logo
في مجتمع مزقته الحروب: 3 ملايين صومالي في حاجة إلى علاج نفسي ووسائط التواصل الاجتماعي إحدى الحلول!!
بقلم : سليمان حاج إبراهيم ... 15.01.2017

من النادر أن يُباشر حديث أو ينقل خبر في وسائل الإعلام الإقليمية أو الدولية عن الصومال، من دون أن يكون مرادفا للمجاعة، ولا يقترن بالاضطرابات السياسية التي تتصدر الأنباء، أو يخلو من ذكر للحروب التي فتكت بهذا البلد. الجميع يسهب في سرد ما خلفته هذه الأزمة من دمار وتشريد لملايين الأشخاص، ذاقوا أصناف الذل والهوان. لكن بعيدا عن هذه الصور القاتمة التي تعلق في البال بما تتضمنه من جوانب سلبية، انتفضت مجموعة من الشباب جلهم من أعمار صغيرة ضد هذا الوضع. شباب مسلحون بالعلم والمعرفة وأكثر اندماجا مع وسائل عصرهم أرادوا أن يرسموا لوحة مختلفة عما تألفه الأبصار من مشاهد مروعة، وهم يجتهدون لينقلوا للعالم صورة مختلفة عن البلد الذي كان إلى وقت قريب جنة خضراء يعمه الأمن والاستقرار.
سميرة محمد بري، وزهور عثمان، ومحمد جامع، وحمزة عقال، وزهور بيله، وغيرهم ثلة من الشباب الصومالي لم يتعد العقد الثالث من عمره وولدوا مع أو بعد الحرب التي عاشتها بلادهم. قرروا أن يواجهوا بحزم المصير الذي سيطر على حياة أهلهم في وطنهم الذي انتشرت فيه المجاعة في عدة مناطق، لتزداد معاناة النازحين منه بسبب الجفاف. تحرك هؤلاء الشباب لم يكن من أجل تطويق، هذه الأوضاع المزرية فحسب، فهذا يفوق نطاقهم، ولابد له من مساعدات دولية أو أممية. هم على مستوى امكانياتهم قرروا أن ينتصروا لأزمة بشعة تواجه السكان يمكن لأي شخص أن يساهم في علاجها بيسر بتوفر تلك الإرادة التي تسلحوا بها.
تجندت المجموعة الشبابية التي ينتشر أفرادها بين عواصم دولية عدة وموزعين بين قارات العالم ووحدهم مشروع محوري يتعلق بالجوانب النفسية التي يعاني منها الملايين في الصومال.
شخص من كل ثلاثة صوماليينيعاني من أزمة نفسية
تشير إحصاءات للأمم المتحدة إلى أن شخصا من كل ثلاثة صوماليين يعاني من أزمة نفسية حادة، ونسبة معتبرة منهم حالتهم حرجة تتطلب علاجا خاصا لتطويقها والتخفيف من حدتها. رقم مهول إذا تم احتساب عدد سكان البلد الواقع في القرن الافريقي البالغ حوالي 10 ملايين نسمة وبالتالي بحساب بسيط يكون نحو 3 ملايين صومالي لديهم أزمة نفسية.
هذه النسب المهولة جعلت سميرة تفكر مع نفسها عن سبيل يجعلها تتحرك مع شباب آخرين تعرفهم وتتواصل معهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي للتفكير في بعض الحلول للمساهمة في التقليل من حدة هذه الظواهر التي انتشرت في البلد ولم تجد من يعمل على حلها.
تقول بري التي تقيم في قطر حيث تتابع دراساتها العليا، وتستعد للالتحاق بأحد المستشفيات الجديدة المتطورة التي ستفتح قريبا في الدوحة أنها ظلت لفترة تفكر في مشروع تساهم فيه بما يتيسر لها من جهود وامكانيات للصومال. وبعد دراسة وتحليل للواقع تشير سميرة التي التقت بها «القدس العربي» مع مجموعة الشباب رفقائها إلى أنها اهتدت إلى نتيجة هامة وواقعية وهي «أن الأزمات الإنسانية التي يعاني من الشعب نتيجة للحروب والكوارث التي مرت على البلد، تعد أحد الأولويات، ومع هذا لا يوجد من يقدم في هذا المجال الكثير».
