logo
عن فرصة ترامب الضائعة انقلاب تركيا وهجوم ميونيخ ماذا فعلت بنا «الصورة»؟!
بقلم : ندى حطيط ... 29.07.2016

غيّر التلفزيون بشكل نهائي طبيعة الحوارات بين البشر. لم يعد المضمون هو بيت القصيد، أقله مقارنة بالخارجي البصري المبهرج، بالجدلي معنى وحضورا، وبغض النظر عن الأدوات المسلطة بهدف التأثير وقدرتها على الاستحواذ على المتلقي وإنشاء قواعد وأطر تؤطر السلوك الغريب وظواهر التهريج السياسي معدلة كل المواقف والاتجاهات لتتلاءم مع الاستقطاب المستهدف متسللة إلى عواطف ومشاعر المؤيدين .
نحن الآن نتبادل الصور لا الأفكار، والانطباعات الشكلية لا الكلمات.
مؤتمر الحزب الجمهوري الأمريكي الأسبوع الماضي كان تذكيراً فجاً للجميع بهذه الحقيقة المؤسفة، التي لا نملك إلا قبولها والتعايش معها. فصورة الرئيس المرشح صارت أهم بكثير مما سيقوله، وتعامله أمام الكاميرا أهم من قدرته على إدارة الدولة العظمى. لنكن صرحاء: ماذا يفهم هذا الرجل الستيني في السياسة والإستراتيجيا والإقتصاد؟ لا شيء. مؤهلاته: إدارة محكمة للكاميرا لأربعين عاما وذكاء شوارع خارق في لعب خيوط الرأسمالية لبناء ربح وفير.
قبل التلفزيون لم يكن الأمر كذلك. رئيس مثل وليم هاورد تافت، الرئيس الـ27 للولايات المتحدة، والذي كان مفكراً من الطراز الأول قادراً على مناقشة القضايا الأساسية وعرض أفكاره بسلاسة ومنطقية لن يمتلك أدنى فرصة للترشح للرئاسة اليوم: فالرجل كان شديد السمنة، متعدد طبقات الرقبة ومهما كان سيقول فإن حضوره التلفزيوني وصورته العامة التي لا تشابه النجوم في فضاءات الحضور المتنوع جديا كان أم كوميديا، ستودي به في السباق الإنتخابي. لن تنتخبه النساء بالطبع، و لا المراهقون ولا حتى الطبقة العاملة، التي قد تراه سميناً من وراء ثراء متأصل.
ليس المطلوب من «الصورة» الراهنة بالطبع تقديم الجمال والحضور البهي. لقد مللنا ذلك من كثرته. ما يريده الجمهور اليوم هو صور تحترف التسلية، تقديم حضور مختلف، صاخب، مبهر، مضحك بعض الشيء، ولا عيب أن يكون تهريجيا في أغلب الأحيان، ربما «تلفزيون واقع»، ومقابلات مع شخصيات أكثر تسطيحاً كي تبقى صورة النجم طاغية في بريقها، كما عليه البقاء في فضاءات العفوية، فالمفكرون مملون عادة ولا نفهمهم، ولأنهم ليسوا مثلنا. لنعد إلى حفلة التشويق والجنون: اعطونا ترامب!
كتبة خطابات الرؤساء أصيبوا بالصدمة الأسبوع الماضي من خطاب قبول ترشيح ترامب في مؤتمر الحزب الجمهوري. فالرجل في عرفهم لم يقدم ما اعتاد مرشحو الرئاسة أن يقدموه في خطاب قبول الترشح. عادة يتحدث المرشح في هذا اليوم عن نفسه كإنسان: عن والديه وأحلامه، عن رفيقته وأولاده. جورج بوش الأب مثلاً تحدث عن نفسه في 1988 معترفاً بنقاط ضعفه. قال «نعم أنا رجل شديد الهدوء. ولكني بسبب ذلك أقدر على الإستماع لمن لا يستمع لهم الآخرون».
ميت رومني في 2012 نجح في تغيير صورته السلبية في ذهن الناخبين كخطيب سفيه من خلال رواية قصة الوردة اليومية، التي كان يتركها أبوه لأمه كل صباح وكيف أن أمه خرجت للبحث عن رجلها عندما لم تجد وردتها ذات صباح لتجده قد سقط ميتاً. حتى ريتشارد نيكسون في 1968 الذي كانت حملته بشكل ما عن أمريكا قوية، حدثنا في خطاب الترشيح عن الصبي، الذي كانه في مزرعة ليمون قصية في غرب أمريكا يحلم بالوصول إلى أماكن بعيدة. حتى هيلاري كلينتون، بدأت أخيراً بالتقرب من جمهورها والإعتراف بإرتكاب هفوات وأخطاء.
