logo
قراءة في رواية "عين الغراب"!!
بقلم : حسن عبادي ... 31.01.2018

الشعوذة عبارة عن ممارسات يستحضر فيها المشعوذون قوى غير مرئية لتساعد في حدوث تغييرات يتمناها شخص ما، سواء له أو لغيره من الناس، وغالبا ما تكون تلك الأمنيات شريرة مثل التخلُّص من خصم أو الحصول على قوّة لاستخدامها لغرض شرير ولذلك فالشعوذة تُسمّى أيضًا بالسحر الأسود وتتم وفق شعائر وطقوس خاصة، خلافًا للسحر الأبيض الذي يلجأ إليه الناس رغبة منهم في نوال شيء يتمنُّونه كالإنجاب أو الثروة مثلا. تتدخّل العادات والتقاليد والأميّة والجهل وتتسبّب بطريقة مباشرة في انتشار هذه الظاهرة فتنتشر وترتبط ارتباطًا قويًا عكسيًا بمستوى العلم والثقافة والأميّة والغنى والتديّن، وهي لا تقتصر على مجتمعنا الشرقي بل نجد السحر الأبيض في قصص هاري بوتر، فنجد أسوده في الفيلم الأمريكي " الشعوذة"
The Conjuring" "". والشعوذة "الشعبية" في المغرب إعداد وجبة كسكس برأس الكلب وتقديمها ليلة القدر للزوج، الذي تعتبره زوجته عنيدًا، بهدف تطويعه وإخضاعه لأوامرها، أو استخدام ذراع طفل مبتورة ل"فتل الكسكس بها ليصبح لذلك الطعام مفعولًا سحريًا، يزوّج ويطلّق ويذهب العقول ويصيب بالفقر، وأشياء كثيرة لا تُحصى" كما ورد في الرواية!
ها هو الروائي الجزائري حسان أحمد شكاط (صاحب رواية " ذاكرة عالقة ") يتناول الشعوذة كمحور مركزي في روايته الجديدة "عين الغراب - الرجل الذي حالف الشيطان" (الصّادِرة عن "دار آمنة للنشر والتوزيع" الأردنية، تحوي 182 صفحة).
تتناول الرواية بجرأة ظواهر اجتماعية تتعلق بالمسحوقين والمنسيين من خلال شخصية بطل الرواية "عين الغراب" الذي حمل على كاهله هموم وأمراض مجتمعه، وقد شكلّت والدته فاطمة الوعلاجي من أولادها الأربعة ، ثلاثة وُلدوا قبل الزواج بعيسى الميري (السكّير المنحرف الذي قُتل، ولم تقِم له أيامًا للعزاء خلافًا للعادة المتّبعَة، متشرّد ربّته الشوارع والحانات، لا عائلة له، اكتسب لقب الميري من عالم الاجرام والسجون، سُجن لبضعة سنوات إثر اختطاف شخص وتعذيبه، وتهديد حياته بالموت، وسكب على ركبتيه قدر ماء مغلي، على مرأى طفله عاشور) ورابعهم شرعي إثر زواج بعقد مدني، عُصابة ووِحدة إجرامية، بتوزيع اختصاصات عليهم، لأنها برعت في الانحراف فعلمتهم سبله وقواعده. كلّفت بكرها يزيد الرعد بنشل وسرقة حافظات النقود من ركاب حافلات النقل الجماعي وحقائب اليد من النساء المسنّات، وكلّفت ابنها موح يماها بسرقة السلاسل والاقراط والحلي الذهبية من النساء (أطلق عليه ياماها نسبة للدراجات اليابانية السريعة)، وابنتها فريال "المكسيكية" تخصصت في استدراج الرجال قبل الانقضاض عليهم من قبل أشقائها للسطو على ما بحوزتهم، وصغيرها عاشور تخصص منذ طفولته في سرقة البيض والدجاج من المزارع، وقد كلفه ذلك فقدان عينه يوم تجرأ على اقتحام دجاجة وكتاكيتها في خُمّها فانقضّت عليه وفقأت عينه اليمنى، ومن تلك الحادثة حضرت تسميته بـعين الغراب، وفاطمة دخلت السجون سنين طويلة نتيجة قضايا "عنف وجرح عمدي بمختلف الأسلحة البيضاء" كاعتدائها على جارة تسببت لها في عدة كسور خطيرة بسبب نظرات المرأة الساخرة اليها! ويصوّرها كشيطانة لا تجيد سوى صناعة الألم والأذى، فيها الكثير من القساوة في معاقبة أولادها كالكيّ بالنار في كامل أنحاء الجسد، أو الحرمان من الأكل يوما كاملا، أو التجريد من الملابس في برد الشتاء...! وتنفق كل الأموال على الحلي الذهبية التي تزين كامل جسدها المترهل.
