logo
شرطة "النظام العام" تعيد السودانيات إلى قرون الظلام !!
بقلم : يمينة حمدي ... 05.08.2018

المرأة السودانية لا تزال إلى اليوم تخوض معركة الحريات الفردية الخاسرة في ظل استمرار الممارسات القمعية ضدها.
المجتمع السوداني يتراجع عن العديد من الحقوق التي اكتسبتها المرأة عبر السنوات الماضية مقارنة ببنات جنسها في بلدان عربية أخرى، إلا أن النساء القويات مازلن عازمات على النضال في سبيل تطبيق مقولة “المرأة مستقبل الرجل” في السودان.
تجاوزت معظم دول العالم الحدود المفروضة على المظهر الخارجي، لتنفتح على ثقافات وحضارات تختلط فيها الأزياء جنبا إلى جنب، لتتعايش بمختلف مشاربها وثقافاتها وتقليعاتها، كما أصبح للنساء في عدة مجتمعات عربية الحق في اختيار اللباس الذي يعبر عن هويتهن ومعتقداتهن الدينية والثقافية والسياسية أسوة بالرجال، إلا أن المرأة السودانية ما زالت إلى اليوم تخوض معركة خاسرة من أجل حرية اللباس.
وتواجه النساء في السودان عقوبة الجلد بأربعين جلدة ودفع غرامة في حال إدانتهن بتهمة ارتداء البنطال، أو ما يوصف بأنه “زي فاضح” استنادا إلى المادة 152 من قانون النظام العام، غير أن المادة ذاتها لم تخض في تفسير أو تفصيل ضوابط وشكل هذا الزي، ويرى البعض أن المادة تركت الأمر للشرطة في تحديد ماهية اللبس الفاضح أو المخل.
وتحدثت تقارير سودانية ودولية عديدة عن خضوع الآلاف من النساء لعقوبة الجلد، تطبيقا لقانون النظام العام.
آن الصافي: فكر ظلامي تخلل تاريخ المنطقة ومن ضمنها السودان وحمل معه أدوات لا تعرف إلا التدميرآن الصافي: فكر ظلامي تخلل تاريخ المنطقة ومن ضمنها السودان وحمل معه أدوات لا تعرف إلا التدمير
وأعربت منظمة العفو الدولية في تقرير لها عن مناهضتها للجلد بصفته انتهاكا للحظر المطلق المفروض على التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة في القانون الدولي العرفي.
وفي السنوات الأخيرة أبدى ناشطون حقوقيون معارضة شديدة للممارسات القمعية ضد المرأة، مطالبين بإصلاح قوانين النظام العام، التي تفرض قيودا صارمة على مجموعة من الحقوق الشخصية، وتسمح للشرطة ورجال الأمن بتوقيف النساء وإهانتهن وجلدهن بسبب مظهرهن.
وبرزت عدة حركات نسوية مطالبة بحرية المرأة، لكنها لم تفلح حتى الآن في إلغاء قانون النظام العام أو حتى إسقاط المادة 152 من القانون الجنائي، وظلت النساء يحاكمن بها من وقت إلى آخر.
وتبرر السلطات السودانية سبب رفضها إلغاء المادة المثيرة للجدل في قانون النظام العام، برغبتها في المحافظة على القيم السودانية ومحاربة الرذيلة والانحراف وسط الفتيات.
لا يبدو أن موضوع ارتداء السودانيات للبنطال يمثل أصل المشكلة، بقدر ما هو جزئية من توجه فرضته الأحزاب الإسلامية الحاكمة على المجتمع السوداني في النظرة إلى المرأة والتعاطي مع حقوقها.
وصادقت غالبية الدول العربية على اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، لكن السودان يرى أن فيها ما يخالف تعاليم الدين الإسلامي.
وتؤدي التفسيرات المتشددة لأحكام الشريعة إلى التدخل المهين في حياة النساء من اللباس والسلوك إلى جميع تفاصيل الحياة الشخصية.
وتواجه الصحافية والناشطة الحقوقية ويني عمر، مجموعة من التهم، من بينها ممارسة الدعارة وتقويض النظام الدستوري.
