logo
صوت المصريين لجمال عبد الناصر!!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 20.01.2014

هو الغائب الأعظم حضورا في هذا البلد الأمين. لا صوت يعلو على صوته، ولا صورة تنافس صورته وجاذبيته ـ رغم مرور ثلاث وأربعين سنة على رحيله ـ تبدو كأنها الجاذبية الأرضية. إنه جمال عبد الناصر، وكفى.
واستعادة عبد الناصر ـ بالاسم والصورة ـ ليست سلوكا لدراويش في حلقة ذكر، فلم يرتبط اسم أحد باسم مصر كجمال عبد الناصر، وكأنهما صنوان لا يفترقان. واسم عبد الناصر ليس طرفا محايدا، إنه في قلب الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر، طوائف التخلف السياسي والنهب الاقتصادي تكرهه كراهة التحريم، والشعب المصري بأوسع طبقاته وفئاته يحبه بشدة، ويرفع رأسه مع رفع صورة عبد الناصر، ليس حنينا إلى ماض ذهب، بل عن رغبة جياشة في استرداد المستقبل، فاسم عبد الناصر تعبير عن الوجدان الجماعي في لحظات المحن ولحظات الفوز، وحين تتحدث مصر عن نفسها، وتستعيد اسماءها الحسنى، فإنها تجد على سطح الذاكرة المختزنة عهودا وعذابات وملاحم، وأشواقا ورموزا، يبرز بينها اسم جمال عبد الناصر في تفرد خاص لا يقبل التكرار، وربما كان ذلك هو ما جعل اسم عبد الناصر مختلفا مميزا في ديباجة الدستور الجديد، فقد حجزوا له وحده صفة ‘القائد الخالد’، وبدا الرجل عنوانا لمصر المتجددة، تتعاقب العصور والعهود، وتتوالى الثورات والأزمات، ويبقى اسمه مع صورته تذكار وفاء من أجيال عاشت عصره، وتذكرة لأجيال جديدة طامحة، ربما لا تعرف شيئا عن سيرة عبد الناصر، وربما لم يذكر لها بخير أبدا، بل توالت عليه حملات الطعن والتشويه، ثم لا يبقى من الركام الهجائي لعبد الناصر شيء، اللهم إلا أكوام من المهملات تسد طريق البلد إلى براح النور، وتبقى صورته كأنها قرص الشمس الدافئة الحانية الطالعة في صباح جديد تنتظره مصر.
نعم، صارت صورة عبد الناصر طقسا شعبيا احتفاليا، يزدهر في كل عام أكثر من أعوام سبقته، كان الحنين إليه قائما على الدوام، كانت جنازة وداعه هي الأكبر في مطلق عصور التاريخ الإنساني، ولم تحدث مثلها جنازة لزعيم رحل قبله أو من بعده، لاعندنا ولا عند غيرنا من أمم الدنيا، كانت مصر التي تقدس معنى الخلود، وتعرف معنى البقاء الأبدي، كانت مصر هي التي أقامت بتلقائية مدهشة وداعها الخاص جدا لعبد الناصر، وداعا لعظمة من سيرة الأهرامات، وداعا لرجل لم يطلب لنفسه شيئا من متاع الناس، لم يملك في حياته بيتا خاصا، لكنه ملك قلوب الفقراء والطامحين جميعا، فهو الرجل الذي عاش ومات بإخلاص لفكرتين، الأولى: انحياز لانهائي للفقراء ولمعنى العدالة الاجتماعية.
والثانية: انحياز لانهائي للوطنية المصرية المنفتحة بالطبيعة على القومية العربية. كانت الفكرتان دليله الذي لا يخطئ، طرحهما على الواقع، وأعادهما إليه الواقع أكثر اكتمالا ونضجا، وفي صورة مشروع وطني جامع، بدت عناصره السبعة ظاهرة في تكريس الاستقلال الوطني والديمقراطية الشاملة ومجتمع الكفاية والعدل وأولوية العلم والتكنولوجيا والتوحيد العربي والتجديد الحضاري والعولمة البديلة، وبدا التصور مرهقا وملهما، ومات عبد الناصر دونه، وهو في سن الثانية والخمسين، ولم يتسع له وعاء الزمن الضروري، الذي كان كفيلا بإنضاج التجربة لتكافئ التصور، الذي تدرك مصر الآن أنها في حاجة لاستعادته، في حاجة لاستعادة التصور والمشروع الذي ضاع منها، في زحام كوارث دهمت وتلاحقت، وأخرجتها من سباق العصر الذي كانت في طليعته زمن عبد الناصر اللاهث.
صحيح أن أخطاء شابت عصر عبد الناصر كأي تجربة بشرية كبرى، لكن الأخطاء ـ وربما الخطايا ـ كانت بنت زمانها وظروفها، ولا يصح لها أن تزيغ البصر عن الاتجاه العام لحوادث التاريخ، فقد كان حصاد تجربة عبد الناصر باهرا، وكانت مصر ـ حتى حرب 1973 ـ رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجي، وقد بدأ الانقلاب على اختيارات عبد الناصر بعد الحرب، وكانت النتيجة على ما نعلم بعد أربعين سنة، فقد نزلت مصر من الحالق إلى الفالق، وخرجت من سباق العصر بالجملة، ‘وقعت من قعر القفة’ كما نقول بالعامية المصرية، وبدلا من منافستها لكوريا الجنوبية في مضمار التقدم والرقي، صارت رأسا برأس مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي، وهذه حقيقة الانحطاط التاريخي الذي انتهينا إليه، والذي جاءت ثورة 25 يناير 2011 ـ وموجتها الأعظم في 30 يونيو 2013 ـ كتعبير عن الرغبة في عبور الهوة، والحلم باسترداد المستقبل، ووصل ما انقطع مع سيرة عبد الناصر وثورته، وبذخيرة خبرة إضافية أتاحت دواعي التأمل في ما جرى، وعلمتنا أن نهضة عبد الناصر كانت عظيمة، وكانت للناس، لكنها لم تكن بالناس، وهو ما سهل فرص الانقلاب عليها، وحطم الاستقلال الوطني لمصر، وانتهى إلى تجريف طاقتها الانتاجية المبدعة.
