logo
ما أشبه اليوم بالبارحة:تنسيق السلطة الفلسطينية الأمني مع الاحتلال يعيد صورة "فصائل السلام" !!
بقلم : محمد دلبح ... 03.04.2019

صورة المشهد الفلسطيني الراهن الذي تخيم عليه حالة الانقسام تعيد إلى الأذهان صورة الوضع الفلسطيني في نهايات الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1938-1939 حيث كان الصراع واضحا بين قوى الثورة و قوى الثورة المضادة التي كانت تتمثل آنذاك بما يسمى "فصائل السلام" التي جندها ومولها وسلحها الاحتلال البريطاني ودعمتها الحركة الصهيونية لمحاربة الثوار بغية إجهاض الثورة التي لم تتمكن قوات الاحتلال البريطاني من هزيمتها رغم الخسائر التي لحقت بها ولجوء قيادات لها إلى خارج فلسطين.
في المشهد الفلسطيني الراهن كما كان في أواخر ثلاثينات القرن الماضي ازداد إطلاق الاتهامات بالخيانة الوطنية بحق شخصيات سياسية وعامة وحتى أفراد عاديين، وهو أمر يحدث عادة لدى اشتداد التوتر السياسي والكفاح الوطني ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي والقوى المحلية المرتبطة به. والخيانة الوطنية بوصفها مركب اجتماعي يختلف تعريفها وفقا للظروف الموضوعية ويعتمد أيضا على من يقوم بالتعريف وموقعه في المجتمع وحركة النضال الوطني... وأحيانا يكون التعريف مرتبط بوضع ومفهوم طبقي اجتماعي. إن مفهوم خائن أو وطني في مجتمعاتنا العربية ومنها الفلسطيني الذي خضع ولا يزال لحقبات استعمارية وقوى حاكمة مرتبطة تاريخيا بالاستعمار هو مفهوم مراوغ ويمكن استخدامه بشكل تضليلي، ففي الفترة التي كانت فلسطين فيه تحت الاحتلال البريطاني ومجتمعها لم يشهد تبلورا طبقيا تتحدد فيه الفواصل بسبب التداخلات والعلاقات الأسرية والقبلية والعشائرية التي أحيانا كثيرة كانت أقوى من الانتماء الوطني والنضالي كان يجري التساهل في التعامل الحاسم مع مفهوم الخائن والعميل والجاسوس الذي قد يجري التسامح مع أفعاله بدعوى أنه يسعى لتحقيق مصلحة للمجتمع المحلي سواء على مستوى العشيرة والقبيلة أو على مستوى القرية بذريعة تجنب عمليات الانتقام أو القمع أو المصادرة التي تلجأ إليها السلطات الاستعمارية، كما كان يظهر من خلال دراسة هذه الظاهرة أن مفهوم الخيانة والعمالة كان لا ينطبق على قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية أثناء مرحلة الاحتلال البريطاني عندما تقوم بالمهادنة أو التعامل المباشر مع سلطة الاحتلال لكنها تصبح خيانة أذا جاء التعامل مع الاحتلال ومهادنته من قبل معارضي قيادة الحركة الوطنية ومثال على ذلك وصف المجلسيين (جماعة مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني) لمعارضيهم من جماعة رئيس بلدية القدس سابقا، راغب النشاشيبي، الذين كانوا يتخندقون في حزب الدفاع الوطني (الذي أنشئ في شهر كانون الأول/ديسمبر 1934 وضم فريقا متجانسا من أغنى الشخصيات في فلسطين إلى جانب عدد من الاقطاعيين وسماسرة الأراضي والوجهاء بما لهم من ارتباطات ومصالح مع سلطات الاحتلال البريطاني وايضا مع أمير شرق الأردن حينذاك، عبد الله بن الحسين الذي كان يناكف الحاج أمين الحسيني. ورضوا بسياسة التعاون مع بريطانيا، إذ وافقوا مثلاً على اقتراح إنشاء المجلس التشريعي (آذار 1936) في حين رفضه الحزب العربي الفلسطيني الذي يمثل كتلة المجلسيين (انصار مفتي القدس الحاج أمين الحسيني) وقد استخدمت السلطات البريطانية حزب الدفاع الوطني لإضعاف الحزب العربي الفلسطيني الذي كان يعتبر حزب الأغلبية.
