logo
دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في النكبة (4-4)!!
بقلم : د. محمود محارب  ... 28.05.2019

ملخص
تبحث هذه الدراسة في دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في النكبة سنة 1948 استنادًا إلى وثائقه. وتقف عند العوامل الأساسية التي ساهمت في دعمه، عشية حرب 1948، إنشاءَ دولةٍ للمستوطنين الكولونياليين الصهيونيين اليهود في فلسطين ضد إرادة أصحابها الشرعيين وعلى حسابهم. وتتابع الدراسة كيفية انخراطه وعمله في جميع المجالات الفكرية والسياسية والعسكرية والإعلامية والأممية لتحقيق هذا الهدف. كما تعالج تجاهل الحزب الشيوعي الإسرائيلي الطبيعة الكولونيالية الإحلالية والإجلائية للحركة الصهيونية وتحالفها المتين مع الدول الاستعمارية، وتجاهله هدف الصهيونية ونشاطها لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتسويغه سعيها لإقامة الدولة اليهودية على حسابه بأنه "نضال من أجل التحرر القومي ومن أجل الاستقلال"، ونفيه في الوقت نفسه حق الشعب العربي الفلسطيني في الدفاع عن وطنه ووقوفه ضد الحركة الوطنية الفلسطينية، وادعاءه أنها "عميلة للاستعمار"، وأن المقاتلين الفلسطينيين والعرب ما هم إلا "عصابات مأجورة" و"قتلة" و"خدم" الاستعمار.
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث

1. وضع الأمن
أكدت اللجنة المركزية أن وضع الأمن للييشوف في الشهر الماضي (شباط/ فبراير 1948) أصبح خطيرًا، واتهمت الإمبريالية البريطانية بالتسبب في ذلك لأنها نظّمت، كما ادعت اللجنة المركزية، الحرب العسكرية ضد قرارات الأمم المتحدة. ومرت هذه الحرب، وفق ادعاء اللجنة المركزية، بثلاث مراحل. ففي المرحلة الأولى، "جندت الإمبريالية بمساعدة اللجنة العربية العليا عصابات من العناصر الضعيفة من السكان العرب" لتقاتل ضد الييشوف. وقد عارض ذلك، وفق ما ادعته اللجنة المركزية، الكثير من القرى العربية وطبقات واسعة من الشعب العربي من عمال وحرفيين وتجار. ونتيجة لذلك، فشلت الإمبريالية البريطانية في إثارة أجزاء واسعة من الشعب الفلسطيني ضد الييشوف، فاضطرت إلى الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي "تجنيد عصابات من صفوف عناصر ظلامية من الدول العربية المجاورة ومن مناطق بعيدة". ولم تكتفِ اللجنة المركزية بهذه الافتراءات في سياق سعيها لتشويه النضال الفلسطيني، فأضافت افتراءً آخر لتسويقه ليس في فلسطين فقط، وإنما أيضًا للأحزاب الشيوعية والقوى التقدمية في العالم، ولا سيما في أوروبا الشرقية التي عانت الأمرّين من الاحتلال النازي، فذكرت أن "الإمبريالية البريطانية تقوم بتجنيد عشرات الضباط النازيين لهذه العصابات"، وذلك في الوقت الذي تزيد فيه من مصادرتها سلاح الييشوف ومن قيامها بتفجير مواقع للهاغاناه. واستطردت اللجنة المركزية قائلة إنه "في ضوء الصمود الأسطوري للييشوف اليهودي"، وفي ضوء ما زعمته معارضة الغالبية العظمى للشعب العربي في البلاد المشاركة في الهجوم على الييشوف اليهودي، انتقلت الإمبريالية البريطانية إلى المرحلة الثالثة، وهي وفق افترائها "المشاركة المباشرة للجيش والشرطة البريطانيَّين في الهجوم على الييشوف". كما أضافت اللجنة المركزية قائلة إن الجهة التي يواجهها الييشوف اليوم ليست جهة سياسية فقط، وإنما هي جهة عسكرية تشمل الإمبريالية البريطانية والرجعية العربية أيضًا. واستخلصت اللجنة المركزية أنه يجب، من أجل تحسين الإدارة والقيادة لـ "حربنا العسكرية"[1]، أن يكون للييشوف اليهودي المقاتل جيش واحد فقط، وأنه ينبغي إلغاء اتفاق منظمة الهاغاناه مع منظمة إتسل، ويجب إشراك جميع الأحزاب الديمقراطية اليهودية في قرارات الييشوف العسكرية والسياسية.
