logo
فصول مجهولة من مشاركة التونسيين في حرب فلسطين!!
بقلم : نزار بولحية ... 19.11.2017

ربما لا يعرف الكثير من المشارقة وحتى التونسيين أن عددا كبيرا من آبائهم وأجدادهم شارك منتصف وأواخر أربعينيات القرن الماضي في الدفاع عن فلسطين، وتصدى ببسالة للعصابات الصهيونية، وكانت له صولات وجولات وبطولات في مقارعة العدو الإسرائيلي. لقد ظل الموضوع ولأسباب عديدة متروكا ومنسيا وشبه مجهول في تونس، وظلت المعلومات حول طبيعة مشاركة التونسيين في حرب 48 بالخصوص وظروفها شحيحة ومحدودة للغاية وتكاد تنحصر في بعض الكتابات والدراسات الأكاديمية المختصة.
وحتى نفتح للقراء بعضا من تلك الفصول المجهولة ارتأينا ان نسأل واحدا ممن عاصروا تلك الفترة وهو عبد الكريم المراق، المتفقد العام السابق في وزارة التربية التونسية حول طريقة تفاعله وتفاعل التونسيين في ذلك الوقت مع ما كان يجري في فلسطين فأفادنا انه كان أواخر الأربعينيات طالبا في جامعة الزيتونية وان الجو العام الذي كان يسيطر على عقول الشباب، وقتها كان البحث بكل السبل عن أي فرصة تسمح لهم بالمشاركة في الجهاد في فلسطين. مضيفا انه حضر حين كان مقيما في إحدى الدور السكنية التابعة لجامعة الزيتونة حفلا لتوديع المرحوم ابو القاسم محمد كرو، عند سفره للالتحاق بالجبهة وانه لا يزال يذكر جيدا كيف زار فلسطين مطلع الخمسينيات والتقى المجاهد الفلسطيني بهجت أبو غريبة مدير المدرسة المغربية في بيت المقدس، وكيف انه أخبره أن عددا كبيرا من النساء التونسيات كن يبعن مصوغاتهن لتجهيز أبنائهن للسفر للجهاد في فلسطين وكيف انه أي المراق، ألقى باقتراح من ابو غريبة محاضرة في الخليل نقل فيها مشاعر التونسيين وتطلعهم لنصره أشقائهم الفلسطينيين، كما لم يفته ان يشير وبتأثر واضح إلى انه صلى في تلك الفترة في قبة الصخرة في القدس ووقف تحت حائط البراق. أما فوزي التريكي وهو باحث متخصص في الشؤون الفلسطينية وعضو في المكتب التنفيذي لـ»القدس أمانتي تونس» فقد أشار إلى انه وحسب ما جمعه من شهادات حية من بعض المتطوعين التونسيين يمكنه القول ان الظروف التي خرجوا فيها من تونس كانت صعبة ومحفوفة بالمخاطر وانهم أي المتطوعين قطعوا معظم المسافة وصولا إلى الجبهة مشيا على الأقدام وتعرضوا خلال رحلتهم الطويلة في الصحراء إلى بعض التحرشات والأحداث إلى ان أدركوا مكتب المغرب العربي في القاهرة، وهو المكان الذي كان يتجمع فيه المتطوعون التونسيون ليتم توزيعهم لاحقا على جبهات القتال. ويذكر التريكي نقلا عن فرج بن عاشور السطمبولي وهو واحد من المشاركين في حرب ثمانية وأربعين ضمن جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي انه حين وصل مكتب المغرب العربي للتسجيل في صفوف المتطوعين وجد داخل المكتب كلا من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والحبيب ثامر وحسين التريكي ومسؤولا من الإخوان المسلمين. أما عن طبيعة الدور الذي قام به التونسيون في المعارك وقتها وهل انه كان فارقا ومؤثرا أم بسيطا ومحدودا فيقول فوزي «يكفي ان تعرفوا انه خلال فترات الهدنة والهدوء النسبي على جبهات القتال كانت الطائرات الإسرائيلية تلقي منشورات تدعو المتطوعين التونسيين والمغاربة للعودة إلى بلدانهم وترك القتال في فلسطين وتتعهد لهم بتأمين خروج آمن لهم لتدركوا القوة والشراسة التي كانوا عليها وحجم المتاعب التي تسببوا بها للإسرائيليين».
