logo
عشرينيّة هبة القدس والأقصى: الشهداء ليسوا أرقامًا ولا ذكرى!!
بقلم : سليمان أبو إرشيد ... 27.09.2020

**حسن عاصلة: إطلاق أسماء الشهداء على دواراتنا ومدارسنا وشوارعنا لا يحتاج إلى معجزة
قيادتنا انقسمت بين من تبرأوا من الشهداء من اليوم الأول وبين من اتهموا بالتسبب بموتهم
كان يفترض استغلال لجنة أور كمنصة إعلامية وليس تحويلها إلى حكم بيننا وبين الدولة
ما تعرضنا له من أبناء شعبنا أشد مضاضة فقد قتلوا الشهداء مرتين

لم يقتصر مفعول أحداث هبة القدس والأقصى التي اجتاحت الداخل الفلسطيني في تشرين الأول/ أكتوبر 2000، على إعطاء شحنة سياسية ومعنوية هائلة لإطلاق الانتفاضة الثانية، بل هي زلزلت الأرض تحت أقدام إسرائيل وهزت كيان قادتها السياسيين والعسكريين، وأعادت بعضهم إلى "كابوس الـ48" وإلى ما وصفوه بـ"الحرب على الوجود".
من هنا جاء رد الفعل الإسرائيلي "الهستيري" الذي تمثل في إعادة احتلال مدننا وقرانا وبزحف المجنزرات والآليات العسكرية إلى ميادينها وشوارعها وإطلاق جنودها الرصاص باتجاه المتظاهرين ما أسفر عن جرح المئات منهم واستشهاد 13 شابا.
لم تغيّر من واقع الأمر ذاك محاولة الخطاب الحقوقي المهيمن، بقصد أو من دون قصد، تقزيم تلك الهبة العملاقة واختزال بعدها الوطني كونها انتفاضة شعب أو هي جزء من انتفاضة شعب يقبع تحت واقع كولونيالي، وتحويلها إلى قضية مدنية تبدأ بلجنة تحقيق في سلوك الشرطة وتنتهي بتعويض عائلات الضحايا.
قوات "حرس الحدود" تقمع مظاهرة في أم الفحم بالرصاص الحي، أكتوبر ٢٠٠٠ (أ ف ب)
وقد كشفت هبة الأقصى عن المخزون النضالي الهائل الذي يملكه فلسطينيو الداخل، بحكم الوزن والموقع، وعن طاقاتهم المستقبلية الكامنة، وبغض النظر عما إذا كانوا قد خافوا من قوتهم تلك كما حدث في يوم الأرض 76 أم لم يخافوا (والمقصود هنا - القيادة)، فإن خوف المؤسسة كان أكبر، وبالنتيجة فإن الطرفين لم يكونا معنيين بمواجهة غير محسوبة النتائج وبخروج تلك الهبة عن "السيطرة" وتحولها إلى حالة عصيان مدني والالتحام بالانتفاضة التي ظلت مشتعلة في الضفة والقطاع.
على عتبة الذكرى الـ20 للانتفاضة الثانية وهبة القدس والأقصى أجرينا هذا الحوار مع حسن عاصلة، والد الشهيد أسيل عاصلة، والذي كان لفترة طويلة الناطق بلسان لجنة ذوي الشهداء التي تشكلت غداة الهبة ولعبت دورا بارزا في إعلاء قضيتهم في مختلف المحافل.