وقالت عمر في تصريح لـ”العرب”، “تبدو المفارقة واضحة عند الحديث عن حقوق النساء في السودان، فقد نالت المرأة السودانية حقها في الانتخاب والمشاركة السياسية مبكرا بالمقارنة بعدة دول عربية أخرى، وكذلك حقها في الأجر المتساوي مع الرجل عن نفس العمل، وأيضا الحق في إجازة الرضاعة، لكن عندما ننظر إلى ما يحدث الآن نتأكد من أن هنالك مسارا لبناء الحقوق قد انقطع”.
وأوضحت “هذا الانقطاع هو في الأصل تحول سياسي وأيديولوجي قادته الحركة الإسلامية في السودان في يونيو 1989، بل هو انقلاب سياسي على الديمقراطية، أدى إلى تلوين الحياة السياسية والاجتماعية في السودان بصبغة دينية”.
وأضافت “خلق هذا الانقلاب السياسي تحولا في الإطار القانوني بشكل كبير وأعاد بناء الفهم الاجتماعي للنساء ودورهن في الحياة العامة، وامتدت هذه السياسات لتشمل حقوقا أخرى، كالحق في السفر الذي أصبح تمارس عليه بعض القيود، والحق في تجنيس الأبناء من أب غير سوداني، والحق في الزواج دون ولي”.
وتابعت “وضعت اشتراطات قانونية على وجود النساء في الفضاء العام، لعل أخطرها ما يسمى بشرطة أمن المجتمع أو شرطة النظام العام، التي سخرت منظومة كاملة لها تسمى بـ’منظومة النظام العام’ لها محاكمها الخاصة وبوليسها الخاص، وقوانينها الولائية، بالإضافة إلى حزمة من مواد القانون الجنائي السوداني، وهذه المنظومة تستهدف بشكل خاص النساء، في مظهرهن وحركاتهن وحتى خياراتهن في العمل”.
وأكدت عمر “لقد تعرضت لحادثتين مع بوليس النظام العام، في الحادثة الأولى تم اتهامي بارتداء الزي الفاضح، وهو حسب المادة 152 من القانون الجنائي، ارتدائي للباس لا يناسب أعراف المجتمع رغم أنني كنت أرتدي تنورة وغطاء رأس أثناء انتظاري للمواصلات العامة في أحد شوارع الخرطوم، وقد برأني القاضي من هذه التهمة، ما يحيلنا على الإشكال الأساسي المتعلق بالسلطات التقديرية الممنوحة لكل من القضاة وأفراد الشرطة”.
ويني عمر: شرطة النظام العام تستهدف النساء بشكل خاص في مظهرهن وحركاتهن وحتى خياراتهن في العملويني عمر: شرطة النظام العام تستهدف النساء بشكل خاص في مظهرهن وحركاتهن وحتى خياراتهن في العمل
وواصلت ويني حديثها “أما الحادثة الثانية فمازالت قيد النظر أمام محكمة النظام العام، وتتمثل في اتهامي بممارسة الدعارة، رغم أنني كنت في زيارة اجتماعية لإحدى الصديقات، إلا أن عددا من أفراد المباحث قفزوا عبر الشباك واقتادوني مع آخرين بتهمة ممارسة الدعارة وتعاطي الخمور، ووجهت لنا تهم تحت المادة 154 الخاصة بممارسة الدعارة”.
وتنص المادة 154 على إيقاع عقوبة الجلد بما لا يتجاوز مئة جلدة، أو بالسجن مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات لكل من “يرتكب جريمة ممارسة الدعارة، أو يتواجد في محل للدعارة، بحيث يحتمل أن يقوم بممارسة أفعال جنسية أو يكتسب من ممارستها”.
أما المادة 155 فتنص على عقوبة الجلد بما لا يتجاوز مئة جلدة، وبالسجن مدة لا تزيد عن خمس سنوات لكل من يقوم بـ”إدارة محل للدعارة أو يؤجر محلا أو يسمح باستخدامه وهو يعلم بأنه سيتخذ محلا للدعارة”.
وعبر حزب المؤتمر السوداني المعارض عن تضامنه مع الناشطة الحقوقية ويني عمر التي أوقفتها شرطة النظام العام بعد اقتحام عناصرها لسكن خاص بالخرطوم، متهما السلطات بالترصد والكيد للناشطة بعد حصولها على البراءة في قضية الزي الفاضح.
وطالب الحزب بضرورة التصدي لقانون النظام العام الذي تخالف أحكامه نصوصا دستورية صريحة، وتشكل اعتداء على حقوق الإنسان الأساسية.