عين الغراب ضحية الفقر والمؤسسة، ضحيّة الجريمة، الاعتداءات الجنسية، ووليد الفقر والحاجة والعوز الذي يدفعه إلى عالم الجريمة منذ صغره، من جريمة صغيرة إلى أكبر فيهوي إلى العالم السفلي ويصير مجرمًا... لينتقم. ينتقم بعد سنوات طويلة من علاوة الذي تعدى عليه فغرز السكين في فخذه وأحدث جروحًا عميقة في صدره وبطنه وبتر إصبع سبابته اليمنى... لأجل الذكرى! ، وينتقم من مزرعة صاحب الدجاجة التي فقأت عينه "قام برش المزرعة بالبنزين، وأوقد النار... وانتشرت في المنطقة وليوم كامل رائحة الدجاج المشوي... أما صاحب المزرعة فقد ارتفع ضغطه وأصيب بجلطة ...وفارق الحياة". كان يستمتع بأفعال انتقامية، "يلقي الحجارة على السيارات ويسحره صوت انفجار زجاجها وفرملات سائقيها المذعورين"، واستمتع بتعذيب الكلاب والقطط بل وحتى قتلها "تغمره سعادة ومتعة وهو يشاهد الكلاب وهي تغرق في الوديان والبرك، بعد أن يكون قد ربط أطرافها بالحبال، أو يغرز قضبانًا حديدية في أحشائها، بل ويقوم بإذابة البلاستيك المغلي على النار ورشقه على جسدها".
يعيش عاشور في كوخ صغير حقير يستعمله للإقامة وللأكل ولجميع أنواع القذارة في منطقة أكواخ صفيحية في إحدى زوايا المدينة المنسية، مثله مثل صديقه سعيد ناموس الذي يعيش في منطقة الأكواخ القصديرية، يكبر في ذاك العالم ليتورط في قضايا سرقة ونبش قبور الموتى لسرقة أذرع الموتى مقابل المال حسب طلب مشعوذة محترفة، يامنة بوحديس، ولا يكترث لقتل حارس المقبرة لتنفيذ المهمّة. يامنة مشهورة بقراءة الحظ وأعمال الشعوذة ويقصدها المئات "بين طالب لعمل وزواج وسكن أو سفر إلى بلاد أوروبية". "تجارتها" مزدهرة، فساحة كوخها مكتظة بزبائنها مما جعل الباعة ينصبون البسطات لبيع سندويتشات البطاطا المقلية والبيض المسلوق والمشروبات الغازية والمعدنية، وحلاقون متجولون يعرضون خدماتهم لحلاقة الذقن أو الشعر، وباعة متجولون يعرضون زيت الزيتون أو الخروع، و"النساء اللواتي يرغبن في موعد سريع للقاء يامنة.. يسلمن أنفسهن"! ويتساءل شكاط على لسان بطله بسخرية سوداء :"ما أهمية ما تقوم به؟ وأي قوة خارقة تمتلكها حتى يقصدها الناس ويدفعون من أجل لقائها الغالي والنفيس؟"
يبرع شكاط بالوصف، حين يصف جمال وإغراء ربيحة ابنة المشعوذة :"ظهرت شابة في العشرينات بجسدها الممشوق، طويلة لحد ما، ترتدي فستانا بيتي بني اللون، سمراء وعلى قدر من الجمال الممتزج بالغموض والقسوة والجرأة، على أذنيها قرطان ذهبييان من الحجم الكبير وسلسلة سميكة تزين رقبتها الطويلة... ومجرد أن لمحها عين الغراب حتى أصيب بما يشبه الصاعقة الممتزجة بالغبطة والسرور... وارتسمت على ثغرها ابتسامة... أحس لأول مرة بسحر يغزو كيانه"، وكذلك الأمر حين يصف غرفة المشعوذة :"كانت غرفة صغيرة أضواؤها خافتة، وجدرانها تتزين بالمئات من ريش الدجاج والأوز والبط والطاووس في أشكال متناسقة، صناديق كثيرة هنا وهناك، ودلاء ماء وأشياء أخرى مختلفة ومبعثرة هكذا خبط عشواء ولا يعرف لوجودها سبب، رائحة البخور تملأ المكان، فوضى عارمة حقا تغرق فيها الغرفة المريبة"! كأني به يحمل كاميرته ويصوّر مشهدًا سينمائيًا متحركًا ... بالصورة والصوت.
