logo
حضور يقهرُ الغياب!!
بقلم : حسن عبادي ... 01.04.2019

يُعنى أدب السجون بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إن صحّ التعبير، "رواية السيرة الذاتيّة". وأخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنّك إن فعلت، صارت رقبتك بيد جلادّك، وصرت تتقبّل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنّها قبلة في خدّ الرضى، وقيل: ليسَ على هذه البسيطة، مخلوقٌ أشدُّ قسوةً وهمجيّة من الإنسان !
يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟ فهناك من كتب عن السجن دون أن يُعتقل أو يُسجن يومًا واحدًا وهناك الكثيرون من السجناء كتبوا الرواية أو الشعر أو القصة القصيرة وراء القضبان دون تجربة سابقة ودون دراية بالكتابة وفنّها وأبدعوا.
ظهر أدب السجون كنتاج الواقع القمعيّ وفقدان الثقة بالسُلطة، ليفضح النظام ويُعرّيه ويُحرّض القارئ ضدّه فيبحث عن فضاء من الحريّة وكشف المستور الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، من خلال وصف وتوثيق التعذيب والمعاناة داخل السجن وكشف بشاعته وممارساته من وحدة ورعب وزنازين انفراديّة موحشة وتعذيب نفسيّ وجسديّ وغيرها.

شاهدت يوم الأربعاء الفائت فيلم "مفك" للمخرج بسّام جرباوي الذي افتتح مهرجان حيفا المستقل للأفلام بدورته الرابعة في قاعة مسرح الميدان الحيفاويّ (يتناول الفيلم قصّة زياد؛ بعد 15 سنة في السجن، يكافح للتأقلم مع الحياة الفلسطينيّة الحديثة، حتّى يقوم بدور البطل الذي يريد له الجميع أن يكونه، غير قادر على التمييز بين الحقيقة والهذيان، ينكسر زياد ويدفع بنفسه إلى حيث بدأ كلّ شيء)، وتزامن الأمر مع استلامي كتاب جمر المحطّات للكاتب بسام الكعبي من صديقي ظافر شوربجي (الصّادرِ عن دار مجد للتصميم والفنون–حيفا، يحوي في طيّاته 232 صفحة، ولوحة الغلاف صورة من الانترنت لجدار سجن النقب الصحراويّ –كتسيعوت- وهو أنصار 3. الكاتب بسام الكعبي محرّر ومدرّب صحفي في فنون الكتابة. متخصّص في القصّة الصحافيّة، الريبورتاج والبروفايل وأصدر عدّة كتب تتناول بأسلوب البروفايل الصحفي مسيرة شخصيّات ثقافيّة ومجتمعيّة فلسطينيّة).

يفتتح الكتاب بمقدّمة (ملاحظة لا بدّ منها؛ بداية الكتاب هي مقدّمة، وليس تقديم، فالتقديم هو غيريّ يكتبه آخر وليس الكاتب) طويلة تشمل ثلاثين صفحة حول أدب السجون؛ أبرزت جانباً واسعاً من أدب السجون في فلسطين والبلاد العربيّة، أوروبا وأميركا اللاتينيّة. تناول تجربة الشاعر الجزائريّ الرقيق البشير حاج علي التي سردها في كتابه "التّعسف" وتعذيبه في سجون الرئيس بومدين بأسلوب الخوذة الألمانيّة: حشر الرأس في خوذة حديديّة محكّمة ضيّقة، والطَرق فوقها بقوّة بشكل منتظم ولفترة طويلة؛ حتى يبدأ المُعتقل بفُقدان توازنه، وضياع ذاكرته بالتدريج. كُتب "التّعسف" على ورق الحمّامات، وهرّب النصّ إلى رفاقه عبر زوجته صفيّة، ممّا يذكّرني برواية الكبسولة للأسير كميل أبو حنيش. كما تناول تجربة المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي في سجون الدكتاتور الفاشيّ بنيتو موسوليني الذي كتب ثلاثة آلاف صفحة بخط يده وصدرت بعد رحيله في كتاب بعنوان "دفاتر السجن" واستشهد نتيجة إصابته بنزيف في الدماغ خلال تعذيبه النفسيّ في العزل في زنزانة انفراديّة. حول أدب أميركا اللاتينيّة: "تحرّر المناضل اليساري خوركي تيسكورينا من سجنه بعد قضاء 13 سنة في سجون الأورغواي، سُجن لأنّه حارب ضد استبداد الجنرالات. وفور اعتقاله بدأ بتدوين يوميّاته على أوراق السجائر. أدرك أنّ كتاباته لا تروق لحرّاس السجن فأقدم على إخفائها بعناية في أحذية خشبيّة"!
