logo
تقرير : "التمرد" عنوان لعلاقة الناس بالشرطة في المجتمعات العربية!!
بقلم : الديار ... 20.06.2020

المواجهات بين المحتجين والشرطة في شوارع العراق ولبنان مؤخرا اعتُبرت تذكيرا قويا بأن الشرطة أكثر من مجرد كيان مستهدف بالاحتجاج ضد الدولة.
رجال الشرطة في العالم العربي تمردوا عن أدوارهم الأصلية، فتحولوا من أداة لحفظ الأمن وإنفاذ القانون على الجميع إلى أداة بيد الحكام لإخضاع الشعوب والسيطرة عليها، لهذا جعلت الأنظمة الحاكمة الشرطة شريكا أساسيا في نظام الحكم. لكن هذا لا يروق للشعوب العربية على الأقل التي تطالب رجال الشرطة بالاضطلاع بأدوارهم الرئيسية كحماة لحكم القانون فقط.
لندن - يقول سعد (60 عاما) الضابط المتقاعد من الشرطة العدلية في تونس “في بعض الأحيان ينظر إلينا الأهالي باعتبارنا الأعداء، خاصة في عهد النظام السابق، كانت الكثير من المفاهيم مغلوطة وصور رجال الأمن كوحوش”.
يضيف “في بعض الأحيان كان النظام هو من يدفع إلى رسم هذه الصورة لفرض سطوته وهيبته وفي بعض الأحيان كانت الروايات المفبركة التي تروج عن عمد سببا لذلك.. ولكن عندما يتعرّف الناس على ضبّاط الشرطة، يتغيّر الأمر، ويبدأون النظر إلينا باعتبارنا من أفراد المجتمع- جزء من حياتهم اليومية”.
ويردف “ينسى قلة في أحيان كثيرة أننا المسؤولون المباشرون عن الأمن الذين يعيشون فيه، لكن الأمر مقدر جدا لدى البعض”.
وفي الآونة الأخيرة، فتح مقتل جورج فلويد، وهو أميركي من أصل أفريقي يبلغ من العمر 46 عاما، على يد الشرطة في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأميركية نقاشات واسعة حول نظرة مختلف المجتمعات للشرطة.
وقالت المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة ميشال باشليت، إن مقتل جورج فلويد أصبح رمزا للاستخدام المفرط للقوة غير المتناسبة من قبل قوات إنفاذ القانون، مؤكدة على الحاجة لاتخاذ إجراءات حاسمة لإصلاح وكالات إنفاذ القانون.
وتعتبر المجتمعات العربية معنية بشدة بهذا الأمر، فلطالما كانت الشرطة وقوات الأمن الداخلي في العديد من دول العالم العربي في قلب الصراعات والمواجهات خاصة تلك التي حصلت عام 2011 وشكلت المنطقة في صورتها الحالية. وفي الآونة الأخيرة عُدّت المواجهات بين المحتجين والشرطة في شوارع العراق ولبنان تذكيرا قويا بأن الشرطة أكثر من مجرد كيان مستهدف بالاحتجاج ضد الدولة. هي أيضا نقطة ينعقد حولها الغضب كجماعة قائمة بذاتها، من حيث مفاهيم الإدارة الشرطية والسيطرة الاجتماعية التي تتجسد فيها.
الإدارة الشرطية
يصعب عربيا تعريف مفاهيم الإدارة الشرطية من بلد إلى آخر، ولهذا الأمر ثلاثة أسباب رئيسية على الأقل لهذا. أولا، هناك مسألة التعاريف المرتبطة بالنقاشات الجارية حول ماهية “الإدارة الشرطية – policing” في مقابل “الأمن الداخلي” أو “الممارسات العسكرية”.
ويزيد من التِباس الحدود بين المفاهيم في السياق العربي أن الحكومات السلطوية في بعض الدول استخدمت الشرطة كهيئة للإنفاذ السياسي، وفي حالات أخرى وجدت الشرطة نفسها في الخطوط الأمامية للنزاعات المسلحة مع تعرضها للعسكرة والتحزّب، وفي حالات أخرى تم تكوين هيئات شرطية منافسة لها.
ولعل من الأصوب النظر إلى تعريف ما يعتبر “إدارة شرطية” بصفته عملية قائمة على نقاط مختلفة من خط متواتر، بدايته أنها هيئات مهمتها – من حيث المبدأ – حماية القانون والنظام، وتحتفظ لنفسها بشرعية استخدام القوة بناء على مكانتها من الدولة، وهي ليست معسكرة كالجيش في الدول المختلفة.