قرأت الرواية بشغف ونهم بسبب لغتها الانسيابية السلسة وأسلوبها المشوّق، فهي رواية "هيتشكوكيّة" بامتياز، وخاصة حين يصف طقوس الشعوذة و"بطولات" عاشور/عين الغراب الإجراميّة، ومتعته وتلذّذه بالقيام بها، وكذلك الحال في وصفه لعملية اختطاف الطفلة رحاب.
شكاط تقدميّ بفكره وكتابته، ناقم على آفات مجتمعيّة ويصرخ للفطام منها والابتعاد عنها، يمقت الشعوذة ويسخر ممّن يؤمن بها "استغرب أمر هؤلاء الناس الذين يظنون أن الخلاص يأتي على يد عجوز شمطاء، لا يترددون في دفع أموالهم مقابل وهم تسوّقه لهم ...كسكس يتم تحضيره بواسطة أطراف موتى! ما هذا الغباء؟"، ينتقد موقف فريد النوري وعدم زواجه من حبيبته وزميلته الجامعية ربيحة حين اكتشف أن امها مشعوذة و"اكتشف أهله عار حبيبته"، انزعج واعتبر الأمر جرمًا وخيانة في حقه فانفصل عنها وقطع معها كل سبل التواصل وتركها لذنب لا يد لها فيه!، يمتعض من اختطاف طفلة صغيرة بتحريض من امرأة، فيدخل بطله في صراع نفسي بين تأنيب ضميره على ما فعله ومواصلة ما إعتاد من أعمال إجرامية، ويصرخ بأن العدو الأول للناس هم مختطفو الأطفال!! وينتقد ظاهرة الفقر والتجهيل التي تجعلك عالة على المجتمع... ومجرمًا.
فتكون نهاية شخصيات الرواية مأساوية ، يزيد صار سكيرًا متشرّدًا تافهًا، موح شُنِق وعُلّق إلى زيتونة نصف عار بعد التنكيل بجثته بالسكاكين والسيوف وكُتِب على صدره "كلب ومات"، فريال اختفت دون سابق انذار، وربيحة ابنة يامنة فرّت إلى وجهة مجهولة! اعترف عاشور "عين الغراب" بكل شيء، وتم القبض على فاطمة الوعلاجي ويامنة بوحديس! ويبقى الأمل!!!
أما بالنسبة لعنوان الرواية المزدوج "عين الغراب -الرجل الذي حالف الشيطان" فكان يكفيه الشق الأول لتصل رسالته المدوّية، هو كاف لإيصال الرسالة، فالوجدان الشَّعبي يتتبَّع الغراب، فيلقبه بـالأعور تفاؤلاً بالسَّلامة من عيْنه، وهي مضرب المثل في الحدَّة والصفاء، حتى قالوا: "أبصر من غراب، وأصفى من عين الغراب".
في تظهيره للرواية جاء هادفًا موفّقًا "هو التناقض في نفوس البشر الذي يدمر هذا العالم، ويقودها إلى الحروب والدمار، التناقض هو الذي يجعل المسالم الوديع ويحوله إلى مجرم وضيع".
أخذتني الرواية حين أنهيت قراءتها للمرة الثانية لما قاله الشاعر نزار قباني في قصيدته "خبز وحشيش وقمر" :
يبيعونَ..و يشرونَ..خيالْ
وصُوَرْ..
و يموتونَ إذا عاش القمر..
***
ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياءْ؟
ببلادي..
ببلاد الأنبياءْ..
و بلاد البسطاءْ..
ماضغي التبغ و تجَّار الخدَرْ..
ما الذي يفعله فينا القمرْ؟
فنضيع الكبرياء..
و نعيش لنستجدي السماءْ..
ما الذي عند السماءْ؟
لكسالى..ضعفاءْ..
يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ..
و يهزّون قبور الأولياءْ..
علَّها ترزقهم رزّاً.. و أطفالاً..قبورُ الأولياءْ
إنها حقًا رواية جديرة بالقراءة لروائي واعد وتليق بأختها "ذاكرة عالقة".


www.deyaralnagab.com