مدينة تيشيت الموريتانية: تقاوم الشيخوخة وتقهر الطبيعة!!
26.10.2014
كتب عبد الله مولود..تيشيت (شمال شرق موريتانيا)-»القدس العربي»- قبل ان نغادر نحو تيشيت من مدينة تجكجة الموريتانية الأصيلة وهي عاصمة الولاية التي تتبع لها تيشيت، حذرنا السائقون من وعورة الأرض: «أمسكوا أنفسكم وشدوا الأحزمة واصبروا..ستقطعون مسافة 250 ميلا لكنها تعب وإرهاق، مثل ألفي ميل».
غير أني لم أشعر بأي تعب ولا بأي ضيق، فنسائم الشوق إلى تيشيت كانت تجذبني وتشغلني عن قفز سيارة لاندكروزر عابرة الصحراء التي كانت تمخر بنا عباب الرمال بين جبال وسباسب تغانت المشهورة بوعورتها.
كانت ألسنة كثبان الرمل تتلوى كالأفاعي من حولنا، وكانت تمسح بتحولها السيزيفي، آثار سيارتنا حتى ان أهل السيارة التي خلفنا لا يرون آثار دواليب سيارتنا. لقد طمسها الرمل المجنون المتحول مع ثواني الزمن دون وقوف.
تجوال في التاريخ
قطعنا مرتفعات جبلية ومنحدرات ذات منظر أخاذ، واجتزنا تلالا من الرمل الأحمر الناعم وواحات نخيل زاهية، قبل ان تتراءى لنا منارة جامع تيشيت المنتصب منذ تسعة قرون عندما ألقى الشريف عبد المؤمن في أربعينيات القرن السادس عصا ترحاله في هذه البقعة ليؤسس مدينة يقرأ اسمها «تيشيت» من الاتجاهين، ثم كان ان بدأت المدينة رحلة التشكل عبر التاريخ، لتصبح في ظرف وجيز حاضرة للعلم والتجارة، ومحطة للقوافل في ساحل إفريقيا.
وبحكم حرارة الجو وضيق البرنامج الخاص بنا فلم أتمكن من التمتع بكل شيء في تيشيت الحضارة وتيشيت التاريخ، فلي في كل شيء فيها ألف متعة ولي إلى كل حبة رمل فيها ألف شوق. كنت مشوقا إلى سكانها الذين، على خطى أجدادهم، قهروا الطبيعة وسخروا التصحر وواجهوا حرارة الجو.. كنت مغرما بطرقاتها التي تحكي تاريخا طويلا، طرقات كانت القوافل التي تحمل الكتب والملح والعطور تتخذها قبل قرون ولعدة قرون، مبارك لجمالها عبر طريق القوافل المنطلق في رحلة الشتاء والصيف، من ولاته إلى تمبكتو إلى توات إلى فزان إلى الاسكندرية وغيرها.
كنت أشم تراب تيشيت، وألثم حجارتها التي كانت تخاطبني وترد على أسئلتي الحائرة قائلة: «نحن هنا وسنظل هنا رغم ان الكل نسينا ورغم ان الكثبان الرملية تحاول ان تدفننا أحياء».
كنت أريد ان أحبس الزمان حتى لا يدور، لأتمكن من الاقتراب من مئذنة تيشيت التي كنت وأنا في الإبتدائية أسمع عن قداستها وعن ارتقائها بجيدها الطويل نحو البيت المعمور.
تجولت في طرقات تيشيت سريعا وسجدت أمام مئذتها الربانية التي تشق السماء بعزة قعساء وبإباء وشموخ..وتجولت قليلا بين مكتبات تضم آلاف المخطوطات التي سهر على نقلها علماء كانوا يستضيئون في ليالي التحصيل بنار موقدة بحطب الطلح العريق.
لا شك ان المتجول بين أحياء المدينة يشعر أنه يتجول في التاريخ والمعرفة، وفي عمق حياة الموريتانيين عبر القرون الماضية، تعزز ذلك مطالعة في صفحات تاريخ الشخصيات العلمية التي مرت بها وتلك التي أسستها وعملت بها لقرون.
التأسيس وأصل التسمية
تؤكد المصادر التاريخية ان تيشيت تأسست سنة 536 هـ /1142 م..وكانت من أول يوم حاضرة علم ومعرفة منذ ان أسسها الشريف عبد المؤمن وهو سفير من سفراء العلم والدين في الصحراء الكبرى. وقد أخذ عن القاضي عياض السبتي (ت544/1194م) وحمل علمه من المغرب إلى شنقيط فأسس هذه الحاضرة العريقة وعاش فيها ونشر العلم والمعرفة في ربوعها، ودفن بجانب جامعها العتيق.