وكانت دراسة أعدها أليكس والش باحث مستقل متخصص في الحوكمة الأمنية نشرت نتائجها بداية هذا العام أكدت “إذا تحرّينا تعريفا قائما على السعة والقدرة، بغض النظر عن السياق القائم، ففي “مؤشر عالم الأمن الداخلي” أحرزت كل من شرطة البحرين والجزائر المركزين الأول والخامس على مستوى العالم، في حين تقع المغرب واليمن في الربع الأخير من الدول بحسب ذلك التصنيف.
وإذا أخذنا بقياس آخر، نرى أن نحو تسعة من كل عشرة مواطنين أردنيين يقولون إنهم يثقون في الشرطة، لكن نحو نصف الفلسطينيين فقط يثقون فيها. في الوقت نفسه، وفي ما يتعلق بإطار العمل القانوني-القضائي، ففي حين أن قوات الشرطة في العالم العربي تعمل في إطار نظم تأسست على تقاليد “القانون المدني” الفرنسي، وتتبع نظام إجراءات جنائية تعلو فيه أهمية التحقيق والاستجواب، فإن الصورة على أرض الواقع تضم أيضا إرث القانون العام بمناطق بها نفوذ بريطاني سابق، وقوانين عديدة اشتملت على نصوص مستوعبة للشريعة الإسلامية، فضلا عن العادات والتقاليد غير المقننة. كما تعد الشرطة جزءا من نظم سياسية شديدة التنوع: من النظام السلطوي إلى الديمقراطية الناشئة المترددة، وحتى الدول الضعيفة أو المتنازع عليها، وانتهاء بمناطق النزاع والاقتتال.
ويعتبر مراقبون أن النموذج الشرطي في العالم العربي امتداد للاستعمار، إذ وجدت النخب الحاكمة نفعا كبيرا في نموذج الإدارة الشرطية الاستعمارية، في ما يتعلق بالإخضاع والسيطرة، فعمقت وطورت هذا الجانب، وجعلت الشرطة شريكا أساسيا في نظام الحكم. وفي أغلب الدول القمعية، مثل سوريا والعراق، خسرت شرطة الدرك (في الزي الرسمي التقليدي) الكثير من النفوذ في مواجهة هيئات وفروع المخابرات، التي اتسعت اختصاصاتها كثيرا لتشمل التحقيقات الجنائية، إضافة إلى التعامل مع ملفات التجسس ومكافحة التجسس والسيطرة السياسية.
وفي حالات أخرى، حيث كانت العلاقات الاستعمارية مختلفة بعض الشيء، كما في شرق الأردن، حيث كانت الدولة أقل قوة وتوسعا، فإن العلاقة بين الشرطة والناس كانت تتبع النهج الأبوي المعتمد على التقاليد والعادات، حيث الوضع الأبوي للشرطة هو دور الحماية وتأديب أبناء وبنات الأمة. وفي الكويت، يتم تناول هذا الأمر بصفة الشرطة “قدوة”. وفي عمان، الحاكم هو رئيس الشرطة. وفي الدول الخليجية الأصغر، إضافة إلى تونس ولبنان، طرأ نزوع ملحوظ في الآونة الأخيرة إلى اعتماد استراتيجيات الإدارة الشرطية المجتمعية، إضافة إلى نهج أمن الدولة المختلفة. في حين تكثر الانتقادات الموجهة إلى الشرطة في تلك الدول، فهناك قطعا جهود ممنهجة تم بذلها للتقريب بين الشرطة والشعب. هذه الاستراتيجيات متنوعة، وآثارها تتباين من حالة إلى أخرى، لكنها بدرجة أو أخرى تمثل “تخفيفا” من نموذج أمن الدولة.
لم يكن من المدهش – نظرا لتنوع سمات الشرطة عبر المنطقة – أن التنازع حول الشرطة قد تطور في المنطقة منذ 2011، وقد تكثف ذلك التنازع تحديدا في دول “الربيع العربي”.
كان التنازع الأكثر انتشارا تحدي الحشد الجماعي، حيث يتجمع المتظاهرون في أعداد غفيرة احتجاجا على الشرطة. ويختلف المحك الرئيسي للمظاهرات من بلد إلى بلد. على سبيل المثال، ركزت بعض المظاهرات في خريف 2018 بالسودان على إساءة معاملة النساء وما يُدعى بشرطة “أمن المجتمع”، في حين ركز خطاب المتظاهرين في المغرب في أكتوبر 2016 على موت بائع أسماك سحقته سيارة بلدية بعد رمي أعوان الأمن لبضاعته. وتحول الرجل إلى رمز لظلم الشرطة/الحكومة. يمكن تعقب جذور هذه السرديات حتى لحظة انتفاضات 2011، وإشعال محمد البوعزيزي النار في نفسه في ديسمبر 2010، في تونس بعدما أهانته الشرطة.