ويتحدث المنصف جعفورة وهو ابن المقاوم الراحل محمد جعفورة عن السنوات الخمس التي قضاها والده متنقلا في الجبهات من فلسطين إلى مصر ولبنان، ويقول ان ضعف وسائل الاتصال في ذلك الوقت جعل كثيرا من أفراد عائلته يرجحون فرضية استشهاده في المعارك إلى ان فاجأهم بعد خمس سنوات من مغادرته بلدة المنستير في الساحل التونسي بعودته إلى البيت. ويضيف أن أباه كان شخصا منضبطا وكتوما وكان يكنى بالفلسطيني، وظل يحتفظ بالكثير من التفاصيل والأسرار حول المعارك والأحداث التي مرت به أثناء تواجده في فلسطين وانه انتمى للحزب الدستوري وتنقل إلى فلسطين عبر مصر بعد ان اجتاز هو ومجموعة من رفاقه من بينهم احمد رحيم وقاسم البحوري الصحراء الليبية سيرا على الأقدام لينتسب إلى جيش الانقاذ العربي ويشارك بالخصوص في معركة المالكية على الحدود اللبنانية الفلسطينية. وشاءت الأقدار يقول المنصف ان تعرض الوالد في آخر أيامه إلى أزمة صحية تطلبت نقله إلى مستشفى المنستير ليجد طبيبا فلسطينيا أشرف على علاجه وفوجئ بعد وقت قصير ان المريض الذي أمامه يعرف فلسطين أكثر منه وانه لا يزال يذكر بالتفصيل أسماء القرى والبلدات وحتى الشوارع وأنواع الأكلات والعادات الفلسطينية وهو ما جعل العلاقة بينهما تتوطد إلى الحد الذي جعل الطبيب يباشر بنفسه في وقت لاحق كل الإجراءات الإدارية المطلوبة بعد الإعلان عن وفاة مريضه ومن دون انتظار وصول أفراد الأسرة. أما بالنسبة إلى طه بقة فهو يقول ان تجربة والده المقاوم الراحل صالح بقة كانت مختلفة بعض الشيء. فهو غادر في البداية تونس سنة أربعين للدراسة ثم العمل في مصر، ثم تنقل إلى ليبيا لكسب الرزق وصادف ان التقى في مدينة السلوم مجموعة من المتطوعين التونسيين من أبناء بلدته كانت في طريقها إلى فلسطين فقرر الانطلاق معها إلى مكتب المغرب العربي في القاهرة ثم الالتحاق بمعسكر تدريب مصري قبل ان ينضم إلى الفوج التاسع من الجيش السوري في ثكنة قطنة على طريق القنيطرة والذي كان يقوده التونسي عز الدين عزوز. ويؤكد طه ان فلسطين ظلت جزءا ثابتا من كيان والده الراحل وانه أمضى أكثر من عشر سنوات متنقلا بينها وبين لبنان وسوريا وحتى حين عاد إلى تونس بعد ان دفعته الظروف للسفر لاحقا من المشرق إلى أوروبا، فقد ظل يشعر بحنين دائم إلى الأرض الفلسطينية التي قاتل دفاعا عنها. ومما يذكره عنه أيضا انه كان شاهد عيان على مجزرة دير ياسين وكان يستيقظ من نومه في آخر أيام حياته صائحا وهو يستحضر صور الجثث التي رآها ملقاة في الشوارع ويردد انها كانت مجزرة مريعة جدا وظالمة. وفي الأخير تبقى تلك الشهادات مجرد قطرة من بحر واسع من المعلومات التي لم يكشف عن القسم الأكبر منها حول مشاركة التونسيين في حرب فلسطين سنة 48 وهي تحتاج كغيرها من المسائل التاريخية الدقيقة والمهمة إلى جهد توثيقي واستقصائي ضخم من قبل المختصين والباحثين ثم إلى جهد تعريفي واسع ومعمق من جانب الإعلاميين المحليين والأجانب. ولكن هل ستجد تونس والتونسيون الآن وفي خضم كل المشاكل والأزمات التي يعيشونها وقتا لذلك؟ ربما أعطتهم تجارب آبائهم وأجدادهم ممن غامروا بحياتهم في الأربعينيات من أجل نصرة قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية، الأمل والفرصة للتعاطي بثقة وعزم مع التحديات الضخمة والمخيفة التي يواجهونها اليوم وسيواجهونها في المستقبل.

المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com