logo
خطوة في الصحراء وأخرى في الأرض المروية !!
بقلم : مفيد نجم  ... 24.11.2013

الكتاب يصف الأمكنة والعوالم الغريبة والمثيرة لأقدم المعتقدات الدينية عند مجموعة كبيرة من المذاهب والملل التي امتزج الإلهي في معتقداتها مع الأسطوري.
ما يزال شرق الغواية وأرض الأساطير والسحر والأسرار بالنسبة إلى كثيرين من الغربيين عامل إغواء وجذب حيث تختلط روح المغامرة بلذة الكشف والعبور نحو عوالم ما تزال تعيش عزلتها وطقوسها البدائية الأولى والغريبة. جاك كاليبو السينمائي والكاتب وزوجته الكاتبة نيكول كاليبو بلجيكيان مسكونان بروح المغامرة والبحث، قدما إلى الشرق مقتفيي خطا المستشرقين الغربيين لتصوير أفلام تسجيلية عن المذاهب والملل الدينية الصغيرة المنتشرة على امتداد الشرق الأدنى والأوسط وتدوين رحلتهما الشاقة والمثيرة بحثا عن تلك الطوائف والمذاهب في مجاهل عالمها للتعرف عن قرب إلى معتقداتها وطقوسها وأسرارها الدينية. وقد دونا تلك الرحلة في كتابهما مذاهب وملل وأساطير في الشرقين الأدنى والأوسط، وذلك وفقا لمسار الرحلة التي بدآها من بيروت وانطلقا منها إلى دمشق ومن هناك إلى العراق في منتصف السبعينات من القرن الماضي. منذ العنوان يكتشف الشاعر تلك الروح الشعرية التي سنجدها تهيمن على لغة السرد والوصف التي يستخدمها الكاتبان في وصف الأمكنة والعوالم الغريبة والمثيرة لأقدم المعتقدات الدينية عند مجموعة كبيرة من المذاهب والملل التي امتزج الإلهي في معتقداتها مع الأسطوري، أو تداخلت فيها الرمزيات الدينية المختلفة والمعتقدات التي أضفتها على رموزها ومعتقداتها، الأمر الذي جعلها إما أن تنغلق على نفسها وتعيش في عزلة عن التيارات الدينية السماوية الكبيرة التي انشقت عنها ولم تعترف بها محافظة على هويتها الدينية الخاصة كاليزيدية والنساطرة والبكتاشيين والهاسيديم والسامريين، أو أن تمزج بين تراثها الإسلامي والتراث الفلسفي اليوناني وعلم الفلك القديم في معتقداتها. والغريب أن عددا من هذه الملل هي فروع انبثقت من الديانات السماوية الثلاث ثم أسست لنفسها تعاليمها وطقوسها ومفاهيمها الروحية الخاصة التي اختلط فيها السماوي بالأسطوري بالفلسفي. إلى جانب هذه المذاهب والملل يقتفي الكاتبان أثر طوائف أخرى كالدروز والمتصوفة الدراويش المسلمين والموارنة والإسماعليين، حيث لا يكتفي الكاتبان اللذان تناوبا على تسجيل وقائع تلك الرحلة بتصوير مشاهداتهم وتسجيلها، بل عملا على مشاركة تلك الملل والمذاهب طقوسها وأسرارها الدينية بعد أن استطاعا أن يعمقا صلاتهما بالقائمين على رأس تلك المذاهب للحصول على المعرفة الوافية بحقائق معتقداتهم وطقوسهم وعلى تاريخهم ومصادر تراثهم الديني وعلاقاتهم بمحيطهم.