شارك النشاشيبي ونائبه في الحزب يعقوب فراج في عضوية اللجنة العربية العليا لفلسطين لدى تأسيسها في نيسان/إبريل 1936 برئاسة الحاج أمين الحسيني التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية. ولكن الانقسام في وجهات النظر عاد مع قدوم اللجنة الملكية (لجنة بيل)، حيث أعرب النشاشيبي عن استيائه من قرار اللجنة العربية العليا مقاطعة تلك اللجنة متبنيا موقف الحكام العرب المؤيد لعمل اللجنة، ولا سيما موقف الأمير عبدالله أمير شرق الأردن، وانتقد مواقف المفتي التي وصفها بالمتطرفة، وأبدى قلقه من مجابهة مسلحة كاملة مع البريطانيين. وقد استجابت اللجنة العربية العليا إلى وساطة الحكام العرب وألغت في 6 كانون ثاني/يناير 1937 قرار مقاطعة اللجنة الملكية التي عادت للعمل لتصدر في تموز/يوليو 1937 تقريرها الذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق: دولة يهودية، ومنطقة انتداب بريطاني، ومنطقة عربية تضم إلى شرق الأردن. وقد رفضته اللجنة العربية العليا، فيما كان النشاشيبي يميل إليه ويقترح الموافقة عليه بتشجيع من الأمير عبدالله أملاً في أن يتولى – بمساعدة بريطانيا – القيادة السياسية في فلسطين بعد إزاحة المفتي وحل اللجنة العربية العليا في الأول من تشرين أول/أكتوبر 1937 ونفي بعض أعضائها وفرار آخرين إلى لبنان من بينهم الحاج أمين الحسيني.
إثر تلك التطورات حاول راغب النشاشيبي ومناصروه تشكيل قيادة فلسطينية تحل مكان اللجنة العربية العليا. ولما فشل في ذلك عمد إلى محاولة تشويه سمعة الثورة (1936 – 1939 ) باتهامها بالإرهاب وارتكاب المذابح، واتهام القادة الوطنيين بتحويل الثورة لمصلحتهم الشخصية والاستيلاء على الأموال المخصصة لشراء السلاح والذخيرة. ورغم الموقف العلني لحزب النشاشيبي واستنكاره للتقسيم ولإجراءات سلطات الاحتلال البريطاني القمعية ضد المقاومة الشعبية العنيفة للتقسيم ومقاطعته لجنة وود هيد التي أرسلت في 27/4/1938 لدراسة مشروع التقسيم، فإنه قبل أن يتولى رجاله مناصب رؤساء البلديات وأعضاء المجلس الإسلامي بتعيين من سلطة الاحتلال البريطاني بعد عزل المفتي الحاج أمين الحسيني وأنصاره، ورفض العودة إلى اللجنة العربية العليا، وأبدى استعداده للتفاهم مع السلطات البريطانية، وتفاوض معها لتشكيل لجنة عليا تحل مكان اللجنة السابقة ويتولى النشاشيبي رئاستها.
وقد استغلت سلطات الاحتلال البريطاني الخلاف والصراع بين المفتي وأنصاره وبين النشاشيبي وانصاره لشق الصفوف وضرب الثورة التي تجددت في تشرين أول/أكتوبر 1937 من الداخل، وتعاونت في ذلك مع بعض العملاء وبينهم أعضاء في حزب الدفاع على رأسهم فخري النشاشيبي الذي تحدى الحركة الوطنية الفلسطينية وبعث إلى المندوب السامي البريطاني مذكرة في 14/11/1938 يعلن فيها الموافقة على خطة التقسيم التي كانت بريطانيا أعلنتها في 7/7/1937 والتي اعتبرتها في بيانها يوم 9/11/1938 بأنها غير عملية وتخلت عنها. وسعى إلى ضرب الثورة وتشويه مقاصدها بتنظيم مظاهرة من أعوانه توالي الإنكليز وتجاهر بالعداء للثورة، وعقد مؤتمرا في بيته وآخر في قرية يطة القريبة من مدينة الخليل للتنديد بالمفتي واتهام قادة الثورة بشتى التهم غير أن الاجتماع لم يكن ناجحا.
