logo
قراءة في رواية "وارث الشواهد" للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا!!
بقلم : حسن عبادي ... 06.03.2018

اشتغل أحمد يعقوب، عشرات السنين، في مطاعم يافا ومع بشائر أوسلو وصل إلى قرية عين حوض (تقع القرية على السفح الغربي لجبل الكرمل على مسافة 15 كم جنوب حيفا، و5 كم شرقي البحر، بين وادي أم الغنم، وادي البستان ووادي فلاح، شُرّد أهلها في النكبة ودُمّرت، وعلى أنقاضها أُقيم موشاف "عين هود" الذي تحول سنة 1953 لقرية فنانين)، استأجر أحمد مبنى يطل على المسرح الروماني "الأمفي" وأقام فيه مطعمًا شرقيًّا آملا بعودة قريبة، صار مَعْلمًا من معالم المكان والزمان وعُرِف بمطعم أبو يعقوب، يحضّر خابية الحمص والفول كلّ صباح بانتظار العائدين، يجلس باب مطعمه يتأمل الكرمل والبحر ... وصارت أوسلو سرابًا... وهو ينتظر... وتوفي أحمد اليعقوب يوم الأربعاء 15 شباط 2017.
تزامنت وفاته مع قراءتي لرواية "وارث الشواهد" للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا (الصادرة عن الأهلية للنشر والتوزيع الأردنية ، تقع في 160 صفحة من القطع المتوسط، صمم غلافها زهير أبو شايب ولوحة الغلاف "إرث الشهيد" لتمام الأكحل)، صدرت له رواية "القادم من القيامة"، وكذلك "الجزيرة والإخوان، من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة" و"إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق".
يحمل الغلاف لوحة "إرث الشهيد" لصديقتي الفنانة الفلسطينية المُهجّرة تمام الأكحل (وليس "الإرث" كما ورد على الغلاف)، لوحة ترسم النكبة والهمّ الذي يحمله الفلسطيني المشرّد مذّاك، طفل يحمل على كتفه الأيسر جثّة والده العارية بطولها الفارع، جثة بيضاء نقيّة طاهرة تعكس نقاء قلبه وجثمانه، أما عريها فهو سلامة النيّة وطيبة القلب، يرزح تحت وِزْره، طفل بائس مع حمل ثقيل على روحه وبدنه، فجثّة الأب ثقيلة الوزن وموته يصرخ ثأرًا، فليس بمقدوره أن يعيش طفولته كباقي أطفال العالم، بدل أن يحمل حقيبة مدرسية نراه يحمل جثة والده الذبيح، تتدلّى ذراعاه وقدماها من أمامه وخلفه فيستجمع قواه الواهنة ليطوّق الجثة بذراعيه ووجهه فزٍعًا مرتعبًا من ماضيه، حاضره ومستقبله ومستقبل قضيّته ووطنه، عيناه مثقلتان بتاريخ مضى ومستقبل مجهول بعيد... يحاول أن يشكي همّه ويصرخ قصّته ... فهل من سامع أو مجيب؟، يعيش حالة تيه، لا أرض له يمشي صوبها، فأرضه وداره سُلبت، لا يبصر مصيره ... وما زال يحمل جثّة والده الذي أورثه همّه ليحمله معه طوال العمر.
شدّني الإهداء "إلى الشاعر أحمد دحبور: صدقناك، حيفا ليست مدينة إنها الجنة، لكنها وقعت منا وسمعنا مثلك بحرها ينثرها على يدينا، سامحنا عن كل هذا الأذى.
إلى الأسير كريم يونس، خمسة وثلاثون عاما من تعريف طويل لفلسطين، ربما كانت هذه الرواية وهج عينيك، نعتذر عن النسيان".
كل مرّة أقرأ عن حيفا أتذكر لقائي الأخير بطيّب الذكر أحمد دحبور وتجوالنا في شوارع حيفا العتيقة وساحلها ومشينا على رملها، وحديثنا عن والدته، وهو في المخيم، تقول له الكثير عن حيفا. "كانت أمي تدلك قدمي، وتحكي لي عن البحر الذي جلبته لي خصيصًا من حيفا، وكنت أراها بأم عيني، تنشر البحر خلف منجرة المخيم فأسبح فيه وأغتسل، وأسمح لأترابي بالمشاركة… اللهم إلا الأشقياء منهم، وفي الليل تقفل أمي البحر، وترسله في الحنطور إلى حيفا.. وحيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي!"
وبالنسبة لكريم يونس، رسم د. يوسف عراقي، طبيب تل الزعتر المهجّر قسرًا عن حيفاه، بمناسبة ذكرى مرور 35 عامًا على اعتقال وسجن كريم لوحة تحية وإجلال لأسرانا وعائلاتهم وعَنونها "ملح وماء"، وجاءت اللوحة، مكثّفةً بألوان درامية، لتعبّر عن معاناة الأسرى في زنازينهم، كلّ وملحه وكأس مائه، يتألم ويتأمل ويأمل بالحرية عبر نافذة الأمل والمستقبل. زرت كريم في سجن نفحة الصحراوي عشيّة صفقة تبادل أسرى وأُدرج في حينه ضمن قوائم التبادل ولكنه ما زال هناك... قابعًا خلف القضبان.