طفولة الحضارة
يكشف كاليبو في بداية الكتاب عن الأهداف الحقيقة لرحلتهم سعيا وراء استخراج أول بطاركة التوراة من التخيل الأدبي انطلاقا من بلاد "أور" الواقعة في جنوب العراق وذلك لأجل تصوير فيلم سينمائي عنهم ما استدعى منهم الأخذ بعين الاعتبار في هذه الرحلة أن تتزامن مع الأعياد الدينية ومواسم الحج لتلك الملل والمذاهب بغية إحصاء تلك الطوائف ومعرفة تاريخها وعاداتها وتعلم العربية والعبرية للوصول إلى هذا الهدف. تتجلى شاعرية اللغة في وصف طرق الرحلة من بيروت إلى دمشق التي تفتنهم أسواقها بسحرها ومعروضاتها المثيرة واتساعها على خلاف ما سيواجهونه بعد خروجهم منها ( خطوة واحدة وتبدأ الصحراء، وخطوة أخرى وتبدأ الأرض المروية، أرض غنية عضوية أمومية: عالمان يتجاوران ولا يتداخلان أبدا. وألوهيتان أيضا:"شمش" إله الشمس و"إشتارت" آلهة الخصب والنمو والحب، التي كان السومريون يعبدونها في أعالي برجهم، حيث أقف الآن بالتحديد. في الظلمة القادمة يطل"نانارسن" إله القمر من جهة الشرق، عندئذ أدركت أنني أسير بعكس الطريق: لكي نعرف بلاد الرافدين وندرك بعدها التوراتي كان علينا أن ننطلق من هنا حيث تنتقل التوراة من الأسطورة إلى التاريخ). يعيد المؤلف حضارة بلاد النهرين إلى ما قبل انبثاق الأهرامات بزمن طويل إذ تعود مدينتا "هيت" و"كركوك" إلى أكثر من عشرة آلاف سنة. ولا شك أن الوعي التوراتي يحضر بقوة في خلفية الهاجس المعرفي والبحثي عند الكاتب حيث يجعل من التوراة دليلا تاريخيا يحاول اقتفاء أثره في هذه الرحلة، الأمر الذي يجعله يبدأ رحلته من "أور" بُغية استعادة تاريخ "إبراهيم الخليل" ورحلته من هناك. يطرح الكاتب إشكالية معرفية وتاريخية علمية تتعلق بالوثائق التي عثر عليها في "مملكة ماري" على ضفاف الفرات، والتي حاول عدد من علماء اللغة القديمة اتخاذها حجة على صدق ما ذكرته التوراة من معلومات تاريخية وجغرافية، في حين أن الدراسات اللاحقة والموضوعية كشفت عن حقيقة تلك المحاولات التي عملت على تحريف الأسماء والوقائع بحيث تخدم أهداف سياسية تؤكد مصداقية التوراة فيما ترويه من وقائع وأحداث قديمة. يعتمد الكاتب على تلك المصادر ويتخذها حجة على صحة تلك المرويات التوراتية التي لم تؤكدها حتى الآن أي من المكتشفات الأثرية في المنطقة. إن تلك الروح الشاعرية التي يعززها الخيال الأسطوري ربما تكون هي التي قادته لاتخاذ تلك المرويات التوراتية حول خلق الكون وبدء البشرية مدخلا تاريخيا لاكتشاف تاريخ المنطقة في محاولة لاستعادة تلك المغامرة المتخيلة لهذا التاريخ الذي جاء مسكونا به بحكم ثقافته الإنجيلية. ينتقل كاليبو من "أور" إلى "النجف" برفقة دليل حكومي يعينه على الدخول إلى المساجد والمراقد الشيعية بما فيها ضريح "الإمام علي" حيث يتعرف هناك إلى طقوسهم وصلواتهم ويكتشف مدى الريبة والرفض التي كان يجدها واضحة في عيون الرجال تجاه وجود الغرباء في هذه الأماكن الخاصة ولولا تدخل المرافق أكثر من مرة لكان مصيره سيئا. في هذا السياق يتحدث الكاتب عن الخلاف السني الشيعي الذي يرى أنه من الضروري أخذه بعين الاعتبار على المسرح السياسي للمنطقة.