عندما عجزت سلطات الاحتلال البريطاني (الانتداب) إخماد الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في عام 1936 والتي امتدت حتى عام 1939، احتجاجا على تسهيل استقدام اليهود للاستيطان في فلسطين قامت بتأسيس مجموعات مسلحة للعمل ضد الثورة عرفت باسم "فصائل السلام" وأوكلت قيادتها لكل من فخري النشاشيبي سكرتير حزب الدفاع الوطني وهو ابن شقيق راغب النشاشيبي، وفخري عبد الهادي وهو من قرية عرابة إحدى قرى جنين شمال فلسطين، و كان أحد قادة فصائل ثورة 36 الذي لجأ إلى سوريا هربا من مطاردة قوات الاحتلال البريطاني له، حيث التقطه القنصل البريطاني في دمشق المقدم جيلبرت ماكبريث، الذي استغل معاناة عبد الهادي المالية وحالته المعيشية المزرية في دمشق لإسقاطه في شبكة الخيانة الوطنية. وقدم ماكبريث لعبد الهادي دفعات مالية شهرية مما سهل له تجنيده للعمل لصالح بريطانيا ضد الثورة وتولي قيادة إحدى فرق "فصائل السلام" الرئيسية، وجمع ماكبريث أموالا قدمها لعبد الهادي لتسهيل عودته إلى قريته عرابة لينطلق منها لتنظيم مجموعات فصائل السلام، كما عرض على عبد الهادي عفوا لقاء انضمامه إلى جانب معارضي الثورة الذين يتزعمهم آل النشاشيبي. وقد رتبت سلطات الاحتلال البريطاني عودة فخري عبد الهادي إلى فلسطين في 21 أيلول/سبتمبر 1938 ليبدأ العمل ضد ثوار فلسطين الذين كانوا يقاتلون على جبهتين: الاحتلال البريطاني والوجود الصهيوني في فلسطين، وعمل مع فخري النشاشيبي لتشكيل "فصائل السلام" العميلة لبريطانيا التي عملت لتعزيز نفوذه ونشاطه بتقديم إعانة له ودفعت لكل عنصر من فصائل السلام التابعين لهم والذين بلغ عددهم 500 مقاتل، ستة جنيهات فلسطينية شهريا (ما يعادل ستة جنيهات استرلينية) في الوقت الذي كان يدفع فيه قادة الثوار عادة ما بين 30 شلن إلى أربع جنيهات، جزء منها كان يأتي من الأتاوات وتبرعات القرويين الفلسطينيين. ويظهر الاستعداد لدفع أجور جيدة مدى جدية السلطات البريطانية في تعاملها مع فصائل السلام, حيث كان ذلك المبلغ يعتبر دخلا جيدا.
قامت عصابات فصائل السلام بما عجز بما عنه الاحتلال البريطاني من أعمال الملاحقة والمطاردة. وارتكبت تلك العصابات جرائم وفظائع عديدة، باسم الانتقام "لضحايا" الثورة، أي للسماسرة والعملاء، أو الذين قتلوا خطأ أو لأسباب خاصة. وكانت بنادق "المعارضين" اللامعة، وسيرهم جماعات في وضح النهار، أمام أعين سلطات الاحتلال البريطاني، تكشفهم وتفضحهم. (ناجي علوش، المقاومة العربية في فلسطين (1917-1948) صفحة 102). وقد تلقىت عصابات فصائل السلام" السلاح من البريطانيين والصهاينة. وقد هاجم عناصر عصابات "فصائل السلام" المسلحة القرى المؤيدة للثوار واعتقلت وقتلت أنصار ومؤيدي الثورة وسجنت الثوار الذين اعتقلتهم في سجون اقامها لهم الاحتلال البريطاني وعملت على كشفت المواقع التي يتواجد فيها الثوار والوشاية بهم وجمع المعلومات عنهم وتسليمها إلى سلطات الاحتلال البريطاني في إطار التنسيق الأمني بغرض إجهاض الثورة. وكان أحد الأهداف التي سعى الاحتلال البريطاني إلى تحقيقها من تشكيل "فصائل السلام" الحد من التأييد الجماهيري للثورة وذلك بإلصاق تهم القتل والسلب التي قامت بها عصابات “فصائل السلام” بالثورة.
ومن بين من قادوا عصابات "فصائل السلام" إلى جانب فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي: فريد ارشيد في عرابة وجنين (وهو من اتهم باستقدام قوات الاحتلال البريطاني لمحاصرة ومهاجمة القائد العام للثورة عبد الرحيم الحاج محمد (أبو كمال) ورفاقه في بلدة صانور يوم 27 آذار/مارس 1939 حيث استشهد.) وحافظ الحمدالله في عنبتا (وهو جد رامي الحمدالله رئيس حكومة السلطة الفلسطينية الذي استقال مؤخرا. وعندما توفي حافظ الحمدالله عام 1974 رفص الكثير من المصلين المشاركة في صلاة الجنازة)، وفصيل عائلة عمرو في الخليل، وعبد الفتاح درويش في المالحة، ونمر ابو غوش في قرية ابو غوش، وإبراهيم عبد الرازق في بيت ريما، وابو نجيم الشنطي في قلقيلية.