وكانت السفارة الأميركية في الخرطوم قد دعت الحكومة السودانية إلى مراجعة أو تعديل أو إلغاء المادة 152 من القانون، على خلفية قضية الناشطة ويني عمر على إثر القبض عليها بتهمة “ارتداء زي فاضح”.
وبدوره حث نائب وزير الخارجية الأميركي جون سوليفان أثناء زيارته إلى الخرطوم العام الماضي الحكومة السودانية على تحقيق “تقدم ملموس في مجال حقوق الإنسان، من خلال تحسين السياسات والقوانين”، مشددا على ضرورة “حماية الحريات الأساسية للأفراد بما في ذلك حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات والدين والحركة”.
ويصنف السودان من ضمن أسوأ البلدان العربية التي يمكن أن تعيش فيه النساء، بحسب دراسة أجرتها مؤسسة “تومسون رويترز”، جراء ما يشهده حاليا من تراجع عن العديد من الحقوق التي كانت قد اكتسبتها النساء عبر السنوات الماضية مقارنة ببنات جنسهن في بلدان عربية أخرى.
وأشادت الأديبة السودانية آن الصافي المقيمة ما بين الإمارات وكندا بتاريخ المرأة السودانية الحافل بالإنجازات وريادتها في مختلف المجالات قائلة “مر على السودان واحدة من أقدم الحضارات، وهي الحضارة الكوشية التي مثلت قوة عظمى بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد، وحكمت النساء مملكتها وقدن جيوشها وسميت الملكات المحاربات بالكنداكات، وقد عرفن بالحكمة والجسارة والمهارة في الإدارة”.
وأضافت الصافي لـ”العرب”، “حتى هذه اللحظة تتمتع المرأة السودانية بحقوقها في التعليم والعمل وتفوقت في مشوارها على قريناتها في الكثير من دول الإقليم، لكن فكرا ظلاميا تخلل تاريخ المنطقة ومن ضمنها السودان وحمل معه أدوات لا تعرف إلا الفساد والتدمير لكل ما يمثل مصدر قوة للشعوب ذات الثقافات المتحضرة والدول الغنية بثرواتها الطبيعية”.
منال كوكو محمد: نعمل حاليا في التنظيمات النسائية للضغط على السلطات السودانية حتى تصادق على اتفاقية سيداومنال كوكو محمد: نعمل حاليا في التنظيمات النسائية للضغط على السلطات السودانية حتى تصادق على اتفاقية سيداو
واستدركت “لكن حتى مع سياسات التخبط التي تنتهجها بعض العقول الغائبة أو المغيبة عن وعيها، نجد أن وضع المرأة في السودان أفضل حالا بكثير من قريناتها في إقليمنا. ومن ناحية أخرى، توجد حاليا مؤشرات جيدة على انحسار هذه الظلمات عبر سياسات تجفيف منابع ضخها التي تعمل عليها الكثير من القيادات الواعية بالمنطقة”.
وأكدت أن “المجتمع السوداني يدعم المرأة للمضي في تلقي التعليم والعمل في كل المجالات التي ترغب فيها ويساندها للمحافظة على نجاحاتها والترويج لقيمة عطائها في كل المحافل بما يمكن أن يعود بالفائدة عليها وعلى المجتمع”.
وختمت الصافي بقولها “في السودان أرض النيلين، لدينا تنوع ثقافي رائع، يمثل واحدة من أدوات قوة حضارتنا ونؤمن بأن العلم والثقافة يقومان بدور مهم في المحافظة على التوازن في حياة الفرد والمجتمع، ونهجنا يعتمد بالأساس على الاستفادة من معطيات وأدوات كل عصر مع السعي إلى المحافظة على القيم والمثل والموروثات الجميلة، وبفعل الطبيعة طال الزمن أم قصر سينتصر الحق”.
توجد في السودان العديد من المجموعات النسائية التي كرست جهودها للدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بمساواتها مع الرجل، ولكنها تصطدم في الغالب بأساليب ترهيبية وقمعية من قبل شرطة الآداب من أجل إسكات أصوات الناشطات الحقوقيات.
ووثقت منظمات حقوقية حالات كثيرة لناشطات تعرضن للاغتصاب أو التهديد بالاغتصاب من قبل عناصر الأمن في سياق الاعتقال التعسفي في غالب الأحيان. وكثيرا ما تُحذر الضحايا من الحديث عما تعرضن له، وتجبر بعضهن على مغادرة البلاد.
