logo
عن تلك الـ«فوضى» خلف الجدار العازل صراعٌ داخلَ صندوقٍ مغلقٍ والكل سيختنق!!
بقلم : ندى حطيط ... 29.06.2018

رغم كتلةٍ شاهقةٍ من المثالب الأخلاقيّة التي تشوب المسلسل الإسرائيلي «فوضى» – موسمين في 2015 و2018 – تحول هذا الطبق البصري إلى واحد من أكثر الأعمال جماهيريّة على منصة نيتفليكس للأفلام والمسلسلات – ذات الانتشار العالمي – إلى جانب شعبيته الجارفة في الكيان العبري ليس فقط بين الإسرائيليين المحتلين ولكن أيضاً بين الفلسطينيين الذين هم حتماً الطرف الخاسر الأبدي في دراما المسلسل. وتبدو مسارعة نيتفليكس إلى الشروع في التحضير لموسم ثالث إشارة فاقعة إلى بعد خاص يتمتع به رغم طابعه الشديد المحليّة في وقت تتناثر جثث عشرات الأعمال الغربيّة الفاشلة في صحراء الفضاء السيبيري. فباستثناءاتٍ تكاد تُعد على الأصابع، تبدو الأعمال التلفزيونيّة الغربيّة عموماً والأمريكيّة منها بشكل خاص وكأنّها قد فقدت القدرة على تقديم محتوى يمكنه تجاوز تقنيات التصوير المبهرة إلى تضمينه شيئاً من فكرة ترفض التسطيح الثنائي الأبعاد فتخاطب مشاهدها بأبعد من أنفه مع الاحتفاظ في ذات الوقت بالقدرة على تشويقه دون اللجوء إلى الوحوش الأسطورية وشياطين الفانتازيا هرباً من فقر الخيال وانعدام الشجاعة في معاقرة الواقع، والخضوع الأعمى للسرديّات الرسميّة عن الأحداث والأشخاص والمآلات. فما الذي يقدّمه «فوضى» ليحظى بكل هذا الألق؟
يوميّات مستعرب في الضفّة الغربيّة
يروي المُسلسل (بطولات) وحدة مستعربين إسرائيليّة تعمل داخل الضفة الغربيّة المحتلّة في إطار حربها الدائمة ضد (الإرهابيين) الفلسطينيين – المستعربون هم وحدات أمنيّة خاصة يتنكر أفرادها كعرب فلسطينيين ويعتبرون من أهم أدوات استدامة السيطرة العبريّة على المناطق ذات الكثافة العربيّة في فلسطين المحتلة -. وكما يُتوقع من أي مُنتج إسرائيلي في كيان عنصري قائم على مبدأ الاحتلال الاستيطاني، فإن أحداث «فوضى» تعكس ودون تلعثم سرديّة صهيونيّة تامة عن وقائع العمل اليومي لهؤلاء المستعربين لا تسعى بأي شكل من الأشكال إلى كسب الرأي العام للجانب الإسرائيلي، أو تعبأ بالترويج لمنظومة قيمية مزيّفة – كما في مثيلاتها الأمريكيّة المماثلة – ولا تحاول التقليل من همجيّة أساليب التعذيب والغدر والقتل خارج القانون التي يمارسونها ضد الأقليّة الفلسطينيّة الباقية في أرضها.
هذه الواقعيّة الشديدة تبدو وكأنها تحديداً سر ألق المسلسل في استقطاب الجمهور على تنوع مشاربه، وهي لا شك مستمدّة من خبرة كاتِبيْه بأحوال الضفة الغربيّة من خلال خدمة أحدهما الفعليّة في وحدة مستعربين – يلعب أيضاً دور الشخصيّة الإسرائيليّة الرئيسة في الفيلم- ، بينما الآخر كان مراسلا يغطي أحداث الضفة لصحيفة هآرتس الإسرائيليّة.
ثقب في الجدار العازل
الإسرائيليون يعيشون كذبة أرض الميعاد التي ليست في واقعها سوى غطاءً أيديولوجياً لتبرير سوءات مشروع احتلال استيطاني غربي يقوم على أساس إلغاء الآخر وإخراجه من الجغرافيا والتاريخ معاً، وتهرب أغلبيتهم من واقعها البائس وغربتها كمجتمع مُحتل مفتقر للأخلاقيّة الإنسانيّة يمارس الحياة على هامش صراع مستديم إلى برامج تلفزيون (الواقع) التي تُلغي المسائل العامة لمصلحة المنافسات الفرديّة العبثية المرتبطة بجمال الصوت أو حسن الطلّة هؤلاء وجدوا في «فوضى» نافذة للتلصص على الجيران الذين يحجبهم الجدار العازل ومحاولة فهم «لماذا هم يكرهوننا؟» وأي أفق ممكن هناك للنجاحات التي لا تنتهي لقوات الأمن الإسرائيليّة في تحييد الأعمال الإرهابيّة التي لا يبدو أنها تضمحل رغم كل شيء.