"عرب 48": نعرف الألم الذي تمرون به في مثل هذه الأيام في ذكرى استشهاد ابنكم أسيل وأبنائنا وأبناء شعبنا كله، شهداء الانتفاضة في الداخل وعلى امتداد الوطن، حيث يبقى الفقدان والوجع الشخصي أكثر إيلاما رغم عظمة أسباب العزاء، وربما يزداد هذا الألم إزاء ما حل بالذكرى وواقع حال القضية التي ارتقى في سبيلها الشهداء؟
عاصلة: كنت منذ الصباح أكتب خاطرة لأسيل، كما في كل عام، وأحاول أن أتواصل معه ما استطعت بكل مشاعري وجوارحي، فأنا أحس أنه موجود وحتى عندما أتمشى حول البيت أو في الحديقة أحيانا أشعر أنه بجانبي ويتحدث معي، وعندما أهم بالدخول إلى البيت أسمع صوتا بداخلي يطلب مني التوقف لحظة، لأن أسيل يريد أن يدخل إلى البيت، فأتسمر مكاني لدقائق طويلة جدا وأنادي أسيل.. أسيل، فلا يجيبني أحد ولكن أشعر أنه مر بجانبي، هكذا نحن نعيش.
"عرب 48": نحن كشعب نؤمن واستنادا إلى موروثنا الديني والشعبي أن الشهداء لا يموتون، بل هم كما تقول الآية الكريمة "أحياء عند ربهم يرزقون"، وفي مقابلة معها أوردت د. مرام مصاروة، حالات العديد من العائلات الفلسطينية التي تضمنها بحثها عن "الثكل الفلسطيني" والذي قابلت خلاله العشرات من عائلات شهداء الانتفاضة الثانية، وكيف يشعر أفراد هذه العائلات من رجال ونساء بأن أبناءهم ما زالوا أحياء ويعيشون بينهم، وهي تستشهد بقصيدة "القربان" لمحمود درويش وهو يقول: كن ميتا حيا وحيا ميتا وكن طيفا خفيا فاصعد ما استطعت فأنت أجملنا شهيدا؟
عاصلة: إلى جانب ذلك، فأنت تعرف قناعتي بأن العطاء والفداء هو مستحق لا يمكن الهروب منه، وأنا عندما سمعت بخبر استشهاد أسيل خرجت من المظاهرة لألحق به إلى المستشفى، وخلال سيري من موقع المظاهرة إلى بيتي الذي كان يبعد مسافة كيلومتر واحد لأحضر السيارة، كان صوت في داخلي يهتف "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون"، وعندما وصلنا إلى المستشفى وجاء الطبيب ليخبرني النبأ، نزلت دمعة واحدة من عيني ونطقت بآية قرآنية لم أكن أحفظها أبدا وهي: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"، وكررتها أكثر من مرة وقلت لأسيل: حملتني مسؤولية كبيرة أتمنى أن أستطيع حملها.
"عرب 48": المسؤولية كبيرة، ولكني أعتقد أنك كوالد شهيد وناطق بلسان ذوي الشهداء حملتها بأمانة حتى النهاية، وكنتم أنت وزوجتك الفاضلة السيدة أم أسيل، خير مدافعين عن قضية الشهداء وإعلاء شأنهم وصيانة رسالتهم وتخليد ذكراهم رغم كل شيء؟
عاصلة: أنا والحمد لله مرتاح مع نفسي بأن الله وفقني على حمل هذا العبء لمدة خمس سنوات في لجنة ذوي الشهداء، وكوالد شهيد ما حييت، لكن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، فالذي لقيناه من بعض أبناء شعبنا، وأنا لا أعمم، لم نلقه من الأعداء الذين كانوا يحاذرون حتى الاقتراب منا، لكن البعض من أبناء شعبنا قتلوا الشهداء مرة أخرى وعادوا وغرزوا الخنجر في قلبنا وليس في ظهرنا.