وتقول الروايات الشعبية المتداولة في تيشيت ان الشريف عبد المؤمن مؤسس تيشيت مر في إحدى رحلاته بالموقع الذي تأسست عليه تشيت فرأى واحة جميلة تطل عليها جبال يتدفق منها الماء العذب فأعجبته هذه الأرض وقال : «تي شئت» أي «هذه هي التي اخترت» فسارت هذه العبارة اسما علما على القرية التي أسسها الشريف عبد المومن واستقر بها.
إبداع عمراني
تشتهر تيشيت بمسجدها العتيق ومنارته الشهيرة التي يبلغ ارتفاعها 16م، كما تشتهر بعمارتها ذات الطابع العربي الإسلامي المتميز.
وجامع تيشيت تحفة فنية فريدة، فعندما تدخل من الباب الضيق للمبنى، يلقاك بهو فسيح يقع وسطه المسجد وعلى أطرافه مجموعة من البيوت الخاصة بالقائمين على المسجد.
وتحيط بالمسجد عدة مكتبات تحتوي آلاف المخطوطات، لكن الإهمال وعاديات الزمن قد جعل الكثير منها يتلف وسط الصناديق التي خصصت لحفظه.
تظهر منارة ومسجد تيشيت روعة ما أبدعه المهندسون في تيشيت فقداستطاع المهندسون المعماريون ان يقوموا بتخطيط جميل للمباني، فهناك عمارات من طابقين أو ثلاثة ومصارف للمياه المصممة مع مراعاة الظروف الأمنية حيث كانت البلاد سائبة تكثر فيها عمليات السطو والغارات، فخصص في العمارة طابق أرضي يصعب على من لا يعرف المنزل ان يعثر عليه، وهو مكان لتخزين المؤن أيضا.
يدل النمط العمراني التيشيتي على كفاءة وخبرة المهندس المعماري في تيشيت، الذي استطاع توحيد النمط المعماري للمدينة.
وردت تيشيت في بعض الخرائط القديمة وضبط اسمها بالسين المهملة «تيسيت» فهل هذا هو أصل التسمية ثم أعجمت الشين مع التكرار على الألسن عبر الزمن. وكان فرنانديس البرتغالي أول أوروبي ذكر تيشيت فقد تحدث عنها في رحلته عامي 1506/1507م ..لكن هذه الحاضرة نكرة شبه مجهولة عند المؤرخين العرب، وحسبك، يقول المؤرخ خليل النحوي «ان مؤرخا معاصرا في المغرب العربي ذكرها وقال انها اسم قبيلة وليس الأمر كذلك وإنما هي مدينة.
وكان العالم الفرنسي المعروف تيودور مونو قد زار «تيشيت» بداية القرن الماضي، وقال انها «مليئة بدواعي الاهتمام ويتمنى المرء ان يمكث فيها، ويشاهد أكثر مما يشاهده المسافر المستعجل».
مقاومة وحفاظ على الهوية
لأهمية تيشيت ومكانتها العلمية والحضارية فقد أدرجتها منظمة اليونسكو عام 1977 ضمن التراث الإنساني.
ويؤكد أحفاد مؤسسي تيشيت الأوائل «ان تيشيت المدينة قاومت المستعمر الفرنسي في أوائل القرن العشرين مقاومة ثقافية هامة، ولم تفلح كل محاولات المستعمر، رغم تحويله المدينة في عام 1932م إلى ثكنة عسكرية، في طمس هويتها الثقافية والدينية بل ان تيشيت حافظت على هوية الشعب الموريتاني كله بصمودها وبتراثها العريق وبرجالها الأفذاذ».
تميزت مدينة تيشيت منذ تأسيسها بموقعها الاستراتيجي حيث كانت مركز عبور رئيسي للقوافل التجارية، وملتقى للطرق الرابطة بين المغرب الأقصى وتيرس وآدرار شمالا وبين الحوضين ومالي والنيجر شرقا، مما جعلها مدينة تجارية رائدة تتنوع فيها البضائع والسلع من مختلف البلدان ومنارة علمية تهوي إليها العقول.
وكان لموقع المدينة بين مملحة «الجل» ومنحنى نهر النيجر دور كبير في جعلها محطة رئيسية للقوافل التجارية بين شمال الصحراء وجنوبها، ويذكر المؤرخون ان قافلة من 32 ألف جمل قد انطلقت من تيشيت ذات يوم.
نعم..انها مدينة تيشيت التاريخية الموريتانية التي وصفها المؤرخ الموريتاني الأستاذ خليل النحوي في كتابه «بلاد المنارة والرباط» بأنها «إحدى المدن الشواهد التي شاخت وما تزال حية تغالب عوادي الزمن وعوامل الاندثار».
