logo
مغامرة الكاتبة العربية في حقل التفكير النقدي !!
بقلم : ممدوح فرّاج النّابي ... 08.09.2019

آلت مجلة الجديد التي تصدر من لندن، منذ عددها الأول أن تطرح الأسئلة المثيرة، وتفتح ملفات الثقافة العربية دون تحفظات أو قيود. ومع دخول المجلة عامها الثالث، ما زالت الأسئلة تطرح عبر ملفات حيوية، وفي العدد الجديد الصادر في سبتمبر/ أيلول 2019، تغامر المجلة عبر ملف كبير شامل، وتسأل السؤال الذي يتوارى دوما في كل نقاش بكل جرأة وهو: ما هي أسباب غياب المرأة الناقدة والمفكرة عن المشهد الثقافي العربي؟ وإن كان السؤال يحمل في طياته اتهاما مباشرا للذكورية، التي لم تهيمن فقط على حدود تفكير المرأة، بل كذلك على القوانين التي تسير حياتها، وكأنّ هذه الذكورية نِيطت بها حماية جسد المرأة، وحراسة عقلها أيضا من التفكير.
المرأة كائن مفعول به
فعلى حدّ قول لونيس بن علي في مقالته “المرأة والكتابة: مواجهة أنساق الذكورة في الثقافة العربية” أنه “على طول التاريخ الثقافي للمرأة العربية، فلقد كانت موضوعا للكتابة أكثر مما كانت فاعلا للكتابة، ناهيك عن أن حضورها اقتصر في نظم الشعر أو سرد الحكايات، وندرَ حضورها في مجال الفلسفة والفكر والنقد وحتى الفقه. الغريب أن هذا الحضور داخل الأعمال السردية كان من خلال صوت الرجل، وهو ما يعني أن قمع المرأة لم يقتصر على هذا التغييب اللافت، وإنما أيضا باستعارة صوتها والحديث باسمها”.
هذه الهيمنة الذكورية على النتاج الفكري والنقدي، أشبه بتكريس لمقولات روّجتها الذكورية، مثل “العقل ذكر، والعاطفة أنثى”، أو أن اللغة مذكرة وأنها تنتمي إلى الممارسات الذكورية، كما روّج النحويون؛ لهذا يكون “دخول المرأة غمار الكتابة اقتحاما لعرين الرجل”. وقد تبعه تحليل للعقلية العربية التي سعت إلى تحرير المرأة، وفي نفس الوقت جعلت المرأة تابعة وعاجزة عن حتى أن تقف في نفس الصف معه، بل لقد نحّاها جانبا.
من البديهي أن نقول إن مجلة الجديد لا تتبني -وكذلك كُتّابها- موقفا ضدّ الرجل أو حتى منحازا للمرأة، وإنما تقف على قدم المساواة، فهي تقرُّ بديهيّا بأنّه لا يوجد سبب واحد يفسر هذا الغياب أو تلك الندرة، التي تضاءلت في العهود الأخيرة إلى درجة مرعبة، بل ثمة أسباب متعددة.
بعض هذه الأسباب يعود إلى المرأة نفسها؛ حيث حصرت نتاجها الفكري في منطقة ردّ الفعل على الاضطهاد الذكوري المسلّط ضدها؟ وهو ما يبرز سؤالين: لماذا رضيت المرأة بهذه الوضعية الهامشية التي حصرها فيها الرجل؟ وهل المرأة العربية فعلا عاجزة عن أن تتبوّأ مكانة هامة على المستوى الفكري والثقافي العربي؟
وهناك -أيضا- مَن أرجعها إلى الغرب والذكورية معا، فهما كما يرى عبدالله إبراهيم “يتبادلان المصالح، ويقهران المرأة”، إلى درجة “أن سلسلة الانهيارات المُعاصرة في سلّم القيم يُراد بها الحيلولة دون تقبُّل المرأة كآخر”. ومن الأسباب كما ذكر عبدالله الغذامي “أنّ الثقافة العربية القديمة وضعت المرأة خارج دائرة الثقافة، بل اعتبرت ممارستها للتفكير وللكتابة، على وجه خاص، خطرا يتهدد المُجتمع”.
