logo
أحزانُ الأنثى في «جسد ضيّق» للمصرية هويدا صالح!!
بقلم : عبدالدائم السلامي ... 10.02.2017

لم يَخْلُ تاريخُ مصر من وجود تآلفٍ ظاهرٍ ممزوج بخلافٍ خفيٍّ بين شعب الكنيسة وشعب المسجد، وهو تآلف وخلاف وإن نقلت السينما مشاهد منه قليلة إلا أن أغلب الأعمال الروائية المصرية، تغافلت عن قراءة تاريخهما بشكل إبداعي حامل لرؤية نقدية لطبيعة العلاقة بين أتباع الدِّيانتيْن ولموقف السلطة منها.
وليس أدلّ على ضراوة هذين الأمريْن اللذيْن مازالا يحكمان الحاضر المصريّ من دعوات التآخي التي تعلنها الدولة، لحسابات سياسية خاصّة بها، كلما حدث انفجارٌ في كنيسة، أو ذبح شخصٌ ملتحٍ مواطنا قبطيا وهو يدخّن أرجيلته أمام محلّ تجارته، كما حدث منذ أيام في مدينة الإسكندرية، أو قامت خصومةٌ حادّة بين عائلتين مسيحية ومسلمة بسبب شأن حياتي بسيط.
وفي هذا الإطار تأتي رواية هويدا صالح الموسومة بـ»جسد ضيّق» (دار الراية مصر 2016) لتفكِّكَ بنيةَ هذه العداء، وتكشف عمّا ينجم عنه من آلام. وهي آلام لها صور كثرة اجتماعية وسياسية وعقائدية، غير أن أكثرَها حضورا في الرواية هي تلك التي تتصل بالجسد الأنثوي، حيث تحملنا هويدا صالح إلى مناطق من معيش المرأة المصرية خفيّةٍ ومكتنزةِ بالصمت، عبر حكاية البطلة «فردوس» التي تتقاطع مجرياتُ واقعها مع رؤيتيْن للواقع مختلفتيْن: رؤية مسيحية وأخرى إسلامية، وهما رؤيتان تتوفّران على ما يُفرّق بين الناس أكثر مما يجمع بينهم.
والحق أننا لا نجد في رواية هويدا صالح جسدًا كائنًا بالوصف مُعيَّنًا لكلّ أبطال روايتها، وإنما نجد فيها ما يَسْكن الجسدَ ويكتظُّ فيه، أيْ تاريخ حرمانه على حدّ ما أشار إليه الناقد ممدوح فرّاج النابي. وهو أمر يحفزنا لأنْ نقول إنّ ضيق الجسد في عنوان الرواية مُحيلٌ على اتساعِ مآسيه في متنها، وفي هذا الشأن نزعم أنّ تغييبَ هويدا صالح لتفاصيل أجساد شخصياتها الروائية الأنثوية ـ وإنْ حضرت فيها بعض ملامحها – إنما هو تقنية فنيّة لاذت بها لتحقيق أمريْن: أولهما هو تأكيد أنّ أزمة ثقافتنا العربية متّصلٌ أغلبُها بأزمة تواصلنا مع أجسادنا، وثانيهما هو أنّ في غياب الجسد الأنثويّ المُعيَّن بالوصف ما يُبيح حضورَ حكايته. لكأنّ حكاية الجسد تُعوِّض وصفَه، أو لكأنّه لم يبق من قدرة للجسد المنسيِّ في التوصيف إلا قدرته على رواية تاريخه. من ذلك أن البطلة «فردوس» المسيحية التي لا نعرف عنها سوى وصفٍ بسيطٍ قوامه «شعرها المنسدل على كتفـــــيها، ووجهها القمحيّ، وعيـــــناها السوداوان» تحضر في الرواية عبر حكايتها، إذْ نكتشـــف أنّ علاقتها العشقية بصديقها «محمود» المسلم لم تنجح، رغم إصرارها على الارتباط به، حيث رفضت عائلتاهما قبول زواجهما، وفرّقتا بينهــما بالقوّة، ما جعل والدها يصبّرها بقوله لها: «يا ابنتي كُتب علينا أن نعيش طوال الوقت حياة ليست لنا وليست من اختيارنا».
وفي ظلّ قبول محمود بالأمر الواقع وزواجه من فتاة مسلمة وإقامته في القاهرة، لم تجد فردوس من حلّ لغضب كنيستها وعائلتها منها سوى الزواج ببرسوم منير نخلة الذي لم تكن تحبّه، غير أنها اكتشفت، بعد أن امتنع عن معاشرتها لشهور، أن له سلوكًا مارقا عن تعاليم الأخلاق يتمثّل في كونه يمارس الجنس مع أخيه، وهو أمرٌ أجبرها على أن تطلب منه الطلاق لتزهد في الدنيا وتعتكف في أحد الأديرة النائية، حيث عاشت هناك تجربة خاصة وقفت فيها على حقيقة أن مطالب الجسد لا يمكن أن تُسْكِتَها شروطُ التديّن ولا الصدقُ فيه، ومن أجلى مظاهر ذلك حالة الراهبة العجوز «فيبي» التي كانت تزور فردوس ليلا في غرفتها بالدير وتترجّاها أن تحدّثها عن الحُبّ لأنها تجد في حديث العشّاق ما يجعل جسدها يضطرب اضطراب اللذة، وكان ذاك دأب الراهبة «فيبي» إلى أن ماتت، وبموتها أحْيَت شهواتِ جسدها في الحكاية.
وفي رواية «جسد ضيّق» صور أخرى لآلام المرأة المصرية، طالت دلالاتُها ضعفَ تديّنها واحتقارَها من قبل الرهبان واستغلالَ فقرها، لتحويلها إلى جسد للمتعة. وهي دلالات محمولة في نُوَى سرديةٍ متفرّقةٍ داخل الرواية منها أنّ لوتس، زوجة المقدّس صبحي، تتخلّى عن ديانتها المسيحية وتعتنق الإسلام من أجل الزواج بمحمود بن البكري، وهو أمر فاجأ شعب الكنيسة وأثار غضبه. كما أن عالَم الرهبنة كان يمنع على الراهبة احتياز وظيفة داخل الدير، مثلما هي الحال بالنسبة إلى الراهب لعدم قدرتها على القيادة واتخاذ القرار. وتبقى الظروف الاجتماعية المتدهورة للمرأة المصرية عاملا من عوامل طمع الرجال في جسدها، وهي الحال التي كان يستثمرها تاجر القطن، منير نخلة، للإيقاع بضحاياه من النسوة، اللائي يقصدن بيته للتفاوض معه على بيع محصولهن من القطن قبل جمعه، فكان يمنحهن سُلفة بالنهار ويأخذ قيمتها لذّة من أجسادهن في الليل.
نجحت رواية «جسد ضيّق» في إيصال مضامينها الاجتماعية والدينية، غير أن كثرة تشظّيها الحكائي، ومحافظتها على نمط لغوي واحد في منطوق كل الشخصيات، وضعف أدائها الاستعاري، أمور تعاضدت مع بعضها بعضا كي تُقلّل من بلاغة مضامينها الفنية.

٭ ناقد تونسي

www.deyaralnagab.com