2. القضاء على التهرب من الخدمة وعلى السمسرة
انتقدت اللجنة المركزية بشدة قيادة الييشوف اليهودي لتقصيرها، وفق ما ادعته اللجنة المركزية، في مكافحة التهرب في صفوف الييشوف من الخدمة العسكرية، وفي التصدي للسمسرة في الييشوف. وأبدت اللجنة المركزية في بيانها حرصها على أمن الييشوف وحربه أكثر من قيادة الييشوف، فأكدت أنه في الوقت الذي يهدد فيه "العدو الإمبريالي" الوجود الجسدي المادي للييشوف اليهودي، فإن قيادة الييشوف لم تقم بتجنيد الييشوف وفقًا لمتطلبات مواجهة الخطر المحدق به على وجوده المادي. وادعت اللجنة المركزية أن قيادة الييشوف لم تتخذ الإجراءات الكافية ضد المتهربين من الخدمة العسكرية، ولا سيما ضد الأغنياء منهم، وضد أصحاب رؤوس الأموال الذين اتهمتهم اللجنة المركزية بالتهرب من القيام بواجبهم، في الوقت الذي كان فيه الييشوف في أمسّ الحاجة إلى ملايين الليرات لشراء السلاح والذخيرة. ودعت اللجنة المركزية قيادة الييشوف إلى اتخاذ الإجراءات الصارمة ضد المتهربين من الخدمة العسكرية، وضد السماسرة والمضاربين بالأسعار، واعتبارهم خائنين للوطن.
3. الحكومة المؤقتة
دعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي قيادة الحركة الصهيونية إلى تشكيل الحكومة المؤقتة في أقرب وقت ممكن، وقبل انتهاء آذار/ مارس 1948. وطالبت بأن تشمل هذه الحكومة الحزب الشيوعي وجميع الأحزاب الصهيونية العمالية. وأكدت اللجنة المركزية أن على الحكومة المؤقتة، عند تشكيلها، الإعلان عن حالة الطوارئ وتجنيد جميع المساعدات من "الشعب اليهودي في العالم"، والتوجه إلى جميع الدول الديمقراطية، ودعوتها إلى تقديم مختلف أشكال الدعم للييشوف اليهودي ضد "العدوان الإمبريالي" و"العصابات العربية من الدول العربية المجاورة". ودعت اللجنة المركزية الحكومة المؤقتة، "في ضوء الحرب العلنية" التي تشنها الإمبريالية البريطانية ضد إقامة الدولة اليهودية، و"في ضوء التخريب المتعمد" الذي تقوم به حكومة الولايات المتحدة الأميركية، أن تستخلص العبر، وأن تقف بشدة ضد التوصل إلى أي حل وسط على حساب سيادة الدولة اليهودية، وأن تعلن أنها ستعتبر أن "أي محاولة للخضوع للضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية للأعداء الإمبرياليين هي خيانة للوطن والشعب"[2].
