logo
رحيل الموسيقار المناضل العالمي ميكيس تيودراكيس!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 06.01.2018

رحل اليوم الموسيقار اليوناني الكبير المناضل ميكيس تيودراكيس عن عمر ناهز الثانية والتسعين.
في عام 2005 في 10 من شهر آب وصلت إلى مطار أثينا مدعوا للمشاركة في احتفالية تكريم الموسيقار العالمي صديق الشعب الفلسطيني بمناسبة بلوغه عامه الثمانين. في المطار التقيت ببعض الأخوة الذين بعد العناق اقتادوني مباشرة إلى الطائرة المتجهة إلى كريت، وقد ودعوني وأوصوني بالعناية بنفسي، وأثنوا علي وأنا في حالة ذهول لأنهم وعدوني بالتوجه معا إلى كريت..ولكنني فهمت أن هناك شيئا ما دفعهم للاحجام عن ما وعدوا به.
في مطار كريت تأملت ما هو مكتوب على قطع كرتون باللغة اليونانية، وعندما لم يبق غيري وغير رجل وامرأة يرفعان قطعة كرتون عليها كلام قدّرت انه اسمي..تقدمت منهما ووضعت يدي على صدري ففهما أنه ( أنا) من حضرا لاستقباله!
في الطريق كانا يتحدثان معا، بينما أنا أتأمل المشاهد المتتالية، وقد أبهجني مشهد البحر الذي أطللت عليه من الطريق الوعر الذي يتلوى على سفح الجبل.
هناك مدينة تستلقي على الشاطئ..جميلة..وادعة، أنيقة البيوت.
قالت السيدة وهي تشير للبيوت:
- خاينا.
هززت راسي، وأنا مندهش من اسم المدينة .
توقفت السيارة أمام فندق صغير أنيق، فتبعت السيدة والرجل وحملت حقيبتي، واندفعت خلفهما.
وقفا أمام الاستعلامات. طلبا جواز سفري. سجل الموظف المعلومات، ثم أعاد الجواز. صعدت إلى الغرفة، وتأملتها. لم أر البحر بسبب الأبنية.
هبطت بالمصعد، ومضيت إلى سوق شعبي قبالة الفندق، غني بالبضائع المتنوعة، فاشتريت ما أحتاج ثم عدت إلى الفندق.
التلفزيون لا يبث سوى قنوات يونانية..وأنا وحيد، ومن استقبلاني مضيا دون أن يعداني بشيء!
قضيت في كريت أربعة أيام حضرت فيها كل الفعاليات التكريمية للموسيقار الكبير تيودراكيس، وحظيت بالاهتمام كوني فلسطينيا، فأهل كريت يعتبروننا أقارب وجيرانا، وهم يتعاطفون إلى حد كبير مع كفاح شعب فلسطين.
عدت اليوم وبحثت عن مقالة كتبتها..وها أنا أعيد نشرها وفاءً لفنان عالمي مناضل كبير محب للبشرية، كاره للظلم..صديق وفي لشعب فلسطين العربي المقاوم.
تنويه: مدينة (خاينا) اسمها بالعربية ( هاينا)، وقد عرفت أن اسمها عربي، وأنها كانت ميناء للبحارة العرب الذين كانوا يرددون وهم يقتربون: هانت..ولأنه لا حرف ( خاء) في اللغة اليونانية فقد لفظها اليونانيون الكريتيون ( هاء)...
6 يناير 2018
*أربعة أيّام في كريت !!
رشاد أبوشاور
بعد ثلاثة وعشرين عاماً عدت إلي كريت، الجزيرة اليونانيّة العريقة الحضارة، والتي هي جارتنا علي المتوسّط، ويتداخل تاريخها وجغرافيتها بتاريخنا وجغرّافيتنا.
لم أزرها طوعاً قبل ثلاثة وعشرين عاماً، برغبة سياحيّة يدفعني إليها فضول حب الاطّلاع علي أرض، وأساطير، وعادات، لجيران طالما نشأت بيننا وبينهم نحن العرب واليونان بعّامة، لا جزرها حسب صلات تجاريّة، وثقافيّة، وحضاريّة حميمة...
