logo
حذاء بني غامق!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 30.04.2019

سنقضي في روما أربعة أيام، ناهيك عن يومين للسفر والعودة من بيروت وإليها.
السفر إلى روما مقلق.. روما التي لم أزرها من قبل، وتمنيت زيارتها.
جلست على حافة السرير، فلا نوم في هذا اليوم الحار التموزي.اقترحت على نفسي أن آخذ دشا لأزيل العرق وأخفف الرطوبة واللزوجة عن بدني.
وقفت تحت الدش، فلذعت المياه الساخنة بدني. أبعدت رأسي من تحت الدش فسقط الماء على كتفيّ وظهري. ألح السؤال المقلق من جديد: أأنا مسرور بسفري إلى روما مع الوفد الفلسطيني الذي سيشارك في مؤتمر لنصرة فلسطين تحضره شخصيات عالمية هامة؟! أنا راغب في هذه السفرة، ولكنني قلق لأن روما ترتبط في ذهني، كغيري من الفلسطينيين، بالمافيا وعلاقتها مع الصهاينة..وباغتيال وائل زعيتر! قلت لنفسي: ولكنها فرصة فبغير هذه المناسبة لن تتح لي زيارة روما ومشاهدة بعض معالمها الشهيرة.
جففت بدني وجلست بملابس الداخلية على الصوفا، ومن الدور السادس أرسلت نظرة مديدة إلى ما يمكن لعيني رؤيته من السماء. سمعت مروق طائرة يشي صوتها بأنها مدنية على وشك الهبوط في مطار بيروت. غدا ستقلع بنا طائرة من مطار بيروت إلى مطار روما.
قلت لنفسي: أحتاج لثلاثة غيارات فقط، واحد بني خفيف أرتديه للسفر، وغيارين أسودين أضعهما في الحقيبة، وثلاث غيارات داخلية تكفي. سأحتاج لحذاء بني لأن حذائي البني مائل الكعبين ويبدو متهرئ البوز.
لا بد من شراء حذاء بني.
أغمضت عيني قليلاً وملت بجسدي على الصوفا. لا أدري كم دقيقة سهوت، ولكنني شعرت بأنني جددت نشاطي قليلاً. نهضت وأعددت فنجان قهوة.
ارتديت ملابسي الخفيفة وانتعلت صندلي بدون جرابات، ثم هبطت الدرج. المصعد يتوقف عندما تنقطع الكهرباء، ولا أريد أن أعلق بانتظار حارس البناية. حييت أبا عنتر الجالس بشئ من الكسل في مدخل البناية وكلاشنكوفه بين ساقيه، وهو بين اليقظة والنوم.
مضيت على الرصيف بخطى وئيدة في شارع الطيبي باتجاه قاعة جمال عبد الناصر.
في آخر الشارع على اليمين محل بيع أحذية.
تأملت الأحذية التي وراء زجاج الواجهة فأعجبني حذاء بني غامق برباط.
انسربت من الباب الضيق واستدرت خلف الواجهة وهممت أن أدس يدي لألتقط فردة الحذاء البني الغامق، لكن ولدا كان يجلس متحفزا انتفض وأمسك بيدي:
- لا تمد يدك..فبابا ذهب للصلاة، وأنا لا أبيع..تعال بعدين.
أردت أن أداعبه تلطيفا لحدته:
- صلاة العصر تنقضي بسرعة..دعني أجرّب الحذاء بانتظار عودة والدك.
بقي ممسكا بيدي وهو يدفعني خارج المحل:
ألححت عليه بوّد:
- دعني أجرب الحذاء يا رجل!
- لا.
قالها بحزم، ثم وضع يديه حول خصري ودفعني بكل قوته، فطاب لي أن أماحكه:
- دعني أجرب الحذاء..ثم أعود وأتفاهم مع والدك.
- لا..أُخرج..يلاّ.
اقترحت على نفسي التمشي حول جامعة بيروت العربية، وكلية الهندسة، ومن ثم العودة علّ صاحب المحل يكون قد فرغ من الصلاة.
ملأت الجو رائحة قهوة ( الداعوق) في الجهة المقابلة للملعب البلدي، فاستنشقتها بعمق.
دوي هائل رجّ الأرض تحت قدمي، فأوشكت على السقوط. قفزت بسرعة ولطيت في مدخل إحدى البنايات القريبة.
ركض ولغط وصراخ في الشوارع المتقاطعة القريبة.
ربما غارة على الفاكهاني، كما حدث قبل أيام!
ولكنني لم أسمع دوي طائرات مغيرة، والمتراكضون ينظرون أمامهم وليس إلى السماء.
تابعتهم بنظري وهم يتراكضون فرأيت دخانا كثيفا يتصاعد من مدخل شارع الطيبي.
وأنا أهرول تساءلت: من الجهة المستهدفة؟ الشارع مزدحم بمكاتب الفصائل الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، وكلها مستهدفة.
يتصاعد الدخان من مدخل الشارع، من جوف محل الأحذية الذي اختفت واجهته..ومن سيارات انقلبت وأغلق حطامها الشارع.
أمسكت بكتف شاب سبقني في الوصول إلى مكان الانفجار:
- أهي سيارة ..أم عبوة؟
- سيارة...
قاله وهو ينفخ بغضب دون أن يلتفت إلي.
ارتفع صراخ رجل قصير القامة يندفع حافي القدمين: حسن..يا حسن..حبيبي يا حسن...
أمسك به أحد الشباب، وحال دون اندفاعه إلى داخل المحل الذي ينفث دخانا كثيفا، وفي مدخله تتناثر أحذية احترقت وبعضها ما زال يشتعل.
الرجل يتلوى ويتفلت بين أيدي من يمسكون به ويمنعونه من اقتحام المحل الملتهب، وهو يصيح مفجوعا: حسن.يا حساااااان...
ولا أثر لحسن.
همس أحدهم قربي:
_ يبدو أن حسن تناثر أشلاءً.
الرجل يتلوى بين أيدي من تجمعوا حوله، وهو يصرخ: ابني..يا ناس..ابني..حسن. يا بابا رد عليي يا حبيبي. يا ريتني ما تركتك في المحل...
دوّى صوت سيارة إطفاء اندفعت من الشارع المجاور للملعب البلدي، وفوقها رجال بخوذ، وإذ توقفت قفزوا ، ودفعوا بخرطوم مياه فاندفع الماء وتلاطم في جوف المحل، ثم وجهوا الماء المندفع إلى حطام السيارات، وما تناثر على الرصيف من زجاج وأشياء محترقة.
اندفعت سيارة الإطفاء يسبقها دويها من الشارع المجاور للملعب البلدي، وعندما توقفت قفز من خلفها رجلا إطفاء ودفعا بخرطوم اندفعت منه مياه غزيرة اكتسحت الرصيف وجوف محل الأحذية الذي ما زال ينفث دخانا كثيفا.
اندفع أحد الإطفائيين وانتشل أشلاء رفعها بين يديه فناح الرجل:
حساااااان.
حضرت سيارة إسعاف، وحملت أشخاصا كانوا مرميين ينزفون على الأرصفة وأطلقت نواحها واندفعت مبتعدة.
استدرت وتحركت قدماي وأنا لا أعرف إلى أين أتجه..والنواح المتفجع يلاحقني:
حساااااااان
غدا مساء سأكون في روما.
غياران أسودان، وحذاء أسود..تكفي.


www.deyaralnagab.com