4. دور الحزب الشيوعي
أكدت اللجنة المركزية مجددًا أن الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي بجميع كوادره وأعضائه وأنصاره، مجندون لمصلحة "حرب الييشوف اليهودي للاستقلال"؛ إذ إن "الحرب من أجل الاستقلال وإخلاء الجيش الأجنبي ما زالت مستمرة، فالإمبريالية الأميركية والبريطانية تقوم بكل شيء رغم الإعلانات من أجل إبقاء الحكم الإمبريالي بشكل جديد". ودعت اللجنة المركزية "جميع أعضاء الحزب إلى الانخراط فورًا، في هذه الساعة الحاسمة لمستقبل الييشوف، في الصفوف الأمامية للمناضلين ضد أي حل وسط مع الإمبريالية، والتصدي لكل هجوم عسكري أو سياسي أو اقتصادي ضد الييشوف اليهودي". وأكدت اللجنة المركزية أنه يتحتم على أعضاء الحزب المنخرطين في صفوف قوات الييشوف العسكرية في الجليل والنقب وفي مختلف خطوط التّماس في المدن والمستوطنات، أن يمثّلوا نموذجًا لمقاتلين من أجل الحرية. واختتمت اللجنة المركزية قراراتها بالشعار "تجنيد كامل من أجل الاستقلال الكامل"[3].
ثامنًا: موقف الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي من مطلب وضع فلسطين تحت الوصاية
في أعقاب المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب العربي الفلسطيني في الشهور الثلاثة الأولى من سنة 1948، وفي أعقاب خشية الولايات المتحدة من عدم قدرة الحركة الصهيونية على فرض الدولة اليهودية بقوة السلاح على الشعب الفلسطيني، أعلن مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في 19 آذار/ مارس 1948 أن حكومة الولايات المتحدة سحبت تأييدها مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين، وأنها باتت تميل إلى فرض نظام الوصاية على فلسطين بدلًا من قرار التقسيم. واتخذ هذا الموقف أيضًا كل من فرنسا وبريطانيا والصين وأغلبية الدول الأعضاء في مجلس الأمن، ما عدا الاتحاد السوفياتي الذي ظل مصممًا على تنفيذ قرار التقسيم، ولا سيما الشطر الخاص منه المتمثل بإقامة دولة يهودية في فلسطين[4]. وقد أجمعت كل المؤسسات والأحزاب الصهيونية على إدانتها ورفضها بشدة اقتراح الولايات المتحدة بوضع فلسطين تحت الوصاية الدولية بدلًا من تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها. وبرز الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي في رفضه هذا الاقتراح ونعته بمختلف النعوت السلبية. ولم ينطلق الحزب الشيوعي في رفضه هذا الاقتراح من منطلق احترام قرارات الأمم المتحدة. فالحزب الشيوعي كان يعمل علنًا على أنه يقف ضد قرارات الأمم المتحدة، ويعمل ضدها عندما كانت هذه القرارات تتناقض مع أهداف الحركة الصهيونية، مثل تأييده احتلال أراضٍ عربية فلسطينية مخصصة للدولة العربية الفلسطينية وفق قرار التقسيم، وتأييده احتلال الجيش الإسرائيلي أثناء حرب 1948 أراضيَ تابعة للدول العربية، كانت خارج حدود الدولة اليهودية، وكذلك مثل تنظيم جلب السلاح والهجرة اليهودية والمقاتلين اليهود من أوروبا الشرقية، خلافًا لقرارات الأمم المتحدة، كما بيّنا سابقًا.
وقد شن الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي حملة شعواء ضد اقتراح الوصاية المؤقتة على فلسطين، وفي هذا السياق انتقدت صحيفة كول هعام هذا الاقتراح بشدة، وحمل عنوان عددها الصادر في 21 آذار/ مارس 1948 "خيانة مخجلة لحكومة أميركا" الذي صبّت فيه جام غضبها على الاقتراح الأميركي[5]. وفي افتتاحيتها في العدد نفسه كتبت كول هعام تحت عنوان "لن تنجح المؤامرة": إن حكومة أميركا الإمبريالية أعلنت عن تخليها التام عن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وبذلك "تحوّل الآن التخريب الخفي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة إلى خيانة علنية". وأردفت كول هعام قائلة إن استقلال الييشوف غير مرتبط بالاعتبارات الإمبريالية الأميركية، و"لن يتأثر استقلالنا القومي بسبب هذه الخيانة الأميركية. فحريتنا مرتبطة بنا، بالييشوف اليهودي وبحلفائنا الحقيقيين". وأضافت كول هعام قولها إن الييشوف اليهودي حشد جميع طاقاته من أجل إقامة الدولة اليهودية وإفشال نظام الوصاية، وإن على قيادة الييشوف التوجه فورًا إلى المعسكر الاشتراكي، وطلب المساعدات منه لتمكين الييشوف من إقامة الدولة اليهودية[6].