لقد شارك فخري عبد الهادي في الثورة كاحد قياداتها لكن ذلك لم يمنحه صك براءة بعد ان ارتد وتعاون مع سلطة الاحتلال البريطاني والصهاينة وحمل السلاح ضد الشعب وثورته. وبعد ان استنفذت سلطات الاحتلال البريطاني غرضها من فصائل السلام عقب إجهاض ثورة 36-39 باستشهاد القائد العام عبد الرحيم الحاج محمد سارعت في منتصف عام 1939 إلى حلها وقطع علاقاتها مع قادة هذه الفصائل خاصة فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي، وطلبت منهما تجميد كل نشاط لهما في هذا المجال وقامت بسحب السلاح من عناصرها وتركت فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي لمصيرهما المحتوم، فقد تم قتل فخري النشاشيبي في بغداد في 16 تشرين ثاني/نوفمبر 1941 حيث كان في ضيافة ربيب بريطانيا نوري السعيد، وقتل فخري عبد الهادي في قريته، عرابة على يد ابناء عمومته في عام 1943.
ما نشهده الآن في الضفة الغربية المحتلة التي توجد بها سلطة فلسطينية تقودها حركة فتح طبقا لاتفاق أوسلو الذي تضمن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها قيادة حركة فتح، بحق الكيان الصهيوني بالوجود وحقه بامتلاك ما سرقه واغتصبه من اراضي وحقوق الفلسطينيين. ورغم أن الكثيرين يرون أن اتفاق اوسلو يدخل في باب الخيانة، لكنه من وجهة نظر تلك القيادة غير ذلك لأنها هدفت كما تزعم إلى الحصول على موطئ قدم في فلسطين يحافظ على وجود الشعب والقضية من الانقراض.
في كل أدبيات حركة فتح والمنظمات الأخرى وقرارات المجلس الوطنية حتى عام 1988 كان القبول بالحكم الذاتي والقبول بالتعامل والتنسيق مع الاحتلال هو خيانة يستحق مرتكبها القتل وهو ما مارسته هذه الفصائل ضد شخصيات فلسطينية نادت بذلك فيما اعتبر عرفات ومعه قيادة حركة فتح أن الحكم الذاتي الذي وقعت على اتفاقيته في أوسلو وواشنطن عام 1993 هو عمل وطني يندرج في إطار سياسة "إنقاذ ما يمكن إنقاذه". ألم يتعرض عزيز شحادة ومحمد علي الجعبري وغيرهم إلى التهديد بالقتل عندما تقدموا بمقترحات للتسوية مع الكيان الصهيوني بعيد احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة؟ ألم يتعرض من وصفوا بعملاء النظام الأردني في الضفة الغربية بعد عام 1967 إلى التهديد بالقتل؟ ألم يتعرض جماعة روابط القرى إلى التهديد بالقتل بتهمة الخيانة الوطنية فيما تقوم سلطة الحكم الذاتي بالتنسيق الأمني خدمة للاحتلال ضد المقاومة باعتراف راس السلطة وأصغر كادر فيها مبررين ذلك بأنه للحفاظ على حياة الناس ومعيشتهم تماما كما كانت تقول عصابات فصائل السلام التي جندها ومولها وسلحها الاحتلال البريطاني للعمل ضد ثوار فلسطين في عام 1938-1939
قد يجد البعض ذريعة لارتماء شخصيات ورموز سياسية وأفراد في أحضان الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين طلبا للحماية في أوج الصراع بين المجلسيين والمعارضة حيث كانت الغلبة للمجلسيين من أنصار الحاج أمين الحسيني الذين قاموا بعمليات اغتيال وإعدام "الخونة" والتي كانت أحيانا بدوافع حزبية ومصالح شخصية كانت تغلف بدوافع وطنية. ولكن في الوضع الراهن كيف يمكن لسلطة الحكم الذاتي أن تبرر قيام أجهزتها الأمنية بدور الأدلاء وقصاصي الأثر للتبليغ عن مكان الفدائيين ومقاومي الاحتلال بالسلاح في الضفة الغربية. لقد اعترف اسحق رابين وشمعون بيريز أن الطريق الوحيد لإنهاء الانتفاضة التي اندلعت في فلسطين المحتلة في أواخر عام 1987 والتي عجزت سلطات الاحتلال الصهيوني عن تصفيتها هي في التوصل إلى اتفاق مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وإقامة سلطة لها في الضفة الغربية وقطاع غزة تتحمل العبء الأمني والاقتصادي للاحتلال. وتقوم الولايات المتحدة بوصفها الحامي والداعم الرئيسي للكيان الصهيوني واحتلاله لفلسطين بتدريب وتمويل وتسليح قوات أمن السلطة الفلسطينية مثلما قامت بريطانيا بتمويل وتسليح عصابات "فصائل السلام"