ومن ثمّ سعت الدراسات والمقالات التي أفردت لها المجلة العدد كله؛ إلى تقصّي دور المرأة في التأسيس لنقد أدبي وفكري معاصر، ارتبط حكما بالظواهر الأدبيّة والجماليّة التي أنتجتها مشاركة المرأة في الأدب العربي المعاصر وكرّسها منجزها الأدبي والنقدي. وثانيا الإجابة عن أسئلة طالما طُرحت في الفضاءات الثقافية العربية حول طبيعة حضور الكيان النسوي في المدونة النقدية العربية، والحيّز الذي شغلته المرأة في حقل الاشتغال الفكري. وهو ما قدّمت عنه مقالات المجلة ودراساتها إجابات وافية، من كتاب وكاتبات من مصر، ولبنان، والعراق، وسوريا، والسعودية، والبحرين، والكويت، وتونس، والمغرب، وفلسطين، والجزائر، وليبيا. فالملف اشتمل على “أبحاث ومقالات وشهادات وعروض كتب جديدة فكرية وأدبية”.
اهتمت المقالات والدراسات، جميعها إلى جانب قراءة الظواهر المختلفة المحيطة بالممارسة النقدية للمرأة والناجمة عنها، بتجارب بارزة طبعت بمنجزها النقدي وحضورها الثقافي الحياة الثقافية العربية، وشكلت ظواهر رفيعة المستوى، كما هو الحال بالنسبة إلى نازك الملائكة في حقل النقد الأدبي، وغيرها.
*رائدات مفكرات
يرى الشاعر نوري الجرّاح رئيس التحرير في مقالته الافتتاحية، أن توق المرأة إلى الحرية جعل خطابها النقدي الأسبق على الأدبي، ويتخذ من مقالة عفيفة صعب دليلا على قِدَم هذه الأسبقية، فعفيفة تدعو في مقالتها التي نشرتها عام 1925 ضمن مجلة “الميزان” الأسبوعية، التي كان يصدرها الناقد أحمد شاكر الكرمي بدمشق؛ إلى الأخذ بالمدنية دون محاولة قمع الناس، كما تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، وإلى إقامة “علاقات متوازنة في الأسرة، وفي المجتمع كمدخل حقيقي للأخذ بسنن التطور”.
ومثلما استدعت المجلة على صدر صفحاتها مقالة عفيفة صعب، كأوّل صوت نقدي، نافس الرجال في المطالبة بالحقوق، حاورت المجلة صوتا نسائيا، مفكّرا، من طراز رفيع، انخرط طيلة سنوات طويلة في مساءلة قضايا النقد ومحاولة تجريبها على الإبداع العربي، إنه صوت الناقدة يمنى العيد، وقد حاورتها حنان عقيل، ساعية إلى الوقوف عند المحطات الرئيسية في أعمالها النقدية، وأيضا البحث عن جواب للتساؤل المحوري، عن موقع المرأة على خارطة النقد والفكر في العالم العربي.
الحقيقة المهمة أن معظم الكاتبات يلمِّحن إلى الدور الذكوري وراء إقصاء المرأة، حيث اختزل دور المرأة في دائرة أنماط معينة كما رأت رزان إبراهيم. إضافة إلى الارتكان إلى البعد البيولوجي الذي يصنفها كائنا غير قادر على النتاج الفكري والنقدي. ومع عدم إنكار البعض لغياب الفكر النقدي للمرأة، إلا أن الحقيقة كما تقول رزان إبراهيم “إن قسما من النتاج النقدي والفكري للمرأة العربية، متمحور حول الوقوف على حالات الهيمنة الذكورية” أي أنه “نقد معني بالكشف عن علاقات التسلُّط والهيمنة ومواجهة أنماط سلوك ذكورية يُمارسها مجتمع حريص على تثبيتها، وإعادة إنتاجها لصالح الرجل” وهذا الأمر يزيد المسألة تعقيدا، فحصار الرجل للمرأة لم يكتفِ بوضعها في دائرة أنماط معينة، بل حاصر فكرها في الدفاع عن ذاتها ضدّ هيمنة الرّجل.