تواصلت الفتاة مع أصدقاء لها وقرروا تأسيس منظمة تعنى بالمرضى النفسانيين، ويكون تحركها عبر شبكات التواصل الاجتماعي لتوعية الأهالي والمسؤولين والعامة، بضرورة التكفل بضحايا المأساة وسبل التعامل مع مثل هذه الحالات. لاحقا بعد وضع مخطط وأهداف ورؤية المنظمة وانضمام الكثيرين إليها من كل صوب، اتفقوا على آليات التحرك.
العناية بالحالات النفسيةضحايا الحرب الصومالية
تأسست المنظمة قبل ثلاث سنوات وحملت اسم «هرساري» والكلمة تعني مثلما أشارت مؤسستها إلى الامتياز أي أن يكون هناك امتياز في الصحة والنفس والمجتمع، لإزالة كل مسببات التخلف الذي عاش فيه البلد لسنوات أو عقود.
سريعا انضم إلى المؤسسة الفتية أزيد من 30 خبيرا نفسيا وأخصائيا اجتماعيا، وبعض المدراء والقانونيين وعدد من الكفاءات العلمية، ومتطوعين كثر، سطروا مع بعض أهداف وخطوات «هرساري» ووزعوا فيما بينهم المهام على أن تكون هناك رحلات ميدانية إلى بلادهم يأتون إليه من كل فج بعيد.
العلاج أولوية قبل الأكل
المرض النفسي ليس عيباً، ولا يجب إخفاؤه عن الآخرين، خاصة إذا كان هؤلاء الآخرين هم من يأخذون بيده إلى بر السلامة وتخليصه من آثاره، ويساعدونه لاستئناف حياته من جديد، تلخص المؤسسة فلسفة المنظمة. وتؤكد أنه في هذا السياق استعدادهم لإطلاق حملة قوية، من شأنها الإسهام في تحقيق رسالة المنظمة، والتي تنبع من الإيمان بأهمية الصحة النفسية للفرد والتعريف بها. من خلال هذه الجهود تشير المتحدثة إلى أن بالإمكان تغيير الصور النمطية والوصمة الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية، وتقديم البرامج النفسية والسلوكية والأسرية التي تخدم جميع أفراد المجتمع.
بعد التخطيط والعمل الورقي والإجراءات انتقل الشباب وهم مسلحون بعزيمة قوية إلى العمل الميداني وباشروا سفرياتهم إلى الصومال بالرغم من كل المخاطر التي تحف جولاتهم هناك بسبب الانفلات الأمني والاضطرابات.
اكتشفت المجموعة أن المرضى النفسانيين هم فئة مهملة في بلادهم ولا أحد يهتم بهم ولا باحتياجاتهم كافة وتركوا يواجهون مصيرا مجهولا. أما العائلات التي تكفلت بأبنائهم المصابين بهذه الأمراض فإنهم لجهلهم يعاملونهم بقسوة وكأنهم حيوانات مفترسة ويربطون بسلاسل حديدية ويقيدون في أماكن منعزلة ويرمى لهم الأكل مثل البهائم لاعتقادهم أن الاقتراب منهم خطر.
تأكد الشباب المتطوعون أن السكان هناك ولجهلهم لا يدركون سبل التعامل مع ضحايا الأزمة ممن تعرضوا لشظاياها وأخلت بتوازنهم النفساني وهذه الإشكالية لابد من العمل الجاد لتصحيح المفاهيم. خططوا بشكل مفصل لتوعية الناس بأن هؤلاء لديهم أزمات نفسانية وليسوا مجانين، ورفضوا أن يستخدم الناس هذه الكلمة ليكون العمل أيضا على توعيتهم بهذه الجوانب المتكاملة.
