logo
من يَسْقي حشائش المُؤامرة؟ بين تخاذل الإعلام وتغوّل النّخب!!
بقلم : ندى حطيط ... 22.01.2021

ثمّة وباء خطير ينتشر كما النار في الهشيم على جدران الكون بأجمعه، يصيب الكثيرين ويتهدد بالخطر حياة الملايين، فيما تبدو قدرة البشريّة على التعاطي معه محدودة ويائسة.
وليس ذلك الملك كوفيد – التاسع عشر وحده. إنّه التفكير المؤامراتي النّزعة والاعتقاد بوجود تدابير غامضة مناقضة دوماً لظاهر الأحداث يقوم عليها شريرون ينفذون أجندات مشبوهة.
راجت نظريّات المؤامرة بشكل متعاظم خلال العقد الأخير، وضاعف من توسّع قاعدتها فقدان الثّقة المتزايد بوسائل الإعلام والتوّسع غير المسبوق في نشر الأخبار الكاذبة، والاستقطاب الملتهب بين المعسكرات السياسيّة.
وقد وجدت تلك النظريّات في وسائل التواصل الاجتماعي أرضاً خصبة وبيئة جدّ مواتية لتنمو فيها كما حشائش ضارّة كبرت حتى كادت تطغى على كل أشجار الحقيقة.
وصول شخصيّة جدليّة بامتياز مثل دونالد ترامب إلى قمّة هرم السلطة في الدّولة الأكثر تأثيراً على تدفّق المعلومات ودفعه بمزاج المؤامرة إلى مستوى العناوين الأولى لنشرات أخبار التلفزيون والصّحف ومواقع الإنترنت، ثم تفشي فايروس كورونا وتحوّله إلى وباء معولم غير مسبوق – أقلّه في الذّاكرة الحديثة – نقلت صيغة التفكير المؤامراتي من مكانة الضيف المتسلل في الظلام إلى موقع صاحب البيت الذي يتجوّل في منزله حرّاً عارياً.
وهكذا واجه انتقال السلطة في الولايات المتحدّة تحديّاً حقيقيّاً، وكاد يتسبب بكارثة تامّة على الكابيتول هيل حيث مقر الكونغرس الأمريكي بعدما سوّق ترامب – الذي يؤيده نصف الناخبين الأمريكيين – معتلياً عناوين الشاشات ومقاهي التواصل الاجتماعي نظريّة تآمر جهات متقاطعة داخل الدّولة الأمريكيّة على تزوير نتائج الانتخابات الرئاسيّة 2020، فيما ترفض نسبة معتبرة من المواطنين في البلاد المتقدّمة والناميّة فرص الاستفادة من اللقاحات التي تمّ تطويرها لمكافحة كوفيد – 19 رغم نصائح الجهات الطبيّة الرسميّة، وذلك بناء لأفكار مؤامراتيّة يتم تداولها على نطاق واسع تشكك بفاعليّتها وتزعم بخطورة أعراضها الجانبيّة، وتتهم جهات مهيمنة بشن حرب بيولوجيّة ضد البشريّة بغرض الحدّ من النموّ السكاني الهائل في العقود الأخيرة، هذا في وقت يرفض آخرون فكرة وجود وباء من حيث المبدأ.
*نظريّات المؤامرة: تاريخ عريق
ليس التفكير المؤامراتيّ بحديث عهد في الاجتماع البشري، وهو كان بشكل أو آخر رفيق السياسة في مختلف تقلباتها منذ أقدم الأوقات. وبعد مرور مئات السنوات ما زالت نظريّات المؤامرة فاعلة في تفسير تدحرج التاريخ عبر المراحل. منذ لحظة اغتيال قيصر في عصر الإمبراطورية الرّومانيّة إلى تنازع السّلطة بعد وفاة الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلّم – والذي تحوّل إلى ذاك الانشقاق التاريخي السني/ الشيعي – ارتبطت الأحداث الكبرى دوماً بتصورات مؤامراتيّة.
وفي عصور الحداثة نُسبت الثورتان الفرنسيّة والروسيّة لمؤامرات ماسونيّة أو يهوديّة، وتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كان نتاج نظرية المؤامرة عندما اعتبر الثوّار في الفترة التي سبقت حرب الاستقلال هناك أن فرض ضريبة على الشاي أو الطوابع ليس مجرد إجراء سيّاديّ بقدر ما كان مناورة افتتاحية في مؤامرة قمع شرسة.
وكان الموقعون على إعلان الاستقلال الأمريكي الشهير مقتنعين – استنادا إلى «نسق متتابع من الانتهاكات والاعتداءات» – بأن ملك بريطانيا العظمى كان يتآمر لإقامة «نظام طغيان مطلق» على المستعمرات ما وراء البحار.