تكشف يمنى العيد في حوارها عن شغفها بالبحث عن الوعي المعرفي في النص الأدبي، وبعبارتها “كيف يمكن أن نرى أو كيف يمكن أن يتمثّل هذا الوعي المعرفي في النص الأدبي، باعتبار كونه متخيلا له استقلاليته وفنيته”. وهو الأمر الذي قادها إلى دراسة العلاقة غير المباشرة بين الأدب والواقع الاجتماعي الذي يعبر عنه. كما كشف الحوار عن حالة الاستعلاء التي يقوم بها النقد على النص الأدبي، وهو أشبه باستغلاق للنص، وقد أكدت على ضرورة وضع النقد العربي والأدب في حقلهما الثقافي، مراعاة لخصوصية أدبنا وما يترتب على النقد باعتبار هذه الخصوصية، داعية إلى أن “يتشارك النقد والأدب همّا يتجاوزهما إلى الثقافة والحياة، أو إلى حضور الحياة، حياتنا، في الأدب”. وترفض العيد أن يكون النقد قراءة إبداعية توازي العمل الأدبي، وهي وجهة نظر جديرة بالتأمّل والمناقشة.
يذهب الدكتور مصطفى بيومي عبدالسلام عن مقالته الموسومة بـ”الناقدات الغائبات” في بحثه عن أسباب هذا الغياب، إلى المدونة النقدية العربية، التي لم تحتفظ باسم امرأة، وسط العشرات من أسماء الرجال، باستثناء أم جندب في حادثة عارضة. ويرى أن أسباب هذا الغياب تعود إلى طبيعة المرأة البيولوجية التي، جعلتها وفقا للأحكام الفقهية “منقوصة الكمال ويحاط بها السوء من كل جانب”. كما أن النقد الأدبي في التصورات العربية القديمة هو مجال للحكم بالقيمة على أعمال الأدب. والنساء في هذا الشأن تخضع لمقاييس الذكورية التي تضع الرجل دائما في مرتبة أعلى، وتنسب إليه كل الفضائل الإنسانية.
ومع منع المرأة -في الماضي- من الدخول في مجال النقد بحكم التقاليد العربية، إلا أن الأمر اختلف في العصور الحديثة، بسبب الدعوات إلى تحرير المرأة، ومؤسسات التنوير التي اعتنت بالنساء. كما يلفت الدكتور بيومي إلى المغامرة، التي كان لها الدور المهم في تدشين الناقدة الأولى في العالم العربي. وإن كانت ترى زهراء منصور، أن البحث عن المرأة المفكّرة أشبه برفاهية لا مجال لها. أولا، لأن ندرة المفكرات ترجع إلى الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعاقبت على المرأة، وثانيا لأن المرأة تحتاج إلى “كامل الطاقة والدعم لتمارس حقوقها الطبيعية في الحياة، بعيدا عن الكلمات التسويقيّة الرائجة”.
ومن ثم تُحمّل المجتمعات العربية ما حاق بالمرأة من وضعيات مزرية سواء اجتماعية أو فكرية، فجميع هذه المجتمعات مدينة للمرأة عن الخيبات التي تلحق بها جراء هذا التراكم الممتد منذ زمن غير محدد. ومع هذا فلا تفقد الأمل، فترى أن مع أسبقية وتفوق الرجل كما تؤكد الدلائل، فإن إمكانية المساواة ليست مستحيلة، بل ممكنة، لأنها صادرة عن أناس يؤمنون بالمرأة دون معرفة شخصية، ومن ثم فهي تحتاج أولا إلى أن تثبت نفسها عبر منجزها أولا، وبعدها ستتحقّق المساواة التي ستكون خطوة لاحقة وتلقائية. ومن الأسباب وراء تراجع العقل النقدي للمرأة، ما تمارسه الذكورية من نقد على كتابات المرأة، ووضعها في غير مسارها الصحيح، فالنقد الذكوري يرى أن رواية الأنثى “بؤرة أحاسيس”، في حين الراوي الذكر يعيد “بناء العالم” في انحياز واضح للرجل وإقصاء متعمد للأنثى.
*النساء قادمات
على عكس الادّعاء الرائج بغياب صوت المرأة مفكرة تأتي مقالة الناقدة نادية هناوي “غلبة الأنثوية وتراجع الذكورية”. وترى أنه ليس بديلا أمام الأنثوية لدحض تلك المواضعاتية التاريخيّة سوى مطاردة الذكورية ومباغتتها في عقر دارها، انتقاما لعهود طويلة من الإقصاء والمصادرة، وهو ما يتأتى عبر وسائل وممارسات كتابية شتى، وإن كان أوضحها نهجا، وأدلها قصدا، هو السرد الذي به تتمكن الكاتبة من تشييد كيان أنثوي ينافس الذكورية. وتضرب المثل بهدى بركات وروايتها “بريد الليل” التي استطاعت من خلال بنيتها السردية تفكيك كل ما هو مركزي واستجلاب كل ما هو طرفي، ليكون في المركز والمحور.