عقب تحرّره نسي أمر مذكّراته 15 سنة قبل أن يستعيدها ويكشف عنها سنة 2000، فانتشر صيتُها بعد إنتاجها في فيلم وثائقيّ بعنوان (التقويم) وأدرجتْ مذكّرات المقاتل التي كتبها بانتظام على مدار 4646 يوماً في سجلّ ذاكرة العالم لمنظمة اليونيسكو.
يلي تلك المقدّمة 15 فصل، رصد في بعض محطّاته جمرَ ذوي الأسرى في طريقهم لتلمِس جمر الأسرى.
صوّر رحلة العذاب برفقة عمّته خضرة لزيارة نجلها سامي في معتقل بئر السبع في الفصل الأوّل الذي عنونه "مواجهة النكبات بمرارة الخيبات" معرّجًا على تهجير العائلة إثر النكبة التي عصفت بأهله وشرّدتهم من قرية السوالمة ليصبحوا بين ليلة وضحاها لاجئين وأبناء مخيّمات وتخرّج سامي من سجون الاحتلال ليستقرّ في العراق ويكمل نضاله بطريقته الخاصّة، ليدفن هناك بعيدًا عن أهله وبلده.
في نصّ سردي مفتوح بعد إضراب عن الطعام للأسرى في أيلول 2011، احتجاجًا على العزل الانفراديّ، كتب بسام بعنوان "جدران عازلة وقامات عالية" على لسان أخيه الأسير عاصم: "تأكّدنا بأنّنا كنّا على حقّ عندما انتصرنا على السجّان، وانتزعنا نخبة متميّزة من المناضلين، وقد عادوا إلينا من العزل الانفراديّ القاتل؛ الأسير القائد أحمد سعدات المحكوم بالسجن الفعليّ ثلاثين عامًا، وقد عاش معزولًا منذ ثلاث سنوات ولم يلتق أحدًا، أصبح حاليًا بيننا ونجمنا وأشاركه الزنزانة، وألمس عن قرب عمق مناضل صلب وأحسُّ بثوريّة رفيق في التعامل بمستوى عال ووعي عميق، مع تفاصيل الحياة اليوميّة للرفاق والأسرى في المعتقل".
عالج قضيّة عائلات المعتقلين والأسرى بأسلوب سلس ومُميّز، وفي نصّه "صلاة خاطفة لقلب يتمزّق" تحدّث عن وجع والدته حين سمعت قرارًا جائرًا بصلب نجلها عاصم 18 عامًا على قضبان السجون: "ترى هل تبقى في مقلتيها دمعة فرح قادمة لتعانق نجلها محرّرًا... لكن هل بقي متّسع في أيّام عمرها تشعلها انتظارًا لعودة آخر أحبّائها إلى حضنها؟ هل فاض قليلًا نهر أحزانها ولم يعد قلبها يحتمل مرارة أكثر.. كيف شقّت الأحزان جدول يوميّاتها ورسمت خارطة حياتها؟" (من الجدير بالذكر أن والدة بسام بدأت رحلتها المنتظمة إلى السجون لتزور أبناءها الخمسة لترحل فجر عيد الفطر الجريح 28 تموز 2014 في ذروة العدوان الإسرائيليّ على غزّة... وهي بانتظار عاصم!، وها هو عاصم على عتبة عناق الحريّة يوجّه لها رسالة عبر تظهير الكتاب: "سلامٌ عليكِ يا حبيبتي، سلامٌ على روحكِ الطاهرة وأنتِ تغزلين ثوب السعادة من خيوط صَبرك...وأعدك أننا حتمًا سننتصر").