بقي الحاج أمين الحسيني متمسكا بفلسطين كلها ورفض التنازل عن أي جزء منها وهو موقف صحيح يحسب له بكل المقاييس الوطنية. ولم يكن ليغير الوضع لو قبل بالتنازل لأن المشروع الصهيوني المستند إلى الدعم البريطاني والغربي كان يسير إلى نهايته بإنشاء "الوطن القومي لليهود" في فلسطين تنفيذا لوعد بلفور، وموازين القوى كانت ستحدد مساحته وحجمه سواء وافق الحاج أمين الحسيني أم لم يوافق. لقد روج معارضو الحاج أمين الحسيني أن موقفه في رفض التنازل عن الحق الفلسطيني (بغض النظر عن دوافع رفضه) سوف يؤدي إلى تدمير المجتمع الفلسطيني وطرد الفلسطينيين من ديارهم وأن ما يفعلونه من قبول بالتسوية هو الحفاظ على بقائهم على أرضهم وذلك بالتعاون مع الصهاينة، لكن هؤلاء ربما لم يعوا ويدركوا في حينه ماهية المشروع الصهيوني وأن ما يريده الصهاينة هو تعاونهم في بيع الأراضي والشؤون الأمنية والسياسية. لم يظهر المتعاونون فقط في فترة صراع المجلسيين والمعارضة بل سبقها بسنوات، وللدلالة على ذلك البرقية التي كان أرسلها حسن شكري، رئيس بلدية حيفا ورئيس الاتحادات الاسلامية الوطنية إلى الحكومة البريطانية أثناء وجود وفد رسمي يمثل المؤسسات والهيئات الوطنية الفلسطينية في لندن في تموز/يوليو 1921 في محاولة يائسة لإقناع بريطانيا بالعدول عن وعد بلفور والتزامها بالسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين قال شكري في برقيته "نعارض بشدة موقف الوفد المذكور المتعلق بالمسالة الصهيونية، نحن لا نعتبر الشعب اليهودي عدوا يرغب في سحقنان بل خلافا لذلك نحن نعتبرهم شعبا شقيقا يشاركنا أفراحنا وأوجاعنا ويساعدنا في بناء بلدنا المشترك. نحن على ثقة بأن بلدنا لن تشهد تطورا في المستقبل بدون الهجرة اليهودية والمساعدات المالية. ويشهد على ذلك جزئيا وضع المدن التي يسكنها اليهود مثل القدس، يافا، حيفا وطبرية التي تحرز تقدما مطردا، بينما تعيش نابلس، عكا والناصرة حيث لا يقيم يهود تدهورا مستمرا." (هيليل كوهين، جيش الظل، المتعاون الفلسطينيون مع الصهيونية 1917-1948 ترجمة هالة العوري، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت ط 1 2015 ص 27). ويذكر هليل كوهين في كتابه أن الاتحادات الإسلامية الوطنية لم تكن سوى هيئات قام رئيس القسم العربي التابع للجنة التنفيذية الصهيونية كاليفاريسكي بإنشائها كقوة موازية للجمعيات الإسلامية/المسيحية التي كانت تشكل النواة الصلبة للحركة القومية الفلسطينية المناهضة للاحتلال البريطاني والوجود الصهيوني في فلسطين.
أما عرفات الذي كان همه الأساسي تحقيق مشروعه الخاص بالزعامة فقد قبل التنازل عن الحق الفلسطيني لقاء زعامة مؤقتة ثمنها القيام بدور شرطي الحدود لحماية أمن الكيان الصهيوني. كان هاجس عرفات منذ تسلمه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن "لا يخرج من المولد بلا حمص" كما خرج الحاج أمين الحسيني والشقيري، وأخذ يردد:” إذا كان هناك ما لا أريد أن أكونه، فهو الحاج أمين. لقد كان على حق في كل شيء، غير أنه انتهى بدون أي شيء، أي شيء، لا أريد أن أكون هكذا" (مدونة سلافة حجاوي الإلكترونية، عرفات والحسيني 2010)
لن يجد أحد في كتب التاريخ من يصف الحاج أمين الحسيني بالخيانة، لكن هناك الكثير ممن يستخدمون هذا الوصف في الحديث عن جماعة أوسلو.


www.deyaralnagab.com