logo
خريف الغضب المعولم: فتش عن الرأسمالية التلفزيون: بُعِث من موته السريري !!
بقلم :  ندى حطيط  ... 29.11.2019

جولة سريعة على نشرات الأخبار التلفزيونيّة في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط تدفع المشاهد للاعتقاد بوجود ما يشبه موجة تسونامي متصاعدة من احتجاجات تجتاح العالم.
لبنان: آلاف المتظاهرين في الشوارع وأزمة سياسيّة وأمنية واقتصاديّة متفاقمة.
العراق: تظاهرات غير مسبوقة، وصدامات بين المتظاهرين والسلطات قتل فيها العشرات.
تشيلي: الملايين في الشوارع وإضرابات وإحراق مبان لمؤسسات عامة.
الإكوادور: الحكومة فرّت من العاصمة بعد تصاعد الاحتجاجات.
فرنسا: السترات الصفر في الشوارع أسبوعياً منذ أكثر من عام وآلاف المعتقلين في بلاد الحريّة والمساواة.
كاتالونيا: إضرابات عامة، ومطاردة لا ترحم للقادة المطالبين بالاستقلال.
هونغ كونغ: خمسة أشهر من المظاهرات العنيفة التي شلت المدينة ذات الوضع الخاص.
الجزائر: أزمة سياسيّة خانقة ومظاهرات مستمرة منذ أشهر.
هاييتي، كولومبيا، غينيا، بورتوريكو، البرازيل، ماذا يحدث لهذا الكوكب، وهل نحن بصدد موجة خريف غضب عالميّة الطابع عابرة للحدود والثّقافات وحتى للعوالم – حيث المشاهد من الشوارع في قلب باريس أو برشلونة لا تختلف كثيراً عنها في بغداد أو بيروت؟
ظاهرياً، لكل عاصمة (قشتّها)، لكن البعير واحد.
ظاهريّاً لا تبدو موجة الاحتجاجات التي تجتاح عواصم كثيرة وتهدد بالعبور نحو عواصم أخرى نتاج تنسيق أو ترابط، فلكل بلد ظروفه التاريخيّة والاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة الخاصة، والقشة التي قصمت ظهر البعير في سانتياغو (رفع أسعار بطاقات التنقل بالقطارات)، غيرها تلك التي أشعلت بيروت (فرض ضرائب إضافيّة بما فيها ضريبة على مكالمات الواتس أب) أو كيتو (توقيع اتفاقيّة قرض مع صندوق النقد الدّولي). وأنظمة بعض هذه الدول مؤيّد للمارد الأمريكي، وأخرى معارضة له، ولا شكّ أن أياد استخباراتية تحاول ركوب الموجة لخدمة أهداف استراتيجيّة تكرس نفوذ دولة العالم الأعظم بشكل أو بآخر. لكن ورغم كل شيء فإن انفجار كل هذا الغضب الواسع، والأرض التي بدت وكأنها مهيئة لموسم ثورات، وتزامن الأحداث في برهة وجيزة من الزمن يشير إلى وجود جذور أعمق بكثير من الأسباب المباشرة والمحليّة، وأكبر من مجرّد رغبة الأمريكي في قلب أنظمة مُعادية، وأقرب لأن تندرج في إطار سياق متدرج لظواهر عالميّة الطابع قد تراكمت كميّاً منذ عقد أو أكثر قليلاً، ويبدو أنها بصدد انفجار نوعيّ.
خريف الغضب: جذور الأزمة
لسبعين عاماً مضت منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية واستواء الإمبراطوريّة الأمريكيّة على عرش الكوكب، غُيّبت مسائل مثل العدالة الاجتماعية، والانقسامات الطبقيّة عن النقاش العام لمصلحة الصراع الأيديولوجيّ، الذي رافق الحرب الباردة. لكن تلك الأيّام ولّت دون رجعة منذ تفكيك الاتحاد السوفياتيّ (1991)، و”انتهى التاريخ”، كما ادعى المفكّر الأمريكي فوكوياما، فقد دخلنا جميعاً في عهدة العمّ سام، الرأسماليّ اليانكي الطيّب، الذي سيقود ازدهار السوق المعولمة المترامية عبر المعمورة. سيّارات من اليابان، وصناعة من الصين، وتكنولوجيا من السليكون فالي، وخدمات بنكيّة في لندن، وجبنة فرنسيّة وشوكولاتة بلجيكيّة وراقصات أوكرانيّات، لكن تحت الغلاف الما بعد حداثيّ الزائف هذا، كانت قدرة المشروع الرأسمالي على تمويل المهرجان الاستهلاكي الفاجر تتراجع لحظة بلحظة إلى أن وصلت حدّ الانفجار في 2008 إبّان ما عرف بالأزمة الماليّة العالميّة حينها، والتي كانت تهدد بانهيار كل “بيت الورق” الأمريكي المعولم لولا تبني الحكومات الغربيّة إجراءات استثنائيّة لتعويم البنوك على حساب قوت المواطنين العاديين، ومصالحهم، والخدمات الأساسيّة التي من المفترض أن تقدمها دولهم.