وفي 22 آذار/ مارس 1948 أصدر الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي بيانًا بعنوان "لتقم الحكومة المؤقتة للدولة اليهودية فورًا"، استهلّه بقوله: "لقد أصبح التخريب الأميركي على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإقامة الدولة اليهودية خيانة مكشوفة"[7]. وأضاف قوله: "إن استقلال الييشوف اليهودي لا يعتمد على الاعتبارات والمؤامرات الإمبريالية لمستعبدي الشعوب ومثيري الحروب في واشنطن ولندن. إن حريتنا تعتمد علينا، نحن الييشوف اليهودي. نستطيع الحصول على استقلالنا القومي فقط من خلال الحرب". وقال البيان أيضًا: "لسنا معزولين، لنا حلفاء عظماء. الاتحاد السوفياتي وبلدان الديمقراطية الشعبية في شرق أوروبا، وكل الشعب اليهودي وكل القوى التقدمية في العالم تقف إلى جانبنا! لنحارب ضد كل محاولة للاستسلام! لنجند كل الييشوف في معسكر مقاتل لإقامة دولتنا. ولنقاوم كل عمل عدائي من جانب الإمبرياليين الغرباء وعصاباتهم العربية المأجورة". واختتم الحزب الشيوعي بيانه بدعوته قيادة الييشوف إلى إقامة الحكومة المؤقتة للدولة اليهودية فورًا[8].
في حين شرعت منظمة الهاغاناه وقواتها الضاربة، البلماح، في تنفيذ خطة "دالت" الكبرى لطرد الشعب العربي الفلسطيني من مدنه وقراه، ولا سيما من المنطقة الفلسطينية المخصصة لإقامة الدولة اليهودية فيها وفق قرار التقسيم، والتي شارك أعضاء الحزب وأنصاره فيها من خلال انضمامهم أولًا إلى منظمة الهاغاناه والبلماح، ثم إلى الجيش الإسرائيلي، وفي حين كانت القوات العسكرية اليهودية ترتكب المجازر في حق المدنيين الفلسطينيين، كتب مئير فلنر مقالة مهمة بعنوان "الحرب من أجل استقلالنا"، عبّر فيها عن سياسة الحزب الشيوعي وروحيته في تلك الفترة. استهل فلنر مقالته بقوله: "إن حرب البطولة التي يخوضها شبابنا ستسجل في التاريخ كإحدى الصفحات الأكثر إشراقًا في الحرب من أجل الحرية للشعب اليهودي والإنسانية جمعاء"[9]. وقال فلنر إن جماهير الييشوف اليهودي صامدة ببطولة في الحرب، وهي مصممة على نيل الحرية والاستقلال القومي، وتكره الطغاة البريطانيين الغرباء و"عصابات المفتي التي تساعدهم". وانتقد فلنر قيادة الييشوف اليهودي بشدة لأنها "قررت الخضوع لضغط مارشال وبيفن"[10]، ولم تعلن قيام الحكومة المؤقتة للدولة اليهودية.