أسرانا وعائلاتهم الذين يعانون كثيرًا، هم الفصل الأهمّ لنضالنا وهم المستقبل، وعلينا ألّا ننسى معاناتهم في زحمة الأحداث، كلّ وملحه وكأس مائه، يتحدّى سجّانه ودولته بجسده، بجوعه وأمعائه الخاوية، يتألّم ويتأمّل ويأمل بالحريّة من وراء القضبان عبر نافذة الأمل والمستقبل، متسلّحًا بعزيمة وإرادة، وبدعم أهله الذين يعانون، هم أيضًا خلف القضبان، يتألّمون وينتظرون ساعة حريّه سجينهم.
تُعاني الأسرة الأمرّين لتقوم بزيارة الابن؛ معاناة عائلة الأسير وأهله وما يمرّون به منذ ساعة الاعتقال حتى تحريره، ومعاناتهم يوميّة هي نصيب كل عائلة فلسطينية ترزح تحت نير الاحتلال. تبدأ الزيارة باستصدار تصاريح، استيقاظ الساعة الخامسة صباحًا، سيارة أجرة إلى مركز الصليب الأحمر، حافلات تنقل الأهالي إلى المعبر، وهناك تلتقي بمدخل لولبيّ، زاوية كبيرة، ساحة صغيرة، ساحة أكبر عبر أبواب دائريّة تُسمّى ب"المعّاطة"، غرفة كبيرة محاطة بالكاميرات وأجهزة المراقبة، آلة تفتيش الكترونية، آلة المسح الضوئي، غرف صغيرة وتسليم الهويّات وراء نافذة عازلة، ساحة أكبر وتفتيش آخر، أشبه بالمتاهة اللا متناهية والتي لا تخلو من إذلال لا مبرَّر له لتصل بعدها موقف الباصات التي تُقلّها إلى السجن حيث يقبع الأسير خلف القضبان. في السجن انتظار مقيت تحسب فيه أنّ عقارب الساعة متآمرة علينا هي الأخرى .. قاعة الزيارات مقسّمة إلى ممرّات، كاميرات مراقبة، مقاعد خشبيّة، نافذة من الزجاج العازل الشفّاف السميك، وسيلة الاتصال بين الأسير وعائلته هي الهاتف المتآمر، 45 دقيقة، دون إمكانيّة للتواصل الجسديّ ولو بقبلة ... والعودة الساعة السادسة مساءً.
يهدي بسام الكتاب إلى "أخيه الأسير الصَلْب عاصم"، أسره وعذاب والدته في زياراتها له ولمن سبقه من أبناءها الأسرى، يشكّل محورًا أساسيًّا لفصول عدّة من الكتاب: "محطات الجمر"، "قسوة الطريق!"،"جدران عازلة وقامات عالية"، "قلب يتمزّق"، "صلابة مقاتل". هناك أمّهات فلسطينيّات كُثُر كوالدته، كلٍّ وأسيرها؛ أمثال فاطمة أبو ليل –والدة الأسير حسين، واحد من سبعة أبناء قضوا سنوات أسر في سجون الاحتلال بأحكام مختلفة – في فصل يحمل عنوان "النكبة الممتدّة: جمرٌ يكوي المخيم!" أرفقه مصمّم الكتاب، الفنّان ظافر شوربجي، بكاريكاتور ثاقب لناجي العلي: "كلّه منك...إحبلي يا فاطمة... وخلّفي يا فاطمة...فلسطين بدها رجال يا فاطمة...وبالآخر يستشهدوا واحد ورا الثاني دفاعًا عن التنظيم والأنظمة!!... يا مصيبتك يا فاطمة!!". كذلك الأمر مع فرحة البرغوثي، والدة الأسرى نائل وعمر وجدّة عاصف وعاصم، التي سلّمت أكثر من نصف حياتها لمقاعد حافلات الصليب الأحمر وعجلاتها متنقّلة بين معظم سجون الاحتلال محافظة على طهارة القلب ونقائه في زمن انحطاط القيم والتهافت على أدوار "البطولة" بطبعات مزيّفة! (فرحة تزرع الأمل).
يتناول بسخرية سوداء "متعة" أهل الأسير وعذابهم بمتابعة محاكمة ابنهم في محكمة عسكريّة احتلاليّة جائرة حين مرّ عبر طريق الآلام ليحضر جلسة بخصوص أخيه عصام، ليتبيّن بعد طيل الانتظار أنّها تأجّلت دون إعلامهم، ويسخر من ساديّة المحتلّ، في فصل يحمل عنوان ساخر: "متعة للبواب بمشاهد العذاب!"
