logo
تعال إلى حيث المتعة… الصورية!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 16.09.2017

صحيح أن وسائل التواصل الحديثة وخاصة جهاز الهاتف المحمول (الموبايل) قد حوّل كل إنسان يحمله إلى مصور ومؤرخ يشارك في كتابة التاريخ وتدوينه بالصورة وبالصوت والصورة أيضاً، وصحيح أيضاً أن كل إنسان يقتني موبايلاً أصبح مصوراً ينقل الأحداث والمشاهد بلمح البصر من خلال عدسة الهاتف المحمول، لكن هذا الجهاز العجيب بات يحرمنا نحن البشر من الكثير من المتع التقليدية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى في غياهب النسيان.
صرنا مهووسين بتصوير كل شيء يتحرك أمامنا لكن دون أن نستمتع أو نتمعن بتلك الأحداث والمشاهد التي تلتقطها عدسات الموبايلات. لقد كنا في الماضي نستمتع بأبسط المناظر، ونقف أمامها أينما شاهدناها ونتأملها ونهضمها روحياً وعقلياً، فتنحفر ذكراها في مخيلتنا وذاكرتنا كالنحت في الصخر. صحيح أننا كنا نصطحب معنا في سفرنا وحلنا وترحالنا في بقاع العالم كاميرات أحياناً لتدوين رحلاتنا صورياً، لكن الولع بتصوير المناظر والأشياء لم يكن هاجساً أو نوعاً من الإدمان أبداً، بل كنا نكتفي بالتقاط بعض الصور بحيث لا يزيد عدد الصور عن أربع وعشرين وبالكثير عن ست وثلاثين صورة، وهو العدد المحدد لأفلام الكاميرات القديمة. ولا ننسى أن تحميض الأفلام في تلك الأيام كان يشكل عبئاً مالياً لا يستهان به في تلك الأيام الخوالي، فلا يكفي أن تشتري فيلماً وتضعه في الكاميرا، بل كان عليك التوجه إلى أقرب استوديو تصوير كي تقوم بتحميض الفيلم مقابل مبالغ مالية ليست بالقليلة. لم نكن مغرمين في تلك الأيام بتصوير أي شيء في رحلاتنا وسفرنا باستثناء الأماكن الأثرية وبعض الصور الشخصية التي تذكرنا لاحقاً بأيامنا الخوالي.
أما اليوم في عصر الموبايل وعصر الصورة فقد أصبحنا أكثر اهتماماً بكثير بتصوير كل شيء مستفيدين طبعاً من العصر الرقمي الذي قضى على استوديوهات التحميض، وجعلنا الآن نرى الصور الملتقطة بعد ثوان فقط من تصويرها دون أن ندفع قرشاً واحداً. لا شك أن هذا الفتح التكنولوجي في مجال التصوير عظيم جداً ولم يسبق له مثيل في التاريخ، ولا شك أنه سيلعب دوراً كبيراً ومهماً جداً في تدوين التاريخ بأدق تفاصيله، بعد أن كانت كتابة التاريخ في الماضي من اختصاص الدول والمؤرخين والكتاب الذين كانوا يتلاعبون بأحداثه وشخوصه، ويضيفون عليه توجهاتهم ولمساتهم الخاصة التي تشوه الحقيقة، وربما تقدم عكسها تماماً. وقد نصحنا المؤرخ البريطاني الشهير هنري كار ذات يوم بأنه مطلوب منا قبل أن نقرأ التاريخ أن نقرأ عن المؤرخ، وقبل أن نقرأ عن المؤرخ علينا أن نقرأ عن الخلفيات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية للمؤرخين، لأن كل مؤرخ يكتب التاريخ من خلال وجهة نظره وتوجهاته الخاصة. فإذا كان المؤرخ ماركسياً فلا شك أنه سيقرأ وسيدون التاريخ من وجهة نظر ماركسية، وسيصف لنا أحداث التاريخ على أنها مجرد صراع طبقات نافياً عنها التفاصيل الأخرى. وإذا كان المؤرخ متديناً فلا شك أنه سيرى، وسيكتب التاريخ من وجهة نظر دينية، وسيتعامل مع الأحداث على أنها مجرد قضاء وقدر ولا علاقة لإرادة البشر بها لا من بعيد ولا من قريب. لكن كل ذلك سينتهي إلى غير رجعة بعد أن بات كل شخص في هذا العالم يحمل جهازموبايل قادراً على تدوين التاريخ حياً. لكن التدوين الحديث للتاريخ أصبح للأسف تدويناً أتوماتيكياً جافاً بلا روح، لأن الإنسان في عصر الصورة والتصوير بات ينظر إلى كل الأحداث والأشخاص واللاعبين الكبار والصغار الذين يصنعون التاريخ نظرة صورية (من صورة) بدل أن يتمعن في الحدث والمناظر والمشاهد.
نذهب أحياناً إلى منطقة قد تكون قطعة من الجنة، لكن بدل أن نجلس ونستمتع بالمناظر الخلابة روحياً وعاطفياً وعقلياً، نمسك بالموبايل، ونبدأ بالتقاط الصور كما يمسك الجائع بالصحن دون أن ينتبه إلى ما فيه من طعام. والأنكى من ذلك، اننا ننسى الطبيعة من حولنا وننشغل بالتواصل مع أناس بعيدين جداً بدل التواصل والاستمتاع بالطبيعة وجمالها. كم هو أمر محزن أن نتجاهل سحر الطبيعة الخلاب، ونبدأ بأخذ عشرات لا بل مئات الصور أحياناً متجاهلين المناظر ذاتها. وقد أعجبني أحد الأشخاص قبل فترة عندما أرسل ابنه الصغير في رحلة مدرسية، وأعطاه فقط هاتفاً محمولاً بلا كاميرا كي يدفعه إلى الاستمتاع بالمناظر والمشاهد التي يراها بدل أن يصورها.
أليس من المحزن أننا بتنا نستمتع بالصور التي التقطناها بأجهزة الموبايل بعد أن نعود من السفر أكثر مما استمتعنا بالمناظر ذاتها أثناء السفر. ولطالما أمضينا وقتاً طويلاً مع صورنا المصورة بالموبايل أكثر مما أمضينا أثناء سفرنا في مشاهدة المناظر والجمال الخلاب للطبيعة والآثار والبشر.
لقد صارت متعتنا في عصر الصورة للأسف صورية بحتة، أي زائفة، فشتان بين ما نراه عبر عدسة العين وما نراه عبر عدسات كاميرات الموبايلات.
لماذا صارت الصورة أهم من المشاهد المصورة ذاتها؟ إنه طغيان الصورة بامتياز!!


www.deyaralnagab.com