ادعى فلنر أن وجود الييشوف اليهودي في فلسطين في خطر، وأن الإمبريالية الأميركية "تمهد لإبادة اليهود تمامًا كما فعل هتلر"[11]، وقال إنه إذا ما نجحت السياسة الإمبريالية الأميركية في إثارة حرب عالمية جديدة، فإن الحملة التي تقوم بها الإمبريالية الأميركية ضد الاتحاد السوفياتي تنسجم مع الحملة الإمبريالية ضد اليهود من أجل إبادتهم. وادعى فلنر أن "خطة مارشال في ما يخص الشعب اليهودي لن تكون مختلفة عن خطة هملر وخطة مايدنك وأوشفيتس وبابيار تمامًا، كما أن عقيدة ترومان لا تختلف عن عقيدة كتاب كفاحي". وعلل فلنر اتهاماته الخطيرة هذه بأن الولايات المتحدة تسعى لإبادة اليهود، وهي الاتهامات المنافية جدًا للواقع، لأن الولايات المتحدة تراجعت عن دعمها لقيام دولة يهودية، واقترحت فرض الوصاية على فلسطين. فذكر فلنر أن "التراجع في موقف أميركا من القضية الفلسطينية ليس مصادفة، وهو ليس مجرد تغيير في توقيت تحقيق إقامة الدولة اليهودية. فهذا القرار هو قرار تاريخي، وهو ينبع من رؤية الإمبريالية الأميركية الشاملة". فالإمبريالية الأميركية التي تحضّر للحرب العالمية الثالثة ضد الاتحاد السوفياتي، لا تعد الييشوف اليهودي في فلسطين جزءًا من معسكر مناصريها في الشرق الأوسط؛ ذلك أن الإمبريالية الأميركية والإمبريالية البريطانية وفق فلنر "تعتقدان أنه حتى إن وُجد قادة يهود في الييشوف الذين يخونون شعبهم ويناصرون الإمبريالية، وينخرطون في قطار الهتلرية الأميركية والموسولونية الإنكليزية ضد السلم العالمي، فإن جماهير الييشوف اليهودي لن تسمح لهم بالقيام بهذه المهمة القذرة". وعدّ فلنر أن التراجع الأميركي لم يكن فقط ضد إقامة دولة يهودية، وإنما كان أيضًا ضد مجرد وجود الييشوف اليهودي في فلسطين. ثم تساءل فلنر: "هل الشعب اليهودي مرغم أن يتعرض لهولوكوست جديد؟". وقال فلنر أيضًا إن الإمبريالية الأميركية التي "تتجرأ على غمر شعوب اليونان والصين وإندونيسيا ببحر من الدماء، فإنها ستتجرأ أيضًا على إبادة الييشوف اليهودي في البلاد"[12]. واستخلص فلنر أن إمكانية خضوع الييشوف اليهودي للوصاية تعني الانتحار.
وشدد فلنر في مقالته على أن "الشعب اليهودي" ليس وحيدًا في حربه، فالمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي يقف إلى جانبه. وما على الييشوف اليهودي سوى الاستمرار في الحرب بلا هوادة، فاستمراره في الحرب يقود إلى حصوله على المساعدات من "جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والسلام". والبديل من الاستمرار في الحرب هو "غيتو وفقدان الإمكانية للاستقلال وخطر الإبادة". واتهم فلنر قيادة الوكالة اليهودية بالتقصير في قيادة الحرب، وأنها تخشى الإمبريالية الأميركية والبريطانية وتتراجع أمامهما، وأنها تتردد في إقامة الحكومة المؤقتة للدولة اليهودية لأنها ترغب "في الرقص على الحبلين"، وأنها تمنع التجنيد الكامل للييشوف اليهودي وتمنع كذلك حصول الييشوف، في حربه الدائرة، على مساعدة القوى التقدمية في العالم. وأضاف فلنر قوله: "إننا نحذّر قيادة الييشوف والأمم المتحدة: لن يكون وقف لإطلاق النار من دون استقلال الدولة اليهودية"، وأكد أن "حرب الييشوف ضد الإمبريالية ستستمر وستتعزز حتى إذا استمرت قيادة الييشوف في الارتداع" عن مواجهة الإمبريالية. ومن أجل استمرار الييشوف اليهودي في الحرب، دعا فلنر إلى إقامة جبهة وطنية يشارك فيها الحزب الشيوعي مع جميع "القوى التقدمية" و"القوى المعادية للإمبريالية"، بما في ذلك حزب العمال الموحد والهاغاناه، من أجل التصدي لخطر خنوع قيادة الييشوف للإمبريالية. فالطريق الوحيدة، وفق فلنر، هي الاستمرار في "حرب البطولة التحررية" لإقامة الدولة اليهودية بقوة السلاح[13].