وعلى رغم استمرار هذا الشكل من أشكال التنازع، فإن النجاحات الفورية في تحدي المفاهيم القائمة للإدارة الشرطية تميل إلى كونها نجاحات دراماتيكية، وإن كانت محدودة. في حين دفع الزخم الثوري في 2011 قوات الأمن المصرية إلى الابتعاد عن الشوارع لفترة، مع حلّ جهاز أمن الدولة سيئ السمعة، فقد قام الجهاز الأمني بعد ذلك بتعزيز مركزه.
وعلى الجانب الآخر، تمثل تونس حالة نجحت نجاحا جزئيا، ما أدى إلى مكتسبات سريعة، مع حل ما كان يُعرف بمسمى “البوليس السياسي”، وعزل بعض كبار القادة في الشرطة. لكن تطور تحدي الحشد الجماعي إلى جهود مؤسسية. في عام 2014 نصّ الدستور الجديد على أن الشرطة هيئة غير سياسية، ووضعت وزارة الداخلية دليلا لحقوق الإنسان، وتمت مراجعة القوانين الحاكمة للتوقيف، مع إتاحة الحق القانوني للعاملين بقطاع الأمن في العمل النقابي. وتعمل حاليا لجنة برلمانية تُشرف على قطاع الأمن.
ورغم ذلك يعبر حقوقيون عن أسفهم إزاء عدم اتساع مدى انتهاز فرص إصلاح الشرطة والإصلاحات العامة في تونس بالقدر الكافي، مع انحسار ما يمكن عمله الآن إزاء هذا الملف. لكن النقطة المهمة هنا هي أن الإصلاح القائم عملية قائمة لم تنته.

طيلة عقود، يُحاول علماء النفس فهم العوامل التي تؤدي إلى تفسير انتهاكات الحقوق من قِبَل مَن يفترض أنهم حُراس للعدالة ومنفذون للقانون. في هذا الإطار، جاءت دراسة، نُشرت في دورية نيتشر هيومن بيهيفير، يُلقي فيها باحثان بريطانيان الضوء على أحد أسباب تلك الانتهاكات، ألا وهو ما وصفوه بـ”وجود التفاح الفاسد وسط صفوف الشرطة”.
يقول المثل إن “تفاحة فاسدة واحدة يُمكن أن تُفسد بقية التفاح في الصندوق”، ومن الناحية العلمية، يُعد المثل صحيحا بنسبة 100 في المئة؛ إذ ينبعث من التفاحة الفاسدة غاز الإيثيلين -وهو غاز طبيعي يُنضِج الثمار بشكل سريع- ما يؤدي إلى زيادة تركيز الغاز في الثمار الباقية، وبالتالي الإفراط في النضوج، ما يجعل الفطريات والبكتيريا تُهاجم الثمار من نقاط ضعفها -وهي القطع التي تنضج بصورة مفرطة- لتتسبب في زيادة انبعاث الغاز ذاته، فتنضج الثمار أسرع، وتدخل في حلقة مفرغة، تؤدي في النهاية إلى فسادها كليا. لذا ينصح كل خبراء التغذية بالتخلص من التفاحة الفاسدة على الفور؛ كي لا يتأثر التفاح السليم في الصندوق. وكذلك هو حال خبراء علم النفس الذين ينصحون أيضا بضرورة التخلص من “أقران السوء في جهاز الشرطة”؛ “فوجودهم يحث الباقين على الفساد”.
وكشفت الدراسة عن نتيجة كارثية، تقول إن عقاب ضباط الشرطة الفاسدين بنقلهم من أماكنهم إلى مجموعات عمل جديدة يُمكن أن يزيد من احتمالية أن يُشارك أقرانهم الجدد في سوء السلوك.
يُثير فهم تأثير سلوك مَن حولنا على سلوكنا الخاص -والمسمى علميّا بتأثيرات النظراء- اهتمام علماء الاجتماع طيلة العقود الماضية. في الحقيقة يصعب تقدير ذلك التأثير لعوامل عدة؛ إذ أن العلماء الذين يقولون بمحدودية تلك التأثيرات يُظهرون على الدوام أن جزءا لا يُستهان به من التأثر يرجع إلى شخصية المتأثِّر ذاتها، فالأشخاص يكون لديهم ميل للتأثر بمَن يشبهونهم، بمعنى أن عملية انتقال صفة معينة من شخص إلى آخر يجب أن يكون لها مُحرك نفسي وسلوكي في شخصية المتأثِّر.