وأعربت منال كوكو محمد مهندسة الكمبيوتر والناشطة المدنية عن استيائها لما تتعرض له الفتيات اللاتي يرتدين البنطال وبائعات الشاي على الأرصفة من مضايقات عديدة من قبل السلطات، بالإضافة إلى النظرة السلبية للمجتمع.
وقالت محمد لـ”العرب”، “الأدهى الحملات الوحشية والمهينة للنظام العام والتي نسميها في السودان ‘الكشات’، إنهم يأخذون الفتيات اللاتي يرتدين البنطال في الأماكن العامة والشارع كالقطيع في عربات نقل البضائع، ويتعرضن في مركز الشرطة إلى أقصى درجات التشفي والتجريح وأشكال من التعذيب اللفظي والجسدي”.
وأضافت “نعمل حاليا في التنظيمات النسائية للضغط على السلطات السودانية حتى تصادق على اتفاقية سيداو التي تقضي بعدم التمييز ضد المرأة”.
تبدو ردود الفعل الاجتماعية بشأن حقوق المرأة السودانية في أغلبها إيجابية ومندفعة باتجاه تغيير قوانين النظام العام التي تتبنى مفاهيم دينية متشددة تعارضها غالبية المجتمع السوداني، لكن الخطوة غير المألوفة أن يهتم الرجال بقضايا النساء.
وقال البعض ممن تحدثت إليهم “العرب” إن النساء قادرات على إحداث التغير في السودان، مشددين في الوقت نفسه على وجود الكثير من النماذج النسائية المتعلمة والقادرة على تحقيق التنمية والنهوض بالمجتمع السوداني إذا ما أتيح لهن المجال وتغيرت القوانين المجحفة بحقهن.
أسامة الأمين: القليلات فقط يتجرأن على التحدث عن تجاربهن خوفا من قهر مجتمعي آخر قد يطعنهن في أخلاقياتهنأسامة الأمين: القليلات فقط يتجرأن على التحدث عن تجاربهن خوفا من قهر مجتمعي آخر قد يطعنهن في أخلاقياتهن
وعبر المدون أسامة الأمين عن فخره بما نالته النساء في بلاده من حقوق قائلا “المرأة السودانية من الرائدات في نيل الكثير من الحقوق ومنذ سنوات طويلة، مثل حق التعليم وممارسة جميع المهن بما فيها القضائية والتشريعية، إلا أنها مازالت تعاني من قهر السلطة والمجتمع في آن واحد”.
وأضاف الأمين لـ”العرب”، “تغير الوضع مع انقلاب عمر البشير الذي دعمه حسن الترابي وأوصله إلى السلطة عام 1989، فاستهدف المرأة في وجودها وشرع للتضييق عليها في كل مجالات الحياة، بسبب التفسير المتعسف من قبل رجال الشرطة للمادة 152 من القانون الجنائي والمتعلقة بالزي الفاضح الذي يخدش الحياء العام”.
وأوضح “لقد تم اعتبار ارتداء البنطال جريمة تعاقب عليها المرأة بالجلد والغرامة المالية في محاكمة إيجازية لا تتوفر فيها أدنى شروط العدالة، وأبسطها السماح بحضور محام مع المتهمة”.
وتأسف الأمين لحالة الصمت التي تسود في صفوف الضحايا، مشيرا إلى أن القليلات فقط يتجرأن على التحدث عن تجاربهن خوفا من قهر مجتمعي آخر قد يطعنهن في أخلاقياتهن وسلوكياتهن.
ودعا الأمين النساء إلى كسر حاجز الصمت اقتداء بالصحافية لبنى أحمد الحسين التي نجحت في إثارة جدل دولي حول عقوبة جلد فرضتها عليها السلطات في الخرطوم بسبب ارتدائها بنطالا في مكان عام.
واضطرت السلطات السودانية إلى التراجع تحت ضغط الجمعيات الحقوقية، خاصة بعد أن قامت الصحافية بالتصعيد، مبدية رغبتها في أن يتم توقيع عقوبة الجلد عليها، وأرسلت الآلاف من الدعوات إلى نشطاء دوليين وسودانيين لحضور محاكمتها.

المصدر : العرب

www.deyaralnagab.com