على إثر وصول كميات كثيرة من الأسلحة المتطورة من تشيكوسلوفاكيا في بداية نيسان/ أبريل 1948، كما أشرنا إلى ذلك سابقًا، تمكّنت قوات الهاغاناه من تغيير سير المعارك والشروع في احتلال أجزاء واسعة من فلسطين، وطرد الفلسطينيين من المدن والقرى التي احتلتها بعد ارتكاب المجازر في حقهم وإعلان تأسيس إسرائيل في الخامس عشر من أيار/ مايو 1948.
وعند احتلال الهاغاناه، ثم الجيش الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل، مدنًا وقرى وأراضيَ عربية واسعة خارج حدود الدولة اليهودية، وتابعة للدولة العربية الفلسطينية وفق قرار التقسيم، لم يطالب الحزب الشيوعي الإسرائيلي إطلاقًا بانسحاب القوات العسكرية الإسرائيلية من هذه الأراضي، بل إنه، على النقيض من ذلك تمامًا، انتقد بشدة الحكومة الإسرائيلية "لخضوعها للضغوط الإمبريالية" بالانسحاب من أراضٍ فلسطينية وعربية تقع خارج المنطقة المخصصة للدولة اليهودية وفق حدود قرار التقسيم، وأيضًا لعدم احتلالها أراضيَ أخرى خارج حدود الدولة اليهودية، ولتخلّيها عن أراضٍ تابعة للدولة اليهودية وفق قرار التقسيم[14]. وكذلك انتقد الحزب الشيوعي الإسرائيلي بشدة الحكومة الإسرائيلية لفشلها في "تحرير" أراضٍ أخرى كان يعتقد الحزب الشيوعي أنه كان باستطاعة إسرائيل "تحريرها"، فقد اتهم شموئيل ميكونيس بن غوريون وانتقده، لعدم "تحريره مدينة القدس العربية القديمة رغم توافر جميع الشروط اللازمة لذلك"، وأوضح ميكونيس أن "الفشل في تحرير القدس القديمة كان نتيجة خضوع الحكومة الإسرائيلية لضغوط بريطانيا"[15].
خاتمة
لقد تبنّى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الرؤيا والرواية الصهيونيتين لحرب 1948. وشارك أعضاء الحزب الشيوعي وأنصاره في حرب 1948 في صفوف البلماح والهاغاناه والجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني والدول العربية، وفي تنفيذ خطة "دالت"، وفي احتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد الفلسطينيين منها.
