logo
كرة القدم: جنس ونصرٌ على الموت… !!
بقلم : سهيل كيوان  ... 18.07.2019

لو سألنا عشرات ملايين من البشر، ما هي اللحظة الأكثر سعادة التي مررت بها في حياتك؟
سيقول علماء فلك إنها اللحظة التي التقطوا فيها صوراً لثقب أسود على مسافة 130 مليون سنة ضوئية، وسيقول فلاحٌ إنها لحظة حصوله على قطعة أرض ليفلحها، وستقول سيدة إنها لحظة تخرّج ابنها أو ابنتها بشهادة الطب أو قيادة طائرة.
سيذكر كثيرون لحظات علاقة عاطفية، ولادات، وشفاء من مرض، أو براءة من تهمة خطيرة، إلا أن عشرات الملايين سوف يذكرون لحظة تسجيل هدف الفوز لصالح الفريق الوطني لبلادهم في مباراة كرة قدم حاسمة، تلك لحظات لا تضاهيها في فرحتها سوى الفرحات التاريخية، مثل انهيار جدار برلين، وفرحة العرب بالبلاغ العسكري المصري لحظة عبور قناة السويس في عصر السادس من أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973.
ضربة الجزاء، هي تلك المسافة الزمنية الممتدة من صفرة الحكم إلى تحرّك اللاعب الذي سيسدد، تقليبه الكرة على العشب حتى يثبتها على الوضعية التي يظنها الأنسب، ثم التراجع عنها بضع خطوات، وانتظار صافرة الحكم للانطلاق تحت أنظار الملايين، لصناعة الطفرة أو إخطائها.
ما السر؟ ولماذا تتحول كرة جلدية منفوخة كأنها ثقب أبيض كثيف يمتص كل شيء.
ثم ما الذي يدفع الجزائري ليهتف لفلسطين في لحظة نشوته، كأنه عاشق يودُّ التواصل مع من يحب، أم أنها فرحة مصدرها تأنيب ضمير بأن هناك جزءاً مهماً من أرض هذه الأمة قد ضاع أو على وشك الضياع.
هل هي الفرحة التي نريد اقتسامها مع المستضعفين مثلنا؟ هل هو احتجاج على واقعنا بطريقة التفافية لا يستطيع أحد محاسبتنا عليها؟
وما الذي يريد أن يقوله المغربي عندما يتدثّر برايتي المغرب والجزائر صائحاً خوا خوا..أخوة أخوة! لماذا يحاول بعضهم التعبير عن فرحته بتسلق الجدار الحدودي بين الجزائر والمغرب؟ ليقول نحن شعب وأمة واحدة ولتسقط الجدران؟
ولماذا تهتف جماهير الجزائر للمصري أبي تريكة دون غيره، كأنما تتحدى النظام الذي حاول عزله، وما هي الرسالة التي يقولها الفلسطيني في غزة ورام الله وعكا وحيفا وقرى الجليل وهو يعبّر عن سعادته بهدف الفوز الجزائري الذي أهل المنتخب إلى نهائي الأمم الإفريقية، وما هو الكم العاطفي الهائل الذي يحمله عشرات الملايين لمنتخب الجزائر يوم غد الجمعة، وطبعاً ملايين السنغاليين والأفارقة وغيرهم لمنتخب السنغال.
لماذا يحشر رؤساء الدول والسياسيون أنوفهم، ويحاولون تجيير فوز الفريق الوطني لصالحهم وإضافته لإنجازاتهم. وما دام أن الفوز يسجل للرئيس، فلماذا لا يحاسب على الخسارة؟ لماذا على المدرب أن يستقيل؟ هل هو الأب الذي فشل في توصيل أبنائه إلى النصر، أم أنه كبش الفداء لأسباب كثيرة توصل إلى الفشل!
خلطة أحاسيس فردية وجمعية يغذيها الشعور بالمصائر المشتركة، وبقدر ما هي عابرة للمسافات البعيدة، فهي تنبع من أعماق لا وعي وأعصاب وحتى هرمونات الإنسان، هي مناسبة يطلق الفرد من خلالها كل مكبوتاته الاجتماعية والسياسية والجنسية والعاطفية والتاريخية، وأمراضه وعاهاته غير المرئية، في تلك اللحظة تطفو المدفونات العميقة سافرة بلا أقنعة على شكل صرخة وقفزة وهتاف، تفضح قوتنا أو ضعفنا، سطحيتنا أو عمقنا، قد تكون إلى جانب أحدهم فيضمّك إلى صدره ويقبّلك، وقد يصفعك أو يدفعك آخر بوحشية، وآخر يأتي بحركة مشينة وكأنه في خضم عملية اغتصاب جنسية، ثم يعدو صارخاً وباكياً، وقد يخلع كثيرون ملابسهم العلوية!