زرتها علي متن واحدة من السفن_ سولفرين_ اليونانيّة القبرصية التي حملتنا كرهاً بعد حرب طالت عام 82 لم تهّب فيها جيوش دول العرب لنجدتنا، نحن العرب اللبنانيين والفلسطينيين، مّما أدّي إلي إبرام اتفاقيّة رحيلنا، أو ترحيلنا، حتي لاتتدمّر بيروت العريقة علي رؤوس أهلها الشجعان.
لا، لم تكن زيارة، ولكنها مجرّد مرور عابر حزين بجوار شواطئها، ورسو السفينة للتموّن بالزاد لألف ومئة فلسطيني، وملء الخزانات بالوقود الكافي لاستئناف الرحلة إلي ميناء (بنزرت) التونسي...
لنقل إنني عدت إلي (كريت)، وهذه العودة تختلف، فأنا هنا ضيف باسم فلسطين، وفدت لقول كلمة بمناسبة تكريم موسيقار اليونان الكريتي العالمي ميكيس ثيودراكيس، وبلوغه الثمانين.
مثل غيري سمعت موسيقي (زوربا)، وانشرحت نفسي برقص (أنطوني كوين) الذي بدا كريتيّاً قحّاً، إبناً للطبيعة والبساطة، وصاحب فلسفة تنبع من سعة ورحابة أفق الإنسان المدرك لجوهر رحلة الإنسان، ومروره الخاطف في هذه الحياة الدنيا.
كازانتزاكي الروائي اليوناني العملاّق أبدع (زوربا اليوناني)، وثيودراكيس حوّل الكلام والمشاهد إلي رقصة ل(زوربا) في الفيلم الشهير، ثمّ حولها إلى (أوبرا) و(باليه (وبالموسيقي ملأ فضاء العالم بروح اليونان عبر جسد (زوربا) البدائي العفوي...
منذ سنين بعيدة تابعت نضالات ثيودراكيس، نزوله إلي الشارع في مقدمة الجماهير اليونانية التي تصدّت لحكم الكولونيلات الانقلابيين المستبدين، وتعرّضه لمحاولة القتل، حتى إن القتلة المأجورين اعتدوا عليه في الشارع وهشّموا رأسه. آنذاك رأي العالم جسد ثيودراكيس ممدّداً علي الرصيف، ثمّ تابع نهوضه واستئنافه قيادة التظاهرات، وتعرّضه للسجن، ومن ثمّ الهجرة من وطنه، والانخراط في العمل السياسي اليومي رغم بعده عن وطنه، إلي أن سقط نظام الكولونيلات، وعادت اليونان حرّة...
تأملت جبال كريت التي تبدو بركانيّة وحشيّة، وغاباتها الخضراء المبهجة، وبحرها الشديد الزرقة والبهاء، ووصلت مدينة (هاينا) مساء 28 تمّوز، بعد رحلة قصيرة من مطار (أثينا) حيث استقبلني الأخوان (أبو الفهد) و(صبري).
كريت تحتفي بابنها بحضور ضيوف وفدوا من الدول الاسكندنافيّة، وألمانيا، وهولندا، و..أنا العربي الوحيد، الذي سيحيي روح ثيودراكيس المنتميّة إلي قضايا حركات التحرير في آسيا وأفريقيا وأمريكيا اللاتينيّة.
انحياز هذا الفنّان الكبير إلي كل قضايا الحريّة لا يحتاج لسوق البراهين، فهو مع (فلسطين) وشعبها، وهو الذي حضر إلي (بيروت) عام ال81، وعزف موسيقي النشيد الوطني الفلسطيني الذي (وزّعه) موسيقيّاً معلناً زفّ العروس (اليونانيّة) إلي (الأمير) الفلسطيني، وكفاح جنوب أفريقيا، والانحياز لصوت مانديلاّ العظيم، وإدانة العدوان علي العراق، وزيارة العراق بعد العدوان الثلاثيني، ووصفه لبوش بأنه هولاكو وهتلر العصر...