ترامب، ورغم أن الخطاب كان فرصة حاسمة له لتصحيح صورته الكاريكاتورية الهزلية، فإنه تجنب عن قصد تعديل هذه الصورة. لم يقل أي شيء مهم أو جديد عنه كإنسان، بل إستمر في تكرار خطابه عن استعادة أمريكا القوية، مشددا بأنه الرجل المناسب الذي يعرف كيف سيجعلها قوية. ترامب بالتأكيد، وهو نجم تلفزيوني دائم، يعرف أكثر من غيره ماذا فعلت بنا الصورة. من هنا رهانه على صورته الكاريكاتورية كتسلية مشوقة بوصفها سر الإنتصار المقبل في الإنتخابات، على الباهتة والشاحبة، المحترفة هيلاري. إذن «الترامبوية الكاريكاتيرية» تحشد الغوغائية الأمريكية وقطاعات واسعة من الشعب الذي أفلح ترامب بإثارة مشاعر لن تفيدهم بقدر ما تربكهم، ولن تحظى إلا بالحديث عن الراهن الأمريكي، وسيبقى المستقبل رمادي الصورة. يعلق أحد الخبثاء أن وظيفة كتبة خطابات الرؤساء ستنقرض قريباً، وربما سيعهد فيها لموظفين من الدرجة الثانية لمصلحة مصففي الشعر ومستشاري الظهور الإعلامي!
الانقلاب في تركيا: كيف أنقذ السوري ستيف جوبز حكم أردوغان
في ليلة الجمعة 16 تموز/يوليو حصلت محاولة انقلابية. منذ اللحظات الأولى إنتشرت كاميرات البث المباشر لنقل تحركات القوات والأفراد على الجسور والساحات الرئيسة في أنقرة وإسطنبول. كانت تلك ليلة مشوقة أخرى لعشرات الملايين حول العالم – كأنها فيلم مغامرات طويل. جنود ومدنيون وحواجز ومدرعات وأحيانا طائرات حربية وانفجارات بعيدة مكتومة. ثم مذيعة شقراء يكاد يلمع الغباء في عينيها تقرأ على الأمة بياناً عسكرياً. بحث مكثف عن مكان وجود الرئيس وتضارب في الأنباء. ثم الرئيس على «فيس- تايم» يتحدث إلى مذيعة تبدو وللحقيقة أقل غباء من تلك التي قرأت البيان. يقطع الخط مرات عدة، لكن الرئيس المثابر يعاود الإتصال مرة أخرى. يا جماهير الأمة التركية أنا هنا صامد، هلموا للساحات العامة. يخرج المناصرون إلى الطرق الرئيسة والساحات ويتعرضون للجنود الذين بدوا وكأنهم لا يعلمون ما الذي يجري فعلاً. انتهى الانقلاب. تمت إعادة السيطرة على الأمور عند مطلع الفجر. إنتهى الفيلم – يمكنكم العودة إلى النوم!
ترى ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن الرئيس لم يحمل جهاز أي – فون؟ ماذا لو كان يستعمل «سامسونغ» مثلاً، وهو الجهاز الذي لا يتفهم فكرة «الفيس – تايم» المقتصرة على أجهزة الآي فون؟ كيف كان يمكن أن يعرف المناصرون أن الرئيس حي يرزق فيخرجوا للتنكيل بالقوات المسلحة ودحرها؟ هل كان الرئيس نائماً عند بدء المحاولة الانقلابية بعد منتصف الليل؟ ماذا لو لم يكن عنده تلفزيون ليلتها؟
خلاصة الانقلاب التركي: الانقلاب صورة. من يسيطر على الصورة، يسيطر على السلطة. تشكرات ستيف جوبز المبدع السوري الامريكي. هكذا يقول لسان حال أردوغان. كانت تلك لحظة فاصلة. مكالمة مصورة واحدة غيرت مسار التاريخ. المئات الذين قتلوا من الطرفين وآلاف الحيوات التي دمر مستقبلها، غير موجودين بالنسبة لنا. نحن لم نرهم في الصورة!
هجوم ميونيخ: رعب مصور
ألماني من أصل إيراني مصاب بلوثة عقلية في ما يبدو شن هجوماً على رفاق له وآخرين في سوق عامة في ميونيخ قبل أن يقتل نفسه. تضاربت إدارة الشرطة الألمانية للحادث فهي تقول لا تشتركوا بالصور على مواقع التواصل الإجتماعي لأنكم تساعدون المهاجمين، ثم تقول إن هذه الصور كانت دليلها الوحيد للسيطرة على الأمور لإنعدام المعلومات لديها عما يجري. قالت لا تنشروا معلومات غير دقيقة عن الفاعلين كي لا تتسبوا بردود أفعال ليست في مكانها، لكنها تعرفت على القاتل من صور ومعلومات على «تويتر» و«فيسبوك». قالت لا تستبقوا التحقيقات وتنشروا تخرصات، فإذا أغلب معلوماتها عن القاتل وتحليلها عن شخصيته هي من صفحته على «فيسبوك». مدينة هائلة مثل ميونيخ تحولت إلى مدينة أشباح خلال دقائق من خلال الصور على مختلف الشاشات، بينما لا تزال السلطات غير متأكدة مما يحصل بالضبط.
أنا ألماني … قال القاتل، ونحن رأيناه على سطح المبنى. كان غاضباً يشتم. ويطلق النار، لكن عربياً وتبدو زوجته إلى جواره مما سمعناه، كان يخاطر بحياته ويصور الشتائم. كان ذلك الدليل الوحيد للسلطات على ما جرى. كل العالم شاهد الصورة من تلفون الأخ العربي. كلنا كنا هناك على سطح المبنى والشتائم تتساقط علينا مثل المطر. هل كان ستيف جوبز بتلفوناته الذكية منقذ السلطات الألمانية من غياب المعلومات عن القاتل أيضا؟
إنه كوكب الصور. ماذا فعلت بنا الصورة وماذا ستفعل بنا؟

٭ إعلامية لبنانية .المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com