واعتبرت بري أنهم بمجرد ما وصلوا هناك وتفقدوا الحال تأكد لديهم أنه بإمكان الشمعة التي ستضاء أن ينتقل وهجها المشع لينير حاضر ومستقبل بلدها الحبيب الصومال، الذي عانى لما يزيد على العقدين من غياب الدولة، وبالتالي الأمن والأمان، الأمر الذي ترتب عليه وقوع الكثير من الصوماليين فريسة للمعاناة النفسية من خلال صور كالاكتئاب والقلق. وأشارت إلى أنه من خلال مباشرة عملهم كانت تلك المبادرة بمثابة إضاءات يتم بثها عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي ليشاهدها الجميع وفي كل مكان لتسجل المبادرة انتشارا لافتا وتعبير الكثيرين عن رغبتهم في تقديم المساعدة ليتوسع المشروع تدريجيا ويتبناه كثيرون. ركزت منظمة «هرساري» على وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف المنصات الرقمية التي تنتشر كثيرا في الصومال. استوقفتني هذه الملاحظة لأسأل مؤسسة المنظمة عن هذه المعادلة وأهميتها بخصوص عملهم.
الانترنت في الصومال أقوى من الدول المتقدمة
أشارت لي، أن بلدها بالرغم من الصورة النمطية التي انتشرت عنه، إلا أن الناس هناك يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف، والشركات تقدم خدمات رائدة في مجال الانترنت الذي يتميز بالتطور، ربما أفضل من الكثير من الدول المتقدمة. هذا العامل تم استغلاله لتحقيق رؤية المنظمة وتنفيذ أهدافها وتكثيف العمل في هذه الفضاءات لتوعية الأهالي وتقديم النصائح والارشادات والتوجيهات حول سبل التعامل مع ضحايا الأزمة المصابين بمشاكل نفسانية.
تؤكد سميرة أن العمل الميداني مع أهالي المصابين بأزمات متعددة فتح أعينهم على عدة جوانب متكاملة من الموضوع حيث زاد من تشكيل صورة واضحة عن دورهم وما يجب أن يقوموا به وكيف السبيل لتحقيق أهدافهم. وأشارت إلى أن عائلة أي مصاب بمرض نفسي هي أيضا يجب أن يشملها البرنامج الذي يخصصونه لأن أي فرد منها سيواجه ضغوطا ومتاعب عدة وقلقا وأرقا ويصل حد الاكتئاب وقد تزداد حالته سوءا لأنه أولا لا يعرف كيف يتعامل مع الحالة التي تحيطه ولأنه أيضا لا يجد المساعدة الكافية والأهم أن المجتمع يشعره بضغط بسبب عدم تقبل وجود المصاب حولهم بسبب الجهل.
توفير الرعاية اللازمة لضحايا الأزمة
تردد أعضاء المنظمة التي ازداد نشاطها وتوسع ليشمل مناطق عدة في الصومال على البلد بشكل مستمر، وفي كل مرة يكون معهم عدد أكبر من الأطباء والأخصائيين والمعالجين. خطتهم الأساسية أن يواجهوا الدجالين والسحرة الذين كان الأهالي يلجأون إليهم مضطرين بسبب عدم توفر البديل، أو عن اقتناع، ليعالجوا أقاربهم المصابين بمشاكل نفسية وهو ما ساهم في وفاة أكثر من شخص نتيجة لاعتماد آليات بعضها خطير جدا ومنحوا أعشابا بشكل عشوائي.
كانت أمام المنظمة مهمة حيوية وهي ضرورة توعية السكان أن العلم هو السبيل لعلاج الأفراد وليس تلك الأساليب البدائية المتخلفة التي تزيد من معاناة الضحايا وتكرس عزلتهم وحتى تعرضهم لأمراض جديدة فكان عملهم على عدة جبهات ودفعة واحدة. تشير سميرة وزملاؤها أنهم يقسمون الأعمال فيما بينهم، فبينما يعكف الدكاترة والمعالجون النفسانيون على متابعة الحالات وتحليل ما تعرضت لهم من محن، يقوم آخرون بتوفير الأكل والشرب واللبس لهؤلاء الضحايا والتكفل بهم وباحتياجاتهم. أما الفئة الأخرى فكان دورها لا يقل أهمية وهو التوعية والتواصل مع الأهالي لتوجيههم لسبل التعامل مع أقاربهم حتى يخففوا من حملهم ويتوصلوا إلى أفضل السبل للتكفل بهذه الحالات.