ويقول أستاذ دراسات الجريمة والعدالة في جامعة دريكسل روبرت كين “إن الممارسات غير الأخلاقية في جهاز الشرطة، كتلقي الرشاوى وتزييف الأدلة وتلفيق التهم والقوة غير المسوغة، يُمكن أن تنتقل -من الناحية السلوكية- من ضابط إلى آخر، خصوصا أن إدارات الشرطة تحمي سمعتها على الدوام” وتحاول “إخفاء أدلة تورُّط ضباطها”، وهو ما يُعطي نوعا من أنواع الحماية المسبغة سلفا على تصرفات الفاسدين، “وبالتالي ينتقل السلوك نتيجة غياب العقاب”.
آمال الشعوب تتطلب أن يتخذ رجال الشرطة دورا جديدا كحماة لحكم القانون آمال الشعوب تتطلب أن يتخذ رجال الشرطة دورا جديدا كحماة لحكم القانون
يعتبر رجال الشرطة في معظم أنحاء العالم العربي وبشكل عام عوامل قمع واضطهاد. وتتطلب آمال الشعوب أن يتخذ رجال الشرطة دورا جديدا كحماة لحكم القانون… أن يتحول جهاز الشرطة الحالية جهاز “شرطة مجتمعية”.
يقوم مفهوم الشرطة المجتمعية على التعاون الإيجابي الفعال بين الشرطة والمجتمع في حل المشكلات المجتمعية إذ لم تعد الشرطة في أيامنا هذه الوصي الوحيد على القانون والنظام، بل أصبح كل فرد من أفراد المجتمع مساهما أساسيا في حفظ الأمن والأمان كلّ في منطقته.
ويؤكد مراقبون أنه لا يمكن إنشاء شرطة مجتمعية بين عشية وضحاها، فهي تحتاج إلى الشراكة مع المجتمع المحلي، كما لا يمكن إسقاط نموذج من بلد مجتمع معين على مجتمع آخر إذ يجب أن يكون المجتمع المعني شريكا فـي تصميمها وتنفيذها.
ويشبه رئيس شرطة أسكتلندا السابق السير ستيفن هـاوس “الشـرطة المجتمعية غير النابعة من المجتمع تشبه محاولة غرس نبتة في بيئة غير مناسبة. لن يقدر لها الحياة".
ويقول مراقبون إن “هناك حاجة إلى تحول عقائدي ونموذجي في مفهوم الأمن: من كسب السلطة عن طريق العنف وتاريخ من خدمة النظم القمعية إلى تعزيز حقوق المدنيين وحمايتهم”.
ويقول الباحث اللبناني يزيد الصايغ إن “الحياد ضرورة أساسية. إرث عدم الثقة والاستقطاب السياسي في البلدان التي تخوض مرحلة انتقالية، يجعل من الضروري أن تتجنّب القوى السياسية الفاعلة أن تتنافس للسيطرة على قطاع الأمن. ولذا ينبغي تعيين وزراء داخلية محايدين وتمكينهم”. كما يؤكد ضرورة “إصلاح القطاع الأمني يجب أن يتم من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. يجب أن تتم عمليات التصميم المؤسّسي وصنع السياسات وضمان الامتثال من أعلى إلى أسفل، غير أنه ينبغي إشراك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام لبناء التوافق العريض في الآراء، وتوفير الشفافية، وتوليد الضغط المكمّل على قطاع الأمن كي يستجيب ويمتثل”.
ويضيف أنه يجب أن يرتبط توفير مصلحة حقيقية لقطاع الأمن، من خلال تحسين قدراته المهنية والأجور وشروط الخدمة وسياسات التعيين والترقية الخاصة به، بتحسين أدائه وامتثاله إلى الرقابة القانونية والسياسية والمالية في المقابل.
كما يجب على الحكومات ألا تتنازل بشأن القضايا المفصلية. المساومة أمر لا يمكن تجنّبه، غير أنه يتعيّن على الحكومات أن تتمسّك بموقفها وألّا تخضع إلى الضغوط عندما يتعلق الأمر بوضع حدّ لحصانة قطاع الأمن من المساءلة، ووضع السياسات والميزانيات، وإصدار التعيينات القيادية العليا أو المصادقة عليها.


www.deyaralnagab.com