"عرب 48": تشكيل لجنة ذوي الشهداء كانت سابقة جريئة في انتزاع زمام المبادرة، ساهمت في حسم حالة التردد التي كانت سائدة، ورفدت الموقف القيادي بقوى ذات مصلحة مباشرة في التصدي لهذه القضية في ظل تردد وتلكؤ بعض أطرافه؟
عاصلة: كما تعرف، فإن جزءا من قيادتنا قد تبرأ من الشهداء منذ اليوم الأول، والجزء الثاني اتهم بأنه السبب في قتلهم، وهناك جزء آخر ليس له لا شبق ولا عبق، كما يقولون، ولن أكتمك القول إن ما عانيناه خلال خمس سنوات من قبل هؤلاء القادة وبعض الأفراد من أبناء شعبنا كان القتل أهون منه بكثير، وحتى من بين الناس الوطنيين من تجرأ وقال: "ما حدا استشهد غير ابنكم".
"عرب 48": مثلتم كعائلة شهيد ربما حالة فريدة، حيث أعطيتم أهمية استثنائية لقضية الاستشهاد ورفضتم المرور عليها مر الكرام والتسليم بالقول القائل إن العشرات والمئات والآلاف يستشهدون من أبناء شعبنا سنويا، ولذلك يجب أن تذوب القضية الشخصية في القضية العامة. وأثبتم أن لكل شهيد اسم وملامح وعائلة وقصة شخصية يجب أن تروى أيضا، وهو نموذج يجب أن يتم العمل على تعزيزه خدمة لقضية الشهداء العامة وليس طمسه لأنه يضايق البعض ويتعارض مع أجنداتهم؟
عاصلة: نتمنى أن يوفقنا الله ونبقى في نفس الخط ونفس الاتجاه ونحن نرى أن هذا استحقاق كان علينا دفعه، ولكن يجب أن نحافظ أيضا على هذا الإرث وعلى هذه الذاكرة والرؤية الوطنية التي تركها الشهداء، والموضوع لا يحتاج إلى كثير من الفلسفة لأن إطلاق أسماء الشهداء على ميادين وشوارع في مدننا وقرانا على سبيل المثال، هي ليست معجزة.
مثلما أن بناء مجسمات تذكارية لكل الشهداء وليس لشهداء الهبة فقط هي ليست مهمة مستحيلة، وكذلك إطلاق اسم شهيد على مدرسة أو مؤسسة، كل رئيس مجلس يفعل أو بالأحرى لا يفعل ما يعتقد أنه يزعج السلطة، ونحن نقول له يا أخي اطلق اسم شهيد على مدرسة وعندما تعترض السلطة اذهب إلى المحكمة. هم لديهم آلاف المواقع على أسماء أبنائهم.
كنت ملازما لهم مدة خمس سنوات في لجنة المتابعة وكنت أقول لهم إن العدو الصهيوني يعرف أن هؤلاء الشبان قتلوا ظلما وغدرا وهم لم يحملوا السلاح ويحاربوا، بل سقطوا أو أسقطوا ضحايا، وحتى لو كانوا يلقون حجارة. اذهب إلى المحكمة، وحاجج بأنهم أطلقوا على شوارعهم أسماء إرهابيين صهاينة، ولكنهم لا يريدون أن يواجهوا لأنهم باختصار جبناء.
"عرب 48": أو ربما القضية تتعلق بتوجه سياسي غير متماثل مع قضية الشهداء ومع القضية الوطنية؟
عاصلة: لا، دعنا نسمي الأشياء بمسمياتها، هم جبناء لا يريدون المواجهة لأن كل واحد منهم يجلس على كرسي وينحصر تفكيره فقط في كيفية العودة إليه مرة ثانية، فيما يفكر من هم حوله بكيفية استغلال الجالس على الكرسي لمصلحتهم.
وأنت تعرف ما يحدث في السلطات المحلية العربية اليوم في كل البلدات، كيف أن العصابات والزعران هم من يسيطرون على الأمور، وهذا دليل آخر أنهم جبناء، ولو أن أيا منهم قريب إلى أبناء شعبه، ويدعو الشباب لحماية مؤسستهم ومجلسهم فسيجد آلاف الشبان يقفون في وجه هؤلاء الزعران ويخرسونهم، لكن بعد أن يذل ويغرق في المحسوبيات لا يعود باستطاعته كسب دعم الأهالي.