الطاووسيون في أعالي جبالهم
من "النجف" و"كربلاء" ينطلق الكاتب رفقة دليله الحكومي إلى منطقة "جبل سنجار" حيث يعيش هناك عبدة الشيطان. في هذه الأماكن البعيدة يتعرف إلى معتقداتهم وطقوسهم ويعيشها معهم أثناء احتفالاتهم الدينية التي جاء الكثيرون من المسلمين والمسيحيين لرؤية تلك الاحتفالات. ومما يكتشفه لدى الطائفة اليزيدية هو تلك الخلطة العجيبة من الطقوس التي يمارسونها فهم يصومون مع اليهود ويتعمدون كالمسيحيين ويتطهرون كالإسلام. يؤمن اليزيدون أيضا بقوة الدائرة ولديهم كتابهم الأول ( الجهونة) ويتميز ملاكهم الطاووس بقوة وحظوة تجعلهم يعتقدون أنه سوف يعود ليكون الملاك الأول عند الله.
ويحاول كاليبو استعادة تاريخ النساطرة الآشوريين المنتشرين في شمال العراق من خلال علاقتهم بالساسانيين خلال مرحلة الحرب الناشبة بين امبراطوريتهم والامبراطورية البيزنطية، ما جعل ولادة هذه الكنيسة المسيحية تتطور وتتنظم في ظل حكم الساسانيين. ونظرا لأن تاريخ هذه الحقبة ليس واضحا فهو يقوم بعرض ما هو أساسي فيها. ومن خلال متابعاته لكيفية انتشار تلك الملل والطوائف يجد أن عمليات التبشير الديني وانتقال الأفكار الدينية كان يتم مع انتقال القوافل التجارية نحو آسيا الوسطى واليونان وفارس عبر طريق الحرير التجاري، حيث شكل العراق مركز إشعاع وانتشار للكثير منها ( ما من شيء مستحيل على ضفاف الفرات، حيث تتبدل الأفكار والعقائد وتتمازج كما الطمي في مياه النهر). في طريق رحلته للتعرف أكثر إلى أتباع اليزيدية في أعالي جبال عزلتهم التاريخية يتعرف إلى المسيحيين النساطرة أو الآشوريين الذين يشاركونهم الحياة في تلك المناطق الصعبة. تشابه غريب يجده عندهم أثناء ممارستهم لطقوس صلواتهم بينهم وبين المسلمين، فهم يخلعون أحذيتهم قبل الدخول إلى كنيستهم ويجلسون على مؤخراتهم على الأرض ويسجدون أثناء الصلاة على ركبتيهم وينحنون بالرأس حتى يلامس جبينهم الأرض. كما أن نساءهم يرتدين الحجاب. وقد هاجر قسم كبير منهم إلى الولايات المتحدة والسويد.
إلى أعماق تركيا
في زيارتها إلى لبنان تروي نيكول كاليبو وقائع زيارتها إلى جبل لبنان ووادي قاديشا الذي يشكل معقلا للموارنة حيث تتعرف هناك من خلال آباء كنيستهم إلى تاريخ نشوء مذهبهم وحياة قديسهم مار مارون في شمال مدينة حلب السورية ورحلتهم من هناك إلى هذه الأماكن هربا من الاضطهاد العثماني لهم. وما تكتشفه في طقوسهم أنهم ما زالوا يستعيدون فيها الكثير من أسطورة أدونيس وطقوسها التي ما تزال حية لديهم. طائفة مسيحية صغيرة ومجهولة تدعى البكتاشيين تغريهم بالتعرف إليها وزيارة مناطق تواجدهم في أعماق تركيا بعد أن سمعوا بها من كمال جنبلاط حيث يختارون موسم حجهم إلى قبر "الحاج بكتاش" في وسط الأناضول في منتصف شهر آب موعدا لزيارة مناطقهم.

المصدر : العرب

www.deyaralnagab.com