"بوطبيلة” في تونس.. يتحدى الزمن رغم تطور نسق الحياة!!
21.07.2014
تونس ـ يسرى وناس ـ خال كثيرون أن المسحراتي أو ما يعرف في تونس بـ”بوطبيلة” مهنة بدأت بالتلاشي والاندثار شيئا فشيئا مع تطور نسق الحياة وسرعتها واعتماد وسائل أخرى بديلة عنه.لكن في رحلة بحث مراسل الأناضول عن آخر ما تبقى من “المسحراتية” في تونس، عثر على هذا الرجل الذي ارتدى زيا تقليديا تونسيا وحمل طبلة بيديه وانطلق ليطوف الشوارع والأزقة في هذه المدينة الصغيرة “سيدي بوعلي” الواقعة في محافظة سوسة شرقي تونس.
سويعات قليلة تفصل على موعد آذان الفجر في تونس وفي إحدى ليالي رمضان الصيفية، تخلى هذا الرجل عن النوم واختار التجول بين هذه الأنهج والشوارع في ساعة متأخرة من الليل ليوقظ الصائمين ويذكرهم بموعد السحور.“خليفة البقلوطي” صاحب الستين ربيعا تحدى الزمن وسرعته وتطوره وأبى أن يتخلى عن هذه المهنة التي تمثل بالنسبة إليه رمزا أكثر من كونه مورد رزق يقتات منه.
هذا الرجل المسكون بحب العادات والتراث التونسي، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة تؤدي معان كبيرة، تكبد عناء السهر ومشقة المشي لمسافات من حي سكني إلى آخر، مصدرا إيقاعات من طبله الذي رافقه لأكثرمن 17 سنة.ويقول “خليفة” لمراسل الأناضول إنه “يتشبث بهذه المهنة ولن يتركها الى الممات، باعتبارها عادة الأجداد ولما يكن لها من عشق خاص.”
أما “بديع عبد الحميد” الذي التقته الأناضول وهو بصدد النقر على طبلة في إحدى الأحياء الصغيرة لمدينة سيدي بوعلي وعلى الرغم من صغر سنه مقارنة ب”خليفة” فهو لا يزال في ريعان شبابه، فإنه اعتبر “أن هذه المهنة تعني له الكثير لما تعكسه من ذاكرة اجتماعية وتراث يأبى أن يتخلى عنه رغم تطور نسق الحياة اليومية.”
وقد عبر للأناضول عن ضرورة المحافظة على مثل هذه العادات العريقة التي من شأنها أن تزيد التونسيين معرفة بتاريخهم وصلة أكبر بعاداتهم وتقاليدهم. وكان “بوطبيلة” سابقا يقف أمام الديار مناديا أهاليها بأسمائهم “انهضوا للسحور”، “حان وقت السحور”، لكن هذه العادة بدأت بالتقلص شيئا فشيئا.ثلاثون يوما بالتمام والكمال يؤدي فيها بوطبيلة دوره في تذكير الناس بموعد تناول وجبة السحور، مهنة قد لا تحتاج لمؤهلات كبيرة لكنها في المقابل تتطلب صبرا طويلا ورغبة اكبر في المحافظة على التراث وعلى العادات التونسية الأصيلة.عبد الستار عمامو، المؤرخ التونسي والباحث في التراث، قال للأناضول إن “مهنة بوطبيلة تعود إلى العصر الأغلبي (800- 909م)، وقد أخذها الأغالبة بدورهم عن الدولة العباسية”.
وأضاف عمامو أن “مسحراتي تونس هو شخص من ساكني ذاك الحي يتم اختياره من ضعاف الحال حتى يستغل فرصة هذا الشهر الكريم ليجمع قسطا بسيطا من المال”.“وقد جرت العادة أن يكون شخصا عارفا بالساكنين حتى يقف ساعة قبل الامساك يوميا مناديا بأسمائهم ليوقظهم للسحور”، بحسب عمامو.
وأردف المؤرخ التونسي قائلا: “من العادات الأخرى التي كانت مصاحبة لهذه الظاهرة الاجتماعية هو أنه ليلة 27 من شهر رمضان يجوب بوطبيلة الحي ساعة بعد الإفطار ويقف أمام كل منزل ويسمي اسماء الابناء الذكور فيها، فيخرج الصغار ليقدموا له شيئا من الحلويات وقليلا من المساعدات المالية، والغاية من ذلك تعليم الأطفال الصغار قيمة الصدقة والزكاة ومساعدة الفقراء”.
وبحسب عبد الستار عمامو فإنه “لهذه المهنة رمزية إجتماعية بالأساس تكمن في قدرته على التواصل مع المواطنين، لكن روح التواصل تلاشت نظرا للتطور الطبيعي للمجتمع، إضافة إلى ذلك فهناك حلقات فقدت بتطور الزمن ومنه ما كان يعتبر رمزية دينية تتمثل في الثواب الذي يربحه المسحراتي عندما يوقظ الناس للسحور والصلاة.”
وقال عمامو إن “هذه العادة تشهد اضمحلالا يوما بعد آخر لأنه لم يعد لها موجب باعتبار وسائل التكنولوجيا المعتمدة والمتطورة، وحتى وجوده في بعض القرى والمدن فإنه من باب إحياء التراث والفلكلور الشعبي لا غير.”ويبقى شهر رمضان في المخيال الجماعي للتونسيين ذلك الضيف خفيف الظل الذي يطل عليهم سنويا بعادات وتقاليد أبى الزمن أن يمحوها من ذاكرة التونسيين الجماعية إلى جانب ما يميزه من جانب روحاني، ومن بين ما رسخ في ذاكرة التونسيين هذه المهنة العريقة، فقد لا يحتاج الصائمون في الأيام الحالية إلى خدمات المسحراتي نظرا للتطور التكنولوجي الذي يشهده العصر لكن مجرد وجوده كعادة وظاهرة اجتماعية من شأنه أن يضفي طابعا خاصا على هذا الشهر المعظم.
www.deyaralnagab.com
|