وقد ارتكبت الهاغاناه والبلماح والجيش الإسرائيلي، وفق ما ذكره المسؤول عن الأرشيف الإسرائيلي، 110 مجازر في حرب 1948[16]. وكان أعضاء الحزب الشيوعي يقاتلون في صفوف البلماح والهاغاناه والجيش الإسرائيلي، وشاركوا في ارتكاب المجازر. لم يعترف الحزب الشيوعي بحدوث هذه المجازر، ولم يحتجّ على أي منها، رغم أنه كان يعرف عنها كما كان يعرف عنها جميع قادة الأحزاب الإسرائيلية الأخرى. كذلك شارك جنود الحزب الشيوعي الإسرائيلي وضباطه في الحرب في توسيع حدود الدولة اليهودية إلى خارج حدود التقسيم، وفي احتلال أراضٍ تابعة للدولة العربية الفلسطينية وفق قرار التقسيم، ورَفَضَ الحزب الشيوعي الإسرائيلي انسحاب إسرائيل منها. وانتقد الحزب الشيوعي الإسرائيلي الحكومة الإسرائيلية بشدة لتقصيرها في احتلال مناطق تقع خارج المنطقة المخصصة للدولة اليهودية، وفق قرار التقسيم، كان بإمكانها احتلالها، ولكنها لم تقم بذلك "لخضوعها للإملاءات الاستعمارية"، وفق ما ذكره الحزب، مثل عدم إصدارها الأمر باحتلال البلدة القديمة في القدس العربية. وانتقد الحزب الشيوعي الإسرائيلي بشدة الحكومة الإسرائيلية لانسحابها من مناطق عربية تابعة لدولة عربية احتلتها، مثل انسحابها من سيناء والعريش في حرب 1948 تحت الضغط البريطاني والأميركي. وأيد الحزب الشيوعي الإسرائيلي بشدة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وساهم خلال الحرب بكل طاقاته في تنظيمها وفي تنظيم الهجرة اليهودية المقاتلة من دول أوروبا الشرقية. وشارك الحزب الشيوعي الإسرائيلي في توطين المهاجرين اليهود في المدن والقرى الفلسطينية التي هجرت الهاغاناه والبلماح والجيش الإسرائيلي أصحابها الفلسطينيين منها. وشارك الحزب الشيوعي الإسرائيلي كذلك في المبادرة وفي تنظيم استيلاء المهاجرين اليهود على الممتلكات والأراضي العربية الفلسطينية، ورفع شعار "الأرض لمن يفلحها"، بعد طرد أصحابها العرب الفلسطينيين منها.
وبخلاف الانطباع السائد، تخلّى الحزب الشيوعي الإسرائيلي بسرعة مذهلة عن المطالبة بتطبيق قرار التقسيم المتعلق بإقامة دولة عربية فلسطينية، وعارض انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التابعة للدولة العربية الفلسطينية التي احتلتها القوات الإسرائيلية، وأخذ يتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها صراعًا بين دول، دولة إسرائيل من ناحية والدول العربية من ناحية أخرى. وتبنّى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الرواية الصهيونية في أسباب اقتلاع الفلسطينيين وتهجيرهم من مدنهم وقراهم الفلسطينية، ونفى أن تكون الحركة الصهيونية وقواتها العسكرية هي التي هجّرت الشعب الفلسطيني من وطنه، واتهم عوضًا عن ذلك الضحية الفلسطينية وحمّلها مسؤولية التهجير. فقد اتهم الحزب الشيوعي الإسرائيلي القيادة الفلسطينية والبنك العربي والشركات المرتبطة بهما، إلى جانب الرجعية العربية والاستعمار البريطاني، بالتسبّب في هجرة الشعب الفلسطيني.
للاطلاع على الدراسة في مجلة "أسطور".. اضغط/ ي هنا

[1] المرجع نفسه.
[2] المرجع نفسه.
[3] المرجع نفسه.
[4] عارف العارف، نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود، ج 1 (صيدا: المكتبة العصرية، 1956)، ص 136.
[5] "خيانة مخجلة لحكومة أميركا"، كول هعام، 21/3/1948.
[6] "لن تنجح المؤامرة"، كول هعام، 21/3/1948.
[7] بيان الحزب الشيوعي الأرض – إسرائيلي، "لتقم الحكومة المؤقتة للدولة اليهودية فورًا"، كول هعام، 22/3/1948.
[8] المرجع نفسه.
[9] مئير فلنر، "الحرب من أجل استقلالنا"، كول هعام، 2/4/1948.
[10] المرجع نفسه.
[11] المرجع نفسه.
[12] المرجع نفسه.
[13] المرجع نفسه.
[14] اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي، المؤتمر العام الحادي عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي (تل أبيب: اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي، 1949)، ص 48-49 (بالعبرية).
[15] ميكونيس، عواصف الزمن، ص 129-130.
[16] يئير أورون، الكارثة، النهضة والنكبة (تل أبيب: ريسلينغ، 2013)، ص 313 (بالعبرية).

**المصدر : عرب48

www.deyaralnagab.com