تحكي الرواية حكاية فلسطيني يُدعى "الوحيد"، هُجّر جده صالح المحمود قسرًا من قريته عين حوض في النكبة ، يبني مع أهل قريته بيتًا في حيّ "أم البساتين" النابلسي شبيهًا ببيته الأصلي، يستشهد ابنه الذي اشتغل معلّمًا – والد الوحيد-في أحداث النكسة ، فيتحوّل من الأستاذ، كما كان يُطلق عليه إلى "الجندي المجهول". يعود "الوحيد" من غربة الدراسة والعمل والإقامة إثر مرض الجد ، فيروي حكايات الجميع من زنزانته المطلّة على بيت جدّه في عين حوض.
تتألف الرواية من شهادات ومرافعات، فيبدأ الفصل الأول من فصولها الواحدة وعشرين بمرافعة الوحيد، بطل الرواية ونبيّها وعازفها، ويمتد الفصل الأول على أكثر من 55 صفحة ليروي روايته وكوابيسه، وينهيها بترجمة يقوم بها الدكتور بشارة، صديق الوحيد، لرسالة كتبتها ريبكا جونسون، زوجة الوحيد، ليمزج بين الطب والتاريخ.
يتذكر الجد يومه الأخير في عين حوض، عشيّة النكبة، ويسرده يومياً بحذافيره، ليشم رائحة الخبز ويتحسر على طعمه ورائحة الدخان مع رائحة السرو والصنوبر وإكليل الجبل، "هاجمونا في الليل، ذبحوا المواشي عند حدود البلدة، وبدأوا بالاقتراب، هدموا المنزل فوق رأس الداية سعدية الأرملة الوحيدة. سيحملونها من بين الأنقاض، سيصف الناس الهاربون جثتها الرقيقة، وكيف تقوست على الجدار الحجري أمام منزلها، كان الدم قد غطى رأسها، وكانت أصابع يدها قد دكت واختلطت على شكل لحم ممزق. تحدبت على الجدار من ناحية ظهرها".(ص.27) كان حلمه أن لا يموت قبل أن يعود إلى عين حوض، ويُدفن تحت جذع الخروب إلى جانب أجداده!!
يطرح الشرفا فكرة التعايش، بشاره مع زملائه وجيرانه، وصراع الهوية على لسان صديقه :"والله ما أنا عارف، أنا هون وإلا هون؟!" ومحاولة الأسرلة لمن بقوا هنا، التي فشلت وبقت وهمًا وسرابًا، فالكبار يموتون، ولكن الكبار جُرحوا، والصغار هم الجروح. حقًا "إن تغيير الشاهد لا يورّث ذكرياته وأحلامه، وإن الشجرة هي التي تصنع اللوحة، وأن شجرة الخروب أم الشروش تعرف من زرعها، وهي لا تهب عذريتها إلا لمن تحب".
أسلوب الرواية مشوّق وسخريته السوداء جاءت موفّقة ولاذعة "سأفهم لماذا لم تهدم إسرائيل عين حوض، وتركتها قرية للفنانين؟ سيقول بشارة ضاحكًا: إنها دولة تقدس الفن والجمال وحماية الإرث الإنساني، لذلك ستعيد هي التعبير عن حلم الضحايا وإنسانية القاتل. وسيعلم فنانوها العلاقة الأزلية مع المكان، سيرثون الأسماء والذكريات وحتى مشاعر الضحايا!"
هناك بعض الأخطاء وألوم الروائي على الوقوع فيها، مسجد الشيخ القسام لا يقع في شارع الاستقلال الحيفاوي، تصوير شارع الاستقلال خاطئ، المشفى الحكومي في حيفا 12 طابق وليس كما ورد، بوعليم عربيم وليس بعوليم عربيم، المحكمة المركزية في حيفا تقع في شارع باليام وليس فيليام، لا توجد إمكانية قانونية لأمر عسكري بالإقامة الجبرية في المنزل لحين المحكمة (ص. 126)، ودالية الكرمل تقع شرق عين حوض وليست غربها!
أختلف مع الشرفا بما قاله على لسان بشارة عندما هدّده القاضي بسحب الجنسية الاسرائيلية لينهي روايته :"ماذا سأخسر؟ سأعود فلسطينيا نقيا". نحن الباقون هنا فلسطينيون أنقياء، شاء من شاء وأبى من أبى!
إنها رواية الحجارة كشاهد على نكبة مستمرة لشعب عليه أن يُثبت للعالم أن فلسطين بلده التي هُجّر منها ودُمّرَت ولا وطن له سواها.
الابن الذي رسمته تمام الأكحل يحمل جثة الشهيد العارية ما دامت خارج الوطن إلى أن توارى في تراب الوطن وهي رمزية الإرث، إنها وصية الأب الشهيد لابنه، أن يبقى حاملًا ذكراه ولا ينسى الوطن والجثمان لن يستريح إلا حين يحضنه تراب الوطن، ردّني إلى بلادي هي صرخة الشهيد لابنه، لن يستر جسدي إلا تراب الوطن! وكما قال غابرييل غارسيا ماركيز في روايته "مائة عام من العزلة" "المرء لا ينتمي إلى أي مكان، ما دام ليس له فيه ميت تحت التراب"، ليكون له قبرًا وشواهد.
*** من الجدير بالذكر أن الرواية وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة "البوكر" لعام 2018


www.deyaralnagab.com