فبعد ان كانت عاصمة علمية وتجارية لغرب إفريقيا لقرون طويلة تحولت أخيرا إلى مدينة أثرية مهجورة إلا من عدد قليل من السكان، والقائمين على المكتبات التي لا تزال مخطوطة تحت رحمة عاديات الزمن.
سكان قهروا الطبيعة
ما زالت مدينة تيشيت هي نفسها منذ أسسها الشريف عبد المؤمن بشوارعها الجميلة التي يحكي كل واحد منها قصة تمتد لمئات السنين. ورغم قساوة الطبيعة والعزلة التامة ظلت المدينة صامدة صمود سكانها الذين قهرورا الطبيعة ووحدوا بين كثبانها الرملية وجبالها وكهوفها، فنحتوا من الجبال الحجارة للبناء واستغلوا البطاح لاستخراج الملح وتسويقه عبر قوافل تجوب إفريقيا وأصقاع البلاد الفسيحة.
فكل ما في المدينة العريقة له تاريخه الممتد على مئات السنين، والذي يبدو أنه لم يعد يقوى على المقاومة في ظل الهجرة المفتوحة وتوق الكثير من ساكنة المدينة نتيجة قساوة الطبيعة ومتطلبات الحياة الخروج من هذه العزلة والبحث عن متسع في العاصمة وفي المدن الآهلة الأخرى، فانهارت بسبب الهجرة الريفية مبان كبيرة كانت شاهدة على فترة ناصعة من تاريح الحضارة العربية والإسلامية في هذا المنكب البرزخي.
علماء وطلاب علم
انجبت تيشتيت علماء كثرا من أبرزهم الفرقدان المشهوران عربيا وإسلاميا، محمد الصغير وأخو عبيدة. وهي اليوم هي أوفر المدن الشنقيطية القديمة نصيبا من المخطوطات، حيث تتوفر على ما يفوق 7000 مخطوط.
وتحوي بعض المكتبات ما يزيد على ثلاثة آلاف مخطوطة كما تضم كنوزا علمية مختلفة ونادرة. وقد عرف التيشيتيون باقتناء الكتب بأغلى الأثمان لتوفيرها لطلاب العلم حتى انه قلما تجد بيتا إلا وفيه مكتبة، ويشد الكثير من الباحثين وطلاب العلم كل يوم رحالهم إليها لينهلوا من معارفها.
وعرفت مدينة تيشيت بمكتباتها الغنية بأمهات الكتب ونوادر المخطوطات في مختلف العلوم الإسلامية والعربية التي تجمعت عبر القوافل التجارية وعبر رحلات المؤلفين العلمية والدينية لأداء فريضة الحج أو البحث، مرورا بالحواضر العربية والإسلامية العريقة.
نظام اجتماعي واقتصادي محكم
وعن النظام الاجتماعي القديم لسكان تيشيت يقول الشيخ محمد المختار ولد امباله، وهو من علماء المنطقة، في عرض تعريفي ألقاه في ندوة عام 2012 حول مدن موريتانيا التاريخية «..كان لسكان تيشيت نظام يلائم حياتهم المدنية داخل مجتمع بدوي تسود فيه الفوضى، وتغيب السلطة، فحافظوا بذلك على كيانهم الحضري ودافعوا به عن مصالحهم الدينية والدنيوية».
ويضيف «كانت في تيشيت إلى وقت قريب جدا، وظائف دينية ثابتة بمثابة الخطط الشرعية عندهم، وهي إمامة المسجد، وقراءة الحزب، وقراءة صحيح البخاري، وقراءة الشفاء للقاضي عياض، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، وإيقاد قنديل المسجد، وكانت هذه الوظائف مقسمة بين أسر معينة تتوارثها لا يتولاها إلا واحد منها».
«وفي الناحية الإقتصادية، يضيف الباحث، كان التيشيتيون، منظمين أيضا، فكانت القوافل منظمة ولكل قافلة رئيس، والطرق التي تمر بها مؤمنة باتفاقيات تبرم مع من له سيطرة على الممرات التي تمر معها، وما تبذله من مال في الدفاع عنها وتأمين مصالحها مقنن توزيعه بفتاوى شرعية صادرة عن فقهاء هذه المدن، وزمن سفرها شمالا وجنوبا معروف ومضبوط لا يتخلف».
ان لمدينة تيشيت أعرق مدن موريتانيا التاريخية وأكثرها تراثا، شأنا خاصا من حيث الزمان كما من حيث المكان. وتيشيت، التي بكى شعراء موريتانيا في قصائدهم حالها اليوم وأسفوا على إهمالها، ستبقى شامخة رافعة رأسها لأعلى الأعالي.
تيشيت مدينة شاخت لكنها حية تغالب عوادي الزمن وتكافح عوامل الاندثار وتقاوم معاول الإهمال والنسيان.
*المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|