يقول مختصون نفسيون، إن لحظة هز الكرة للشباك تمثل اختراقاً جنسياً في لا وعي اللاعبين وملايين المؤيدين في اللحظة ذاتها.
ويقول آخرون بأن تسجيل الهدف يعني القدرة على الحياة والاستمرار في مواجهة الموت المتمثل بالهزيمة، وكلما كان الخصم عنيداً وقوياً كان الفوز ألذّ وذا معنى غير ظاهر، ويا حبذا إذا كان بين شعبي الفريقين القوميين صراع سياسي، فإن النصر سيأخذ أبعاداً قد يبلغ قطرها ألف عام من التاريخ وأكثر، يجمحُ خيال المشاهد إلى الخيول والصهيل والرماح والقصف المدفعي ودوي الطائرات والكاميكاز والاستشهاديين، وحتى القنبلة النووية إذا كانت المباراة بين اليابان وأمريكا، أما إذا كان الخصم ضعيفاً ومن بلد شقيق أو صديق وأتى الفوز سهلاً وبنتيجة مرتفعة، بأربعة أهداف فما فوق مثلاً، حينئذ يفقد النصر لذّته، لأنه فشل في تحريك الغرائز والثارات العميقة، وفي أحسن الأحوال هو أقرب إلى مداعبة القبلة الخفيفة الخالية من الشغف.
هكذا نرى أنفسنا من خلال الكرة منتصرين على الموت وعلى الفشل والظلم والضعف، تتدفق الحياة بقوة في عروقنا في تلك اللحظات الرائعة، فنهديها لذواتنا ولمن نحب، إنه انفجار تعويضي لبؤرة مكبوتاتنا الشخصية والجمعية.
أما عندما يكون الفريق تابعاً لناد رياضي مثل ليفربول أو غيره من الفرق التي تضم لاعبين أجانب، ويكون بطل المباراة أجنبياً، حينئذ تتلاشى في لحظة النصر الضغائن العرقية، تنهار الحواجز بين الأمم، تسقطها تلك القدم الماهرة التي تصنع الفرح للملايين.
من ناحية أخرى، نرى بعض الجمهور المغرق في العنصرية يشتم إدارة فريقه وأحد لاعبي التعزيز الذي جلبته، لأن اسمه علي محمد، وهو لاعب من النيجر جاء ليكسب بعض المال من خلال اللعب مع فريق (بيتار يروشالايم)، أعدّ جمهورُ فريقه له ولنبيّه محمد حفل استقبال من الشتائم والكلمات النابية وحتى التهديد، فوجود عنصر غريب بين القطيع يحمل اسم العدو ينغّص على القطيع متعة ولذة إطلاق غرائز الكراهية، خصوصاً إذا ما أسهم هذا الغريب بنصرٍ وسجّل هدفاً لصالح فريقه الذي هو فريقهم، فكيف يمكن لعلي محمد أن يكون سبباً في نصر بيتار يروشالايم، بينما الهدف العميق المكبوت الذي يسعى إليه هذا الجمهور العنصري، هو سحق أمة علي محمد كلها.
هذه الحماسة والمشاعر المتلاطمة لم نرها في مباريات المنتخبات النسائية، كأن لعب النساء خال من التحديات التي تثيرها منتخبات الذكور، وكأنهن منزوعات الغضب والطاقات المكبوتة، فهن أكثر نعومة، وأقل عدوانية تجاه بعضهن، حتى عندما يُسجلن هدفاً فهو ليس اختراقاً للشباك بل يهزها بلطف، يفتقر للشحنة السادية، وبالتالي يفتقد لردة الفعل الوحشية التي يطلقها فريق الذكور، تبدو تسجيلاتهن مصافحات ومداعبات، خصوصاً وأن الفرق التي وصلت إلى المراحل النهائية من شعوب ودول معظمها صديقة، ليس بينها حزازات وضغائن سياسية معاصرة، وليس بينها فريق عربي أو فريق من دولة إسلامية يحرّك مكبوتات الملايين من العرب والمسلمين في مواجهة الأوروبيين والأمريكيين، نأمل في العقود القريبة أن تنجح الفرق النسائية العربية بالتقدم إلى أمكنة مقبولة، فلدى المرأة العربية مكبوتات ومشاعر شخصية وجماعية غنية جداً، لا تختلف عن مكبوتات الرجل العربي، لهن رغبات ويحتجن إلى نصر على الموت.


www.deyaralnagab.com