الشديد من مدى بدائية مهنتهم رغم أهميتها، وهو ما يجعلهم في صدام دائم مع البيئة والمجتمع المحيط بهم.
يقول حسن “نناشد القائمين على وزارتي الصناعة وشؤون البيئة وكافة الوزارات المعنية بالأمر، أن يساعدوا القائمين على هذه الصناعة لتطوير وسائلها وأدواتها وجعلها صناعة صديقة للبيئة، بما يحمي العاملين بها والمجتمع المحيط بهم من أيّ أضرار”.
يُذكر أنّ أصحاب المكامير كانوا قد تلقّوا، خلال السنوات الماضية، وعودا من وزارة البيئة بتقديم دعم فني وآليات تمويل لمساعدة هذه الصناعة على استخدام مكامير متطوّرة تلتزم بالضوابط والمعايير البيئية الموجودة في القانون ومساعدتها على استخدام تكنولوجيا أكثر توافقا مع البيئة، غير أنّ انتظار تنفيذ الوعود لا يزال سيّد الموقف.
بدائية هذه الصناعة تسبّبت في خلافات دائمة بين أصحابها والمجتمع المحيط بهم، وتظاهر المئات من سكان قرى مركز طوخ بمحافظة القليوبية، أكثر من مرة، لمطالبة المسؤولين بإزالة مكامير الفحم الموجودة بالمحافظة، ورفعوا لافتات “أطفال إسرائيل مش أهمّ من أطفالنا”، في إشارة مباشرة إلى كون مكامير الفحم تعرّض حياة أطفالهم للخطر، والمستفيد من ذلك إسرائيل باعتبارها من الدول المستوردة لفحم الفواكه.
ويُصدّر فحم الفواكه، المنتج في مصر، بالكامل إلى الخارج، وذلك بنسبة 70 ٪ للدول العربية والباقي يُصدّر لدول أوروبا وآسيا.
ويوضح محمد حسن أنّ “مكمورة الفحم الواحدة تنتج 10 أطنان يوميا من فحم الفواكه، وتستوعب مقطورة النقل الواحدة المخصّصة للتصدير للدول العربية 25 طنا، بينما تستوعب نظيرتها الموجهة إلى أوروبا 15 طنا”.
هذا الإقبال الكبير على استيراد فحم الفواكه من مصر له ما يبرّره، فلهذا الفحم ميزة مهمّة، يذكرها حسن، وهي قدرته الفائقة على الاشتعال وعدم الانطفاء بسهولة، لذلك تُقبل المطاعم على شرائه بكثافة، وخاصة منها الموجودة في أماكن تعاني من نقص العوامل الهوائية التي تساعد على اشتعال النار.
يصفُ حسن أهميّة هذه الصناعة التي أبقت الطلب على فحم الفواكه المصري، قائلا “لا يتوقّف إنتاجنا اليومي على مدار العام، لا في العطلات الرسمية ولا حتى بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة بعد ثورة 25 يناير والتي أثرت بشدة على كثير من الصناعات المصرية الأخرى”.
وبحسب إحصائيات رسمية، تصدّر مصر بقيمة 11 مليون دولار فحم نباتي إلى دول العالم المختلفة، غير أنّ تلك الأرباح المادية تُقابلها أخطار صحية يواجهها العاملون في مكامير الفحم والمناطق المحيطة بها.
وسبق لوزارة البيئة المصرية أن أجرت دراسة عام 2001 حول الغازات المنبعثة من مكامير الفحم، فتوصلت إلى أنّها تؤدّي إلى انبعاث غازات أوّل وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين بنسب أكبر من المعدّلات الآمنة.
وبحسب دراسات طبية، فإنّ غاز “أول أكسيد الكربون” له قدرة على الاتحاد مع الهيموجلوبين 200 مرة أكثر من الأكسيجين، وبالتالي فإنه يؤدي إلى التسمّم الحاد والصداع والدوخة والغثيان والفشل التنفسي. وفي حال ارتفاع تركيز الغاز واستمرار تعرّض الجسم له، فإنه يؤدي إلى عوارض مزمنة: مثل ضعف الذاكرة، ونقص الإنتاجية في العمل، واضطرابات في النوم والسلوك، وارتفاع في مستوى الكولسترول.
كما أنّ للغازات الأخرى المنبعثة من تلك المكامير أضرارا معلومة، لدى المختصّين، وقد تمرّ من مجرّد الصداع إلى الالتهابات والأمراض التنفسيّة المزمنة، وقد تؤدي في حالات عدّة إلى سرعة فقدان الوعي ثمّ الوفاة.
يعايش مليونا عامل مصري تلك الأخطار يوميا، وتمتدّ أخطار المكامير إلى المحيطين بها، فقد تقود في النهاية إلى موت بطيء، رغم مكسبها السريع والوافر.
www.deyaralnagab.com
|