logo
رحيل فاطمة المرنيسي سندبادة فاس المعولمة!! (١ من ٢)
بقلم : د.خالد الحروب  ... 04.01.2016

كنت الفائز الأكبر في الاستماع إليها ذات يوم ماطر في فرانكفورت، يوم حاضرت متساءلة: «من الفائز في العولمة: السندباد أم الكاوبوي؟»، وظللت كذلك الى أن رحلت، فخسرت كما خسر الملايين من محبيها. من استورياز في الشمال الإسباني وهي تنفض الغيم الأبيض عن كتفي ابن حزم وتعيد إليه الاعتبار، الى أشبيلية تتوسد حصيراً افترشه ابن رشد ذات قرن، الى مدن كثيرة أخرى، ومنطلقة من ذلك البيت المتوسطي البديع ذات صيف مستأجر على شاطئ الهرهورة قريباً من الرباط، الى سويقة القناصلة فيها، خروجاً وامتداداً على اندياح الشرق الى محرق البحرين ودورها العتيقة التي عادت الى الحياة والمستقبل، على يد بحرينية يتنافس جمال روحها مع عناد إرادتها، صرت صديقاً سندبادياً لفاطمة.
فاطمة كريمة وملحاحة تصرّ عليّ وأصدقاء كثر آخرين لحضور هذا المؤتمر أو تلك الندوة. تمازحني كلما التقينا إن كنت ما زلت «متسندباً» وأين محطتي التالية. أهرب من الإجابة بسؤال عن آخر قلاداتها، فتمسكها وتضحك. في آخر لقاء في المغرب منذ أقل من عام، قادتني الى شوارع وأحياء شعبية في الرباط ما دخلتها مسبقاً، أخذنا صوراً في حوانيت أحذية بلاستيكية، وتحدثت هي مع ناسها المنثورين على الأرصفة، تكتب ملاحظاتها بشغف باحثة مستجدة تخرجت للتو في الجامعة وتشتغل على بحثها الميداني الأول. آنذاك، قدمت لها دعوة لتكون المتحدثة وضيفة الشرف في مؤتمر عالمي حول الفن الإسلامي والكتابة، كانت جامعة فرجينيا كومنولث تنظم لانعقاده في الدوحة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أي قبل شهر من رحيلها، لكنها اعتذرت لانشغالاتها الكثيرة. كنت الخاسر الأكبر لعدم تمكّنها من قبول الدعوة. سندبادتنا الطافحة بالحياة رحلت فجأة، وفجعتنا. قليلون هم من يرحلون لكن لا يغيبون، وفاطمة من هؤلاء. أكثر ما يحضر في وجداني في أربعينيتها هو عنفوانها السندبادي، كأنها لا تموت. وهنا تأملات في تأملاتها عن سندباد والعولمة، برسم الإجلال لروحها الحاضرة.
واحد من تناقضات العولمة الراهنة، أنها غير متعولمة بما فيه الكفاية، انتقائية في مصدر التعولم واتجاه الحركة والبشر المستفيدين. عمق العولمة ومداه مشروطان بعمق الثراء. إنها عولمة لا مكان فيها للفقراء، وما ينتجون حتى من أفكار وتأملات. فهي إذ توفر حقاً إمكانات التواصل والتنقل وتضغط الزمن، فإنها توفر ذلك لمن يملك لا لمن لا يملك، وتفعله باتجاهات محددة، من الشمال إلى الجنوب تحديداً وليس بالعكس، فتسهل سفر وسياحة الشمال لكنها تصد الجنوب من السفر والبحث عن عمل في الشمال، وهكذا. هي إذاً عولمة لا تطيح تماماً الحدود كما تدّعي بل تتنقل بطريق ذي مسار واحد «فوق» الحدود. لكن تنقّل عولمة الربح وتعظيمه حتى من فوق الحدود، يتبعه تنقّل عولمة أخرى أكثر إنسانية تعتاش على ما تخلّفه عولمة رأس المال من اختراقات وتخلقه من عوالم. هذه الأخيرة هي عولمة المنظمات غير الحكومية والجمعيات والنشاطات المدفوعة بالانحياز الى القيم المشتركة والتوق الى رؤيتها متّسعة على نطاقات معولمة وحقيقية.
أين يتموضع هذا الكلام في تأمل يستدعي إبداعات الراحلة الكبيرة فاطمة المرنيسي، وأين هي من جدل جاف كهذا حول العولمة؟ فاطمة قفزت في قلب الجدل مبدعة، كما في كل جدل تصدّت له، وأدارت مصارعة العولمتين ضد بعضهما البعض.
في السنوات الأولى من هذه الألفية، اشتدّ السجال حول العولمة، والى القلب منه قفزت الراحلة المرنيسية الكبيرة، مبدعة كما في كل جدل تصدّت له.
حوادث وسيرورات عديدة وعابرة نمرّ بها جميعاً في عالم العرب وعالم غير العرب لا نكاد نعطيها أهمية، فيما فاطمة تتوقف، تتأمل، ثم تكشف لنا فيها مساحات أوسع من توقعنا، أو تدور زوايا النظر لنرى من الوقائع وإيقاع الحياة ما لم نرَ من قبل. في نقاش العولمة، رأت فاطمة عولمتين: عولمة الكاوبوي وعولمة السندباد، ووضعتهما تحت الشمس عاريين وعاريتين وقالت انظروا.