هذا بالطبع ترافق مع نزوع تلقائيّ لتراكم الثروات الباذخة في أيدي عدد قليل من أفراد كل مجتمع، وتوسع دائرة الفقر المدقع لتزدرد معظم أفراد الطبقة الوسطى، إضافة إلى زيادة غير مسبوقة في أعداد سكان المدن وتراجع أعداد العاملين في الزراعة والأرياف لمصلحة سكنى المناطق الحضريّة والعمل المأجور. هذه العوامل التي لا شك موجودة بشكل أو آخر عبر معظم دول العالم تتقاطع معاً في هذه الأثناء لتخلق مناخاً مواتياً لتفجّر غضب الجميع على الجميع، وتعمق فجوة الانقسام بين فئات المجتمع عبر خطوط الزّلازل العرقيّة والدينيّة والثّقافيّة وما شهدناه من صعود اليمين المتطرف، والشعبويين، وتجار الخطابات المتفجرة إلى مناصب التأثير والسلطة – بما فيها الولايات المتحدة نفسها- مع انحسار شبه نهائي للأحزاب اليساريّة التقليديّة وانتقالها إلى مقاعد المتفرجين.
التلفزيون: العائد من الموت السريري
وهكذا بينما تتأزم النخب الحاكمة وتبدو غير قادرة على استيعاب الحدث من حولها، وحين تفقد القطاعات الشعبيّة آمالها بالغد الأفضل وتلتحف باليأس والقنوط، يبدو (التلفزيون) وقد تلقى بدفع من موجة الانتفاضات المتلاحقة نوعاً من تنفّس اصطناعيّ استعادته من لجة الموت السريري الذي كان يقبع فيه منذ بعض الوقت. فبعد أن فقدت محطات التلفزيونات الكبرى المصداقيّة إثر الكشف عن كميّة الدّجل والأخبار الكاذبة والبروباغاندا المدفوعة الأجر، وتردي ثقة الجمهور بها نحو أدنى مستوياتها التاريخيّة، انصرف الناس عن نشراتها الإخباريّة وبرامجها السياديّة ليقعوا كصيد سهل ثمين في يد مجموعة النمور الأمريكيّة الصاعدة في فضاء (الستريمنغ) – أو البث عبر منصة الإنترنت – نيتفليكس، وأمازون وإتش بي أو وأخواتهن، ليتعاطوا هناك أفيون الدراما ويستصغروا همومهم عبر استهلاك لا يتوقف لقصص الديستوبيا والعوالم الفنتازيّة، بدأت البيوت التقليديّة للإعلام تلفزيونات وصحافة مكتوبة ومسموعة تلحظ أجواء تعافٍ مع عودة متصاعدة للطلب مجدداً على خدماتها، لا سيما الأخبار المنقولة على الهواء مباشرة من موقع الحدث ، أو تلك الحواريّة والسياسيّة المعنية به تحليلاً وتفسيراً واستقصاءً.
وأصبح المراسلون الميدانيّون نجوماً في يوم وليلة بعد سنوات تجّمدٍ في صقيع موت تلفزيوناتهم البطىء وانعدام الحرفيّة حتى يكاد بيتر أرنت مراسل “سي أن أن” الشهير في بغداد لحظة الغزو الأمريكي يتوارى من الخجل تجاه الثقة المفرطة التي يتحدث بها هؤلاء وكأنهم سادة العالم الجدد.
هذا في الوقت الذي زادت فيه أعداد قراء الصحف الكبرى أيضاً بـ 50 في المئة على الأقل وفق بعض التقارير بعد أن دخلت الأزمة كل بيت، ولم تعد مسائل الثورة والغضب مقتصرة على طليعةٍ تقدميّةٍ نخبويةٍ، بل صارت شغلاً شاغلا لكل المأجورين من أعلى مرتبات المهنيين أطباء ومحامين ومهندسين إلى قاع المجتمع من العاطلين عن العمل، والمتسولين، والأقليّات المهمشة وأولئك الذين تقطعت بهم أسباب الرأسماليّة.
الأفق المظلم: لا نهايات سعيدة
للثورات ولا للتلفزيونات
يحضرني في هذا المناخ ذلك التّعليق الصّاعق بتشاؤمه من أحد المؤرخين الذي سُئل في مقابلة تلفزيونية عمّا إذا كانت أمريكا اللاتينية تشهد في هذه الأثناء موجة ربيع ستزهر تغييراً وعدالة اجتماعيّة وتقدماً، فأجاب ساخراً “هذا ليس ربيعاً، إنه خريف غضب”. للحقيقة ومع تكلّس اليسار، وتمسّك النخب بامتيازاتها لحد القتل، وبعد عقود من تغييب الصوت الآخر والجدل السياسي، فإن هذه الانتفاضات لا تعد بنهايات قريبة سعيدة، وأغلب الظنّ أنها ما لم تقمع بالعنف المتناهي، فستكون صراعاً طويلاً مميتاً تنزف فيه كل الأطراف.
ليست هناك أحزاب لديها نظريّات ثوريّة ومشاريع لإدارة الدولة لحظة إسقاط النظام، بل تراكم مشاعر جياشة يختلط بها اليأس بالديني والعرقيّ والمناطقيّ، لينتج كُتلاً هوجاء غير قادرة على إدارة انتصارها إن حصل. ولذا لا بدّ وأن يملّ الجمهور بعد هنيهة، وسيعود إلى قواعده متعباً مخذولاً ليبحث عن أفيونه الدراميّ في عوالم الديستوبيا والفانتازيا التطهريّة المتخيلة، ليجدوا النّمور الأمريكية الجائعة تنتظرهم – وقد ازدادت عددا وشراهة بعد دخول “أبل تي في بلس”، وديزني بلس وبريتبوكس وغيرها مؤخراً إلى حلبة المنافسة – بينما سيعود التلفزيون، ومراسلوه إلى غرفة الإنعاش، وستستأنف الصحف الكبرى سيرها الواثق نحو الإنقراض وكأن شيئاً لم يكن.

المصدر: القدس العربي

www.deyaralnagab.com