«فوضى» الذي يصوّر عمليات تخفٍ ومطاردات ومواجهات تجري في مدن فلسطينيّة مثل نابلس والخليل فتح كوّة في مسار تناسٍ وتغييبٍ للفلسطينيين سواء في مُجمل النتاج الدرامي الإسرائيلي – أو حتى على أرض الواقع من خلال إلقاء الفلسطينيين خلف الجدار: هؤلاء هم الجيران المباشرون، الذين هم يشبهوننا – نحن الإسرائيليون (المتحضرون) – حد الذّهول في ملامحنا الخارجيّة، وتُحسن أكثريتهم التحدث بالعبريّة، لكنهم رغم ذلك وكأنهم من كوكب آخر في ثقافتهم وأساطيرهم وطرائق عيشهم وفقرهم وبؤسهم.
نحن هنا ولن نتبخّر في الهواء
المشاهدون الفلسطينيون بدورهم، وجدوا في «فوضى» رغم كل انحيازاته الفاضحة نوعاً من اعترافٍ بوجودهم كحقيقة دامغة على الأرض، ورغم خسارتهم المحتمة في مجريات الأحداث يجدون لأول مرّة مرآة يطالعون فيها معالم من صورتهم كما يراها المهيمنون القابعون في الجهة الأخرى من الجدار، وهي صورة بكل استشراقها البغيض فيها كثير من الحقيقة عن التخلّف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الذي يعيشه الفلسطينيون لأسباب تاريخيّة دون شك، لكنه تخلّف تكرّس حتما كنتيجةٍ مباشرةٍ للتجربة الاستيطانيّة السرطانيّة في أرضهم المسلوبة.
المسكوت عنه في الـ«فوضى» أبلغ من الكلام
عبقريّة «فوضى» ليست بالتأكيد في ما تقوله مسارات أحداثه بل هي تتبدى تحديداً فيما تسكت عنه، وهو أمر لا فكاك منه في كل منتج ثقافي إن أصغنا السمع وفق رائد تفكيك الرموز الثقافيّة الفرنسي رولان بارت.
«فوضى» يعبّر بحكم واقعه عن رؤية الإسرائيلي المستعرب للعالم من حوله. المستعرب عند الإسرائيليين بطل قومي تجمع على نبل مهمته في الأراضي المحتلة كافة أطياف السياسة داخل الكيان على تعدد مرجعياتها وإن كان هناك من يتحفظ على بعض ممارساتها. هذه الرؤية يُقرأ منها فصل عنصري حاد بين عالمين مختلفين حد التناقض يفرّق بينهما – واقعياً ومجازياً – جدار عازل شاهق فلا يجمعهما سوى شراهة الشخصيات الممثلة للطرفين إلى التدخين. على الجانب الإسرائيلي: شخصيات ذات حضور لافت تلعب أدوار بطولة وطنيّة لا يكاد يظهر فيها للأساطير الدينية تأثير يذكر، تمارس أدوارها الملتبسة بصفاء ضمير منقطع النّظير، تعيش أجواء عائليّة حميمة وتسهر في مقاهٍ باذخة، وتبدو السماء والطرقات وشاطىء البحر والمباني والسيارات حولهم لامعة وبهيّة المظهر كما في أي عاصمة غربيّة، بينما النساء من حولهم متحررات منطلقات قويّات الشكيمة حد التطرّف. الجانب الفلسطيني في الطرف المقابل متخم بشخصيّات متعبة قلقة ملتبسة تسكنها وتقض مضجعها الأوهام الدينيّة، تعيش مآس عائليّة وشخصية في أجواء باهتة وفقيرة وشاحبة، في الوقت الذي تبدو النساء الفلسطينيات مجرد خلفيّات هامشيّة لمجتمع بطريركي ذكوري منحرف تحكمه علاقات أشبه بالتشكيلات المافيوية في جنوب إيطاليا. تجاور هذين الكونيْن النقيضين يخلق لهما أجواء عدميّة في دائرة مفرغة لا خروج منها. مجتمع إسرائيلي معزول قلق لحظيّاً من إمكان الاختراق الأمني، هارباً من مآزقه الأخلاقيّة نحو كل الموبقات إلا أنسنة الآخر، ومجتمع فلسطيني مخترق لا قيمة للبشر فيه يُعيد إنتاج تخلّفه ويعيش آفاقاً مسدودة عدميّة دون أي أفق. وحين يحدث أن يلتقي الجانبان، يكون ذلك لتصفية عداوات يعمّقها «فوضى» لتأخذ أبعاد أحقاد شخصيّة فوق كل مسألة قوميّة أو دينيّة، وتنتهي دوماً بالعنف المسرف ولمصلحة المحتلّ.
الصراع داخل الصندوق المغلق
لا تومىء مناخات «فوضى» إلى بارقة أملٍ بوأدِ هذا العداء الحالك على تعدد مستوياته، ولا إلى أيّة نهايات محتملة للانقسام العمودي بين المجتمعين المتجاورين. فانتصارات المستعربين لا تُنهي الصراع بل تُؤججه، ولا يبدو الإسرائيليون بوارد النزول من شجرة الاحتلال الملعونة حيث علّقوا، في حين أن الفلسطينيين كما لو فقدوا نهائيّاً القدرة على تجاوز واقع الجرح النازف. إنه صراع داخل صندوق محكم الإغلاق، المنتصر والمهزوم فيه يختنق، الفرقُ من يموت أولا.
إذن ستستمر الـ«فوضى» إلى ما لا نهاية، وستتعدد مواسمه القاحلة.
وحده الأمريكي – نيتفليكس – سوف يقطفها ذهباً

*المصدر: القدس العربي

www.deyaralnagab.com