وقلّما تجد اليوم أحداً يكاد ينكر أن هنالك ما يحدث أكبر مما ترى العين، وأن شخصاً أو أشخاصاً بنوايا سيئة مبيتة يصنعون الأحداث وراء الكواليس، وفق مخططات مسبقة. وجسّد ترامب نوعاً مبتكراً من «المؤامرة دون نظرية» يعتمد أساساً على مجرد التأكيد والتكرار بدلاً من الأدلة المنطقيّة، فتغريداته المتكررّة التي لا أساس لها من الصحة بأن الانتخابات تم تزويرها في سياق مؤامرة، تتناقض بالكليّة مع المواد المتداولة بشأن نظريّات مؤامرة كلاسيكيّة، مثل حادثة اغتيال كينيدي، حيث دراسات معمّقة لزوايا ومسارات إطلاق الرصاص، أو فرضيّة التآمر الداخليّ في حادثة 11 سبتمبر/أيلول التي يغوص مروّجوها في بيانات حول درجة الحرارة التي يحترق فيها وقود الطائرات ومقاومة فولاذ الأعمدة.
لكن في الحالين فإن النتيجة ليست لمصلحة المجتمع ككل، إذ أن الترويج لوجود نظريّة مؤامرة يؤدي إلى نزع الشرعية عن المنافسين السياسيين والمؤسسات الحكومية والإعلام وتقوّض أسس التعايش الديمقراطيّ الطابع بين مكونات المجتمع.
وقد شاهد العالم على الهواء مباشرة كيف اندفع الآلاف من المتشبعين بهراء مؤامرة تزوير الانتخابات الأمريكيّة بتحريض قليل إلى كسر القيمة المعنوية لرموز النظام السياسيّ الأمريكيّ وكانت يمكن في ظروف أخرى أن تتطور إلى حادثة دمويّة.
*في مواجهة المؤامرة: الوقاية خير من العلاج
من الصعب ربّما قياس مدى الإنتشار الفعليّ لنظريّات المؤامرة، إذ تبدو تماماً كالفيروسات خفيّة، تتسلل بخبث عابثة بجينات سلوكيات الأفراد والمجموعات، فيما يميل بعض علماء الاجتماع الإنساني إلى ربطها بالجوانب الأساسيّة للإدراك البشري والتكوين السايكولوجي للأفراد والزّعم بأن فرضيات المؤامرة تلبي احتياجات نفسية أساسيّة لدى الأشخاص المصابين بالإحباط مما قد يساعد في تفسير سبب تفشيها بهذي السهولة، ولماذا يبدو من المستحيل تقريبا القضاء عليها ليبقى علاجها الوحيد الممكن: منعها من التّرسخ في الأذهان مبكراً. وفي الواقع تشير أبحاث أكاديميّة عديدة إلى صعوبات جمّة للتخلّص من نظريّة مؤامرة بعد أن يقتنع بها المرء بحيث تستمر في التأثير بتفكيره وتصوره عن العالم من حوله في الوعي واللاوعي. وفي ذلك يقول ساندر فان دير ليندن، وهو عالم نفس اجتماعي في جامعة كامبريدج المتخصص بسبل مكافحة الأخبار الكاذبة «عندما يتعلق الأمر بنظريات المؤامرة، فإن الوقاية دائماً أفضل من العلاج».
فإذا كان الأمر كذلك، فمن أين نبدأ إذن في تقليص فرص نشوء نظريّات المؤامرة؟
لا يمكن للفردِ العاديّ في المجتمعات المعاصرة الإلمام بكل ما يجري من حوله، كما يحتاج الناس بالفطرة إلى المعرفة واليقين والثقة، كوصفةٍ تامّة لبلوغهم الأمان وفهم بيئتهم والسيطرة على عالمهم، وللشعور بالرضا عن أنفسهم وعن الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها، وهم دون شك يأخذون غالبية معلوماتهم عن هذا أل «عالمهم» من وسائل الإعلام – على تعدد أشكالها وقنواتها -، وعلى أساس موادها يصنعون توجهاتهم وبالتالي سلوكيّاتهم.
وعندما يقصّر هذا الإعلام باعتباره أكثر المصادر تأثيراً عن القيام بواجبه في تقديم المعلومات الموثوقة – سواء لاستقالته التامّة من مهمته وتفرغه لنشر البروباغاندا، أو لهيمنة السلطات السياسيّة عليه وتحوله بوقاً على مقاسها أو ميج منهما بالطبع – فإن نظريات المؤامرة ستجهزُ بديلاً طازجاً فوريّاً يملأ الفراغ، ويقدّم العزاء للفرد أو يدفعه لليأس والاستسلام والرضوخ لواقعٍ يستحيل تغييره.
وإذا كان ذلك يخدم أهداف نخبة مهيمنة محددة فإنه دون شك مصدر خطر داهم سيؤدي في لحظة تاريخيّة وظروف ما إلى انحطاط صيغة التعايش واهتزاز الأرضيّة المشتركة بين مختلف مكونات المجتمع.
وحادثة الكابيتول ما زالت حيّة ترزق.

*المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com