وكان الدرس أن الديمقراطية هي الضامن لبقاء النهضات، وكان الدرس أن الأولوية ينبغي أن تعطى لحركة الناس الأحرار قبل وبعد حركة الضباط الأحرار، ولم يكن الدرس غائبا عن عبد الناصر، وكانت لديه ملكة التصحيح الذاتي، ففي أوائل الستينيات من القرن العشرين، جرى حوار لساعات على الهواء، وجرى نقله في بث مباشر على التلفزيون الذي كان أعجوبة زمانه وقتها، كان الذي بدأ الحوار هو المفكر الليبرالي وقتها خالد محمد خالد، الذي ابتدر جمال عبد الناصر بدعوته إلى إعادة الأحزاب، وأنه لا خوف على عبد الناصر وحكمه، فسوف يفوز الرجل وحزبه بأغلبية ساحقة في أي انتخابات تجري، هكذا قال خالد محمد خالد في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقد لإقرار ميثاق عبد الناصر، وكان رد عبد الناصر على خالد محمد خالد ضافيا وعاكسا لنقطة خلاف جوهري، فقد رأى عبد الناصر أن الديمقراطية لها جناح اجتماعي لا يقوى الجناح السياسي على الطيران بدونه، وأن خطته أي خطة عبد الناصر هي اجراء تغييرات جوهرية اقتصادية واجتماعية تضع الثروة والسلطة في أيدي مستحقيها المنتجين، وتخلق مجتمعا جديدا من قلب المجتمع القديم، وأن المجتمع الجديد قد يكون جاهزا وقتها لإطلاق حرية تعدد الأحزاب وتداول السلطة.
جرى الحوار في أوائل الستينيات، وفي أواخر الستينيات، كان عبد الناصر يفكر ويستعد ـ بالفعل ـ لتجاوز تجربة التنظيم الواحد، وتحدث في محاضر اللجنة التنفيذية العليا عن التحول إلى نظام الحزبين، وإلى نظام تعدد الأحزاب، وربط التحول إلى التعددية بإتمام مهمة إزالة آثار العدوان وتحرير سيناء، والمعنى: أن صورة التقدم كانت متكاملة في ذهن عبد الناصر، وإن لم يمهله الزمن لترجمتها إلى واقع، فقد رحل الرجل فجأة، وكانت مصر لاتزال على جبهة الحرب، وحين عبر جيش عبد الناصر، وحقق النصر، فقد كان عبد الناصر في رحاب ربه قبلها بثلاث سنوات، كانت التجربة الثورية قد فقدت حارسها ومؤسسها، ولم تكن الأمة في نوبة الحراسة، وجرى العصف بالحلم في غيبة حزب ثوري ونظام ديمقراطي.
ويبقى أن ارتباط المصريين باسم وصورة عبد الناصر له معان أعمق، الارتباط السياسي والتاريخي ظاهر، وخلاصته: وحدة ثورات مصر، ووصل ما انقطع بين ثورة 23 يوليو وثورة 25 يناير المتصلة فصولها ومعاركها، ومد رحلة الثورة بزاد ديمقراطي جديد، وتجديد المشروع الوطني الذي كان عبد الناصر علما عليه، أضف إلى ذلك ما قد يمكن تأمله من ملامح التكوين المصري، أو ما قد يمكن تسميته بطبع المصريين، وأولويات التفضيل عندهم، ففي تكوين المصريين ـ على ما نذهب إليه ـ ثلاث عقائد حاكمة، أولها: الدين الذي يعكس ميل مصر الغريزي إلى حضارة التوحيد. العقيدة الثانية في كلمة هي العدل، فقد ارتبط تكوين الدولة المصرية بتنظيم مياه النيل وعدالة توزيع الموارد. والعقيدة الثالثة ـ في ما نظن ـ هي الجيش، فقد كان الجيش دائما هو النخاع العظمي للدولة المصرية، وارتبطت تطورات التاريخ الوطني بدور جوهري للجيش، وبدأت الدولة المصرية الحديثة ـ زمن محمد علي ـ ببناء جيش الفلاحين المصريين الأول، ثم ارتبطت سيرة الجيش بسيرة البلد وانتفاضاته، ومن ثورة عرابي إلى ثورة جمال عبد الناصر، وقد كان عبد الناصر هو المهندس الأعظم لبناء جيش مصر الثاني عقب هزيمة 1967، وثلاثية ‘الدين ـ العدل ـ الجيش’ بدت متوافرة في شخص عبد الناصر بأكثر مما اجتمعت لغيره، وهو ما يفسر جاذبية عبد الناصر المتوائمة تماما مع مزاج وعقائد التكوين المصري، التي تجعل الرجل حاضرا بيننا وأمامنا رغم غيابه الطويل.
وباختصار، مصر تريد برنامج عبد الناصر، تريد مشروع عبدالناصر مطورا بمتغيرات الزمن من حولنا وفي عالمنا، وتريد رجلا من سيرته لتعطيه صوتها.

*كاتب مصري

المصدر: القدس العربي

www.deyaralnagab.com