بالتعرية ذاتها، كانت قد رصدت الأشياء والناس في كتبها الأولى، حول المرأة المغربية والعربية، والاضطهاد، وثقافة الحريم التي عاشتها. ربما كان كثير مما التقطته المرنيسي معروفاً، لكنه كان مخبأً خشية الفضيحة أو الاعتراف العلني! مرارة المعالجة وجرأتها هما ما ميز ما قدمته ابنة فاس الجريئة. في كتابها «هل أنتم محصنون ضد الحريم»، سؤال كبير فيه إحراج للذكورة الراهنة ليس فقط في الشرق، بل في الغرب أيضاً. إحراج فاقمته المرنيسي في كتابها اللاحق «شهرزاد ترحل غرباً»، إذ أبحرت في عوالم «حريم الغرب» المسجون بأسوار الزمن، حيث التمسك بفترة الشباب والنضارة وإعلائها وتقديسها والوله بها، واعتبار ما خلاها لا يستحق أن يُعاش. في فترة شبابها، تتألق أنثى الغرب بالعنفوان والاعتداد بالنفس، وهي ترى دوائر المعجبين بها خضراء ودائمة. عندما تكبر في العمر ينفض المعجبون وتدلف تدريجياً الى سجن الاسترذال الطويل الى أن تموت. تقول لنا فاطمة إن سجن الزمن الذي يحاصر حريم الغرب لا يختلف جوهرياً عن سجن المكان الذي يحاصر حريم الشرق، لكن تختلف البدايات كما المصائر. ففي هذا الأخير، تولد المرأة وتحيا سجينة المكان خشية من أنوثتها وخشية مزعومة عليها، وتظل في الحالين مُسترذلة. تتحرر من سجن المكان كلما كبرت في العمر وصارت أماً أو جدة، مع فقدان جمالها تمتلك حريتها الى أن تموت! لكن ماذا قالت وأضاءت فاطمة، إذاً، في قصة العولمة؟
هنا، دارت المرنيسي دورة كاملة حول العولمة أو العولمات، وارتحلت شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، تتأمل فيها. ثم جاءت بالتقاطتها المبدعة: عولمة اليوم هي عولمة الكاوبوي، وهي خلاف ما يجب أن نتوق إليه وهو عولمة السندباد. كان ذلك التأمل الذي أدهش الحضور جميعاً وأدهشني أيضاً، أنا جليسها على المنصة ذاتها في ندوة عن العولمة في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في تشرين الأول (أكتوبر) 2004، وحيث كانت فاطمة والعالم العربي ضيفَي الشرف فيه. ما دخل السندباد بالعولمة؟ في تلك السنوات، كنت غارقاً في كل الأدبيات التي كُتبت عن العولمة، شرقاً وغرباً، ظاناً أنه ما عادت تدهشني أو تلفت انتباهي أي فكرة ُتطرح حولها مهما بدت جديدة. كنت أحضّر لرسالة الدكتوراه في جامعة كامبردج، وكان موضوعها: العولمة والمثقفون العرب. في ربع ساعة فقط، هي فترة مداخلة المرنيسي، ألقت بـ «سندبادها» أمامي ساخراً من كل ما قرأت. كان عنوان مداخلتها: من الفائز في العولمة: السندباد أم الكاوبوي؟
للوهلة الأولى، بدت في العنوان غرابة وعدم اتساق، حيث يُقارن سندباد الحكايات الماضية في قرون الشرق التي خلت، بكاوبوي الغرب في الزمن الحاضر. فككت فاطمة الغرابة سريعاً، وقارنت بين عولمة راهنة في قلبها رأسمال لا يهدأ من التجوال بحثاً عن الربح، وعولمة عصر السندباد التي لم تكن فيها شركات متعددة الجنسيات ولا ضرائب ولا حقوق للملكية الفردية! فاطمة كانت مهمومة بحوار بين الشرق المكسور والغرب المغرور على قاعدة ندية تواصلية، لا تحكمه أسبقيات أفضلية. تكسر محددات الزمن وتلتقط فكرة الأدب والترحال باعتبارهما قلب تعولم الشرق القديم، وتطرحهما بديلاً تواصلياً عن عولمة اليوم التي تراها متوحّشة ويحتلّ العنف القلب منها.
سندباد فاطمة، وهو المتماهي معها هي سندبادة وقتنا، حالٌ فيها حلول الصوفي. هو الرحالة الذي لا يعرف حدوداً للجغرافيا، بوصلته التي احتضنتها فاطمة هي وصية أبو تمام: «إغترب تتجدد». وأنشودته التي ظلت تغنيها فاطمة إلى وقت رحيلها هي ترانيم الشاعر الصوفي المصري القديم التنيسي: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفرج نفس، والتماس معيشة، وعلم، وآداب، ورفقة ماجد». هذا هو سندباد فاطمة، وهذه هي عولمته.
** جزء من مساهمة في كتاب «شهرزاد المغربية: شهادات ودراسات عن فاطمة المرنيسي»، إعداد ياسين عدنان وتحريره، وإصدار مركز الشيخ ابراهيم آل خليفة في المنامة، ويُنشر هذه الأيام لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة المرنيسي.


www.deyaralnagab.com