رصد بسام قصّة شعب انتكب ويسعى للحريّة، تجارب أسرى عانوا في السجون وذاقوا الأمرّين، وحكايا العشرات منهم أمثال فخري البرغوثي وعطيّة جوابرة، الذي سُرِقت كليته خلال فترة أسره ومحمد تاج رفيق الذي حاصره الموت حين أطلق حرس السجون مادّة سامّة من مدفع غاز في معتقل جلبوع، تناثر الغاز بشكل بودرة بيضاء وشكّل عائقًا يحول دون عمل رئتيه وأصابت تلك المادّة القاتلة جسده بحروق مختلفة وأصبحت رئتاه المنتهكتان تقاومان مرضًا خبيثًا ظلّ يزحف بصمت نحوهما وحُرم العلاج ليعلن الإضراب المفتوح عن الطعام احتجاجًا على الإهمال الطبّي المتعمّد لينتصر بإرادته على جلّاده ويتحرّر من قبضته.
رصد بسام تجارب أسرى تمسكّوا بمبادئهم أمثال خضر العالم الذي جرّب السجون البريطانيّة والأردنيّة والإسرائيليّة ليرحل نظيفًا طاهرًا بعد أن رفض التطبيع والتمويل، لم تجذبه السلطة والمناصب المزيّفة، وظلّ يقاوم ببسالة لانتزاع حريّة الوطن.
والفصل الأخير حول القائد الأمميّ نيلسون مانديلا وعنونَه "حضورٌ يقهرُ الغياب"، قائد صلب لم يتراجع ضد العنصريّة، لم يرفع راية بيضاء بمواجهة الكولونياليّة الاستيطانيّة في جنوب افريقيا ولم يعقد صفقات مع نظام الأبارتهايد والفصل العنصريّ ودوّن سيرته الكفاحيّة في كتابه "رحلتي الطويلة إلى الحريّة" عساه يكون عبرة لمن يعتبر.
يحاول الأسير، وذويه، البحث عن كلّ السبل للحفاظ على رشده، حتى يعانق شمس الحريّة ليسأل نفسه: "هل كانت تضحيته جديرة بالثمن؟"
بما أنّ الزمن لا يتوقّف، يأتي هنا ما يسمّى بالزمن الموازي (parallel time) الذي يعيشه كلّ أسير، الأخ يتزوّج وأخوه أسير، الأم تموت والابن أسير، العالم وما فيه يتغيّر وهو أسير والجميع بانتظار ساعة تحريره لتبدأ الاحتفالات ويتحرّر من أسره ليُصدم بالواقع المرير: غربة الذات أقسى أنواع الغربة!
نهايةً، أعجبني الكتاب من أولِ نظرةٍ ومن أولِ قراءةٍ لأنّ النظرَ إليه مريحٌ للعينِ بسبب التصميمِ الغرافي الراقي حيث أخذ كلَّ القيمِ النصيّةِّ (الخطوط) مهتمًّا بالنصِّ، الفراغُ بين الأسطرِ مريحُ، وتمّ الأخذُ بجميعِ المعاييرِ للخطوطِ ونقلِ المعلومةِ مما يقرّب القارئ للنص ويستحوذه، أُرفق كلّ فصل بصورة أو لوحة تلائمه وتليق به، ومنها على سبيل المثال لوحة تحمل عنوان "هذا البحر لي" ومخطوطة من شعر راشد حسين "للحبّ نحو القلب درب واحد ولموطني في القلب مائة مدخل"، من إبداع الفنّان ظافر شوربجي.
وأخيرًا أضمّ صوتي لصديقي أيمن العتوم ومقولته: "شروق الشمس لا ينتظر النائمين". وها هو بسام يطرق جدران الخزّان، يسلّط الضوء على أوضاع عائلات الأسرى ومعاناتهم، فهل من سامع ومُجيب ؟!ّ؟
صدق فكتور هوغو حين قال: "حرّروا الحريّة والحريّة تقوم بالباقي".


www.deyaralnagab.com