"عرب 48": بالعودة لقضية الشهداء، يبدو أن الجانب المدني قد طغى على الموضوع، خاصة أن هناك من سعى إلى تحويل القضية برمتها إلى قضية علاقة بين المواطن والسلطة وإدخالها في مسرب الاتهام والتحقيق مع أفراد الشرطة ونزعها عن بعدها الوطني الفلسطيني، وليس من الغريب أن تنتهي والحال كذلك إلى ما انتهت إليه؟
عاصلة: قضية الشهداء هي في جوهرها قضية وطنية، ولكنها تنطوي على بعد مدني ينبع من كوننا نعرف كمواطنين في هذه الدولة وبهذا المعنى فإن إطلاق النار علينا من قبل شرطتها فيه تجاوز فظ لحدود المواطنة المفترضة.
إلا أن المشكلة هي ليست بالتعامل مع هذا البعد، بل في كيفية هذا التعامل، إلى جانب محاولات تهميش البعد الوطني وتقزيم الذكرى وتحويلها إلى حدث رمزي لا يتعدى وضع أكاليل زهور على أضرحة الشهداء.
وليس من الخطأ المطالبة بلجنة تحقيق رسمية والحصول عليها بل إن الخطأ في الإركان إلى نتائج واستخلاصات هذه اللجنة، فقد كان حريا تحويل لجنة التحقيق إلى منصة إعلامية لإعلاء قضية الشهداء ورفعها إلى المنابر الإسرائيلية والعالمية وهكذا أردناها، وكان حريا بنا وقد اقترحنا ذلك منذ البداية، تشكيل لجنة موازية أو "لجنة ظل" من طاقم محامين وحقوقيين وطنيين تعمل بموازاة هذه اللجنة وتخرج بنتائج واستخلاصات مهنية موضوعية ونزيهة تحمل إدانات صريحة وواضحة للقيادتين السياسية والميدانية الإسرائيليتين.
إلا أن الإركان إلى نتائج لجنة "أور" التي برأت القيادة السياسية المسؤولة عن إصدار القرار بقتل أبنائنا، أغرقنا في المطالبة بمحاكمة عناصر الشرطة وضباطها الصغار الذين أمرت اللجنة بالتحقيق معهم إلى أن صدمنا بإغلاق الملفات ضدهم أيضا، وبالتالي لجوء الغالبية العظمى من العائلات للتعويض وحصولها عليه مشروطا بإسقاط أي حق آخر هو أمر مؤسف يذكر بإغلاق ملفات قتلة شهداء كفر قاسم.
*خاطرة إلى أسيل...
عشرون عاما مضت وانقضت
وأنت لا زلت قنديل البيت وبدر السماء
أنت الربيع المكلل الفواح المضمخ بالدماء
يا أسيل هذا الجرح لنا
يوقد فينا عزم الارتقاء
يا أسيل هذا النزيف لنا
يسري في العروق يملأ الأرجاء
هذا العطاء والوفاء والسخاء لنا
فليشرب البحر الطغاة الظالمون والأعداء
أنتم أيها المصلون لا غفران لكم
تجارة الدم نهجكم وبيع النجباء
تألفون الظلم وصحبة النفاق
دينكم دينار وعبادتكم كذب ورياء
أما أنتم الذين تجهلون الصلاة وتعبدون الإفك والبغاء
لا خير في أمة سادتها عبيد وقادتها خراف وحمير جبناء
سنبقى يا أسيل جبل المحامل
سنبقى على العهد للميثاق أوفياء
وليكتب التاريخ على ناصع خده
قصص البذل والعلم والارتقاء
نحن الذين أعيينا المستحيل
وعلمنا الجبال أن تكون سهولا وعطاء
*تحرير: محمود مجادلة
**المصدر : عرب48


www.deyaralnagab.com