بصيص أمل في العتمة
بدأت جهود المنظمة التوعوية خصوصا وأن عملها الميداني المقترن بحملات دعائية ونصائح تقدم بوسائل حديثة مستخدمين فيها فيديوهات ورسائل انتشرت بكثافة عبر مختلف المنصات الرقمية تؤتي أكلها.
وأشار أعضاء «هرساري» في حديثهم معنا إلى أن الكثير من الأهالي استجابوا لنصائحهم ومع تواجد المتطوعين والأعضاء المستمر وسفرهم الدائم إلى الصومال بدأت بعض النتائج المبهرة تلاحظ. العديد من الحالات لأشخاص كانوا يعانون من متاعب نفسية (المصطلح الذي كرست المنظمة جهدها لاعتماده لدى الناس بديلا عن مخاطبة هؤلاء بالمجانين) تم علاجها. استعاد الكثيرون من هؤلاء عافيتهم وتوازنهم وهم يندمجون تدريجيا في الحياة وأصلحوا من حالهم وتوفر لهم اللبس النظيف والأكل الصحي وعاشوا في بيئة جيدة.
وترك الكثير من أعضاء المنظمة حياتهم المرفهة في الدول الغنية والمتقدمة التي يعيشون فيها وتوجهوا مسلحين بالإيمان بأن وطنهم يجب أن يتجند له أهله لتعزيز صحة أفراده إلى الصومال وأمضوا فترات طويلة يقدمون للمحتاجين المساعدة اللازمة. تقول سميرة أن هؤلاء كانوا قدوة للكثيرين وحتى بعضهم أصبح يفكر بشكل جدي أن يستقر في الصومال ويعمل على تقديم ما لديه من مساعدة وفق إمكاناته حتى ينـعــم بالطمأنينة والأمن والسلام بسواعد أبنائه.
وتخطط «هرساري» بالإمكانيات البسيطة التي جمعتها بتبرع الأصدقاء وكل من آمن بمشروعهم، لتقديم عدد من المنح الجامعية لطلبة صوماليين ليدرسوا هذه التخصصات الحيوية. وكان الهدف أن يعودوا إلى وطنهم للمساهمة في هذا المجال الذي ظل إلى وقت قريب مغيبا من حسابات كافة الأطراف المانحة والمؤسسات الدولية التي تعمل على توفير الاحتياجات الأساسية من أكل وشرب. وتؤكد مؤسسة «هرساري» أن الدعم النفسي لضحايا الأزمة لا يقل أهمية عن توفير المتطلبات الغذائية لشعب عانى ويلات الحروب ومسته المجاعة لسنوات طويلة.
المعركة لا تزال مستمرة
تختتم سميرة بري حديثها معنا لتعود إلى رفقائها وزملائها ليخططوا لرحلتهم المقبلة بالتأكيد على أن 82 في المئة من الصوماليين يعانون من سوء الخدمات في مجالات متعددة (الصحة والتعليم ومستوى المعيشة). وتستطرد أنه بشكل عام، يعيش 73 في المئة من الصوماليين على أقل من دولارين أمريكيين في اليوم الواحد، لكن كل هذا ليس بالعائق الوحيد في ظل وجود فرد من بين كل ثلاثة أشخاص يعاني من أزمة نفسية تستدعي تكاثف الجميع لتطويقها.
كما أن المنظمة تدرك جيدا أن الدرب لا يزال صعبا في بلد يسجل واحدا من أدنى معدلات الالتحاق بالمدارس في العالم بالنسبة للأطفال في سن المدرسة الابتدائية -42 في المئة من الأطفال ملتحقون بالمدرسة. ومن بين هؤلاء 36٪ فقط من الفتيات.
**المصدر : القدس العربي

المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com