الشيء اللافت أن الناقدة ترى أن الرواية النسوية المكتوبة في شكل رسائل، بمثابة مختبر لمنظورات تتمرد فيها الأنثوية على الذكورية غير معترفة بالروابط السببية المنتظمة، ممتلكة ذاكرة مرنة تابعت الآخر بالكمائن والفخاخ. وهو ما يحتاج إلى تعقيب!
في السعي للتأكيد على تقديم نماذج من الناقدات المفكرات، أفردت المجلة مقالات مطولة أشبه بحفريات في أعمال الكثير من الكاتبات؛ كفاطمة المرنيسي، وآمنة بلعلي، ونهاد صليحة، وفريال جبوري غزول، وليلى أبوزيد. ففاطمة المرنيسي التي يراها الدكتور عبدالله إبراهيم “مفكرة راديكالية” ارتادت حقلا غير مسبوق في البحث الاجتماعي الخاص بعالم النساء في العالم العربي والإسلامي. وبالمثل آمنة بلعلي التي يصفها لونيس بن علي في مقالته بأنها “تُعدّ صوتا نقديّا وأكاديميّا نسويّا مهمّا، ليس في المشهد النقدي والجامعي الجزائري فحسب، بل تجاوز حضورها حدود الجزائر؛ فكتاباتها النقدية والأكاديمية هي من الثراء والتنوّع والأهمية ما بوّأها المقام العالي في ساحة البحث والنقد”. والسؤال الأساسي عندها يتمثل في “البحث عن كيفية جعل الأدب والنقد الأدبي العربيين يؤديان وظيفتيهما التقنية والثقافية، ثمّ كيف يمكن بناء نقد عربي غير منقطع عن تراثه وغير منفصل عن واقعه”.
فالمرنيسي عملت -كما يقول عبدالله إبراهيم- على “نقد بنية المجتمعات الإسلامية والعربية، ونقد الخطاب الداعم لمقوّماتها، فتوزّع عملها بين بحث استقصائي يُعنى برسم صورة المرأة في التاريخ، وتعبير تمثيلي عن صورتها كأنثى في مجتمع تقليدي”. كما دعت إلى تغيير في شروط العلاقة بين الرجل والمرأة، والانتقال بها من التبعية إلى الشراكة. ويشير عبدالله إبراهيم إلى ارتحال المرنيسي في شعاب الماضي باحثة عن دور المرأة في التاريخ الغربي والإسلامي.
أما غزّول فهي كما وُصِفَتْ في مقالة عوّاد علي “فريال غزّول عاشقة ألف ليلة وليلة” بأنها “مؤسسة ثقافية قائمة بذاتها”، تعد من أوائل النقاد العرب، الذين تمثّلوا النظريات النقدية الغربية الحديثة، وحاولوا تقديم قراءة جديدة للتراث السّردي العربي.
واحتوى العدد إلى جانب المقالات الخاصة بالملف، على أبواب المجلة الثابتة، كباب المختصر، الذي قدّم فيه كمال بستاني عددا من الكتب الصادرة حديثا، وأيضا باب رسائل الذي احتوى على رسالتيْن واحدة من إيطاليا قدمها عرفان رشيد عن “دانتي أليغيري الشاعر الذي كتب للآتين من المستقبل”، والثانية من رسالة باريس. وكتب عمّار المأمون عن “الرجل ذو القبعة على طريق بلا نهاية: معرض يحتفي بتجربة الأرجنتيني أنطونيو سيجوي”. وكتب أبوبكر العيادي عن “مستقبل البشرية في الفضاء كما يراه كتاب الخيال العلمي”. واختتم العدد بمقالة “دعوة للسخرية” لهيثم الزبيدي، مؤسس المجلة وناشرها. ويحاول في كلمته جذب أنظار القراء بعيدا عن الثقافة الرسمية، ليمكنهم أن يتخيلوا شيئا آخر غير الكتابة المنضبطة في الصرامة، إنه يدعو الكتّاب والقراء معا إلى تلك الخفة التي تميز الخطابات الساخرة؛ إلى اللعب والعبث والسخرية بوصفها موقفا من العالم المتسلط والقاسي.

*المصدر : العرب

www.deyaralnagab.com