فنّان عملاق شجاع، اختط لنفسه طريقاً ينبع من حبّه لوطنه: اليونان، ومن رؤيته لمصلحة وطنه وشعبه، وهذا ما قاده للخروج من صفوف الحزب الشيوعي اليوناني، وتأسيسه لاتجاه يساري ماركسي مستقّل لا يقبل بالألاعيب السياسيّة، والمناورات، وقد دفع ثمن استقلاليته بوعي تام...
في اليوم الثالث) للسيمينار) الذي دُرست فيه أعماله الموسيقيّة : الأغاني، الأناشيد، السيمفونيّات، الباليهات، الأوبرات، جاء دور ثيودراكيس للحديث...
رغم أن الجلسة تواصلت من العاشرة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر، فقد تحدّث في كلمة مطوّلة عن تاريخ اليونان المعاصر: الحرب الباردة، انقلاب الكولونيلات، صراعات اليمين واليسار، رؤيته لمسيرة الحزب الشيوعي اليوناني وتقييمه لدوره وممارساته، أخلاقيّات العمل السياسي في اليونان.
فنّان لا يكتفي بالتأليف والتلحين، وكتابة الشعر.. هو شاعر معروف جيداً في اليونان، ودوره كخطيب مفوّه محرّض علي حّب الحريّة والتضحية من أجلها. ثيودراكيس منحته الطبيعة قامة ضخمة باسقة ببنية قويّة لم تحنها الثمانون رغم أثقالها وهمومها...
يقول: كنت أعرف أن الجنرالات يريدون حذفي من ذاكرة الأجيال اليونانيّة الجديدة، فعملت ليل نهار وأنا في المنفي الباريسي على كتابة أعمال موسيقيّة ستدهش اليونانيين. كنت أريد أن أقول لهم: انظروا ماذا كنت أعّد لكم وأنا في المنفي. كنت أعرف أن الحريّة آتية والجنرالات راحلون، لذا عملت بلا كلل، وعندما جاءت اللحظة، عدت إلي اليونان بكّل ما أعددته من موسيقي...
يقول بحماسة : كيسنجر عندما رأي ما يفعله المثقفون والمبدعون اليونانيون، قال: يجب أن نقوم بالهجوم المعاكس عليهم،قبل استفحال خطرهم !...
في ملعب كرة القدم في مدينة خاينا أقيمت الحفلة الموسيقيّة، في جو شعبي مفرح.الفنّان مزهو بهذه الحفاوة، بفنّه الجماهيري الذي يذهب إلي الناس، باستقبال الأبطال، بصيحات(هورّا) الروسيّة التي أطلقها وفد مسرح (البولشوي) الموسكوفي الذي قلّد ثيودراكيس أعلى وسام ثقافي في روسيا نيابة عن الرئيس بوتين، والذي حضر بطائرة خاصة من موسكو.
جامعة خاينا في طقوس بسيطة وحميمة تمنح ثيودراكيس الدكتوراة التقديريّة لكّل ما قدّم، ويقف ثيودراكيس فيتقدّم شاب أسمر - إنهم يشبهوننا، متوسطيون مثلنا- ويبدأ بصوت قوي جبلي في غناء مواويل بدون موسيقي، كلّها مديح لهذا العملاق، الموسيقار، المناضل، عاشق الحريّة، ابن كريت، فيميل ثيودراكيس بقامته الضخمة العالية علي الشاب، ويأخذه بين ذراعيه معانقاً.
اقترب منّي الرجل الذي كان يرتدي الزّي الكريتي التقليدي وهمس لي ونحن نأكل الحلوى : أخي الفلسطيني، ليس ثيودراكيس فقط معكم، أخرج إلي الشارع وستري أن كل كريتي معكم. نحن قاتلنا أربعمائة سنة من أجل الحريّة، نحن نحّب عنادكم، كل اليونانيين معكم...
في الطائرة العائدة بنا من كريت إلي أثينا رأيته يجلس مرهقاً، ابتسمت له وحييته فابتسم بتعب، وأحني رأسه فلم أثقل عليه بتذكيره بالوعد باللقاء معه.
رجل في الثمانين، بعد كل هذا التعب، وهذا الإبداع، من حقهّ أن يُكّرم كل هذا التكريم، أن يعتّز به وطنه، ويكرّمه شعبه، بل الإنسانية كلها..
القدس العربي
2005/08/17


www.deyaralnagab.com