logo
«جيت بوقتك فرفح قلبي…»!!
بقلم : سهيل كيوان ... 19.07.2018

من أسباب رضى المرء عن نفسه ورضى ذويه وأقربائه وأصدقائه والناس عنه، أن يموت في الوقت المناسب.
هل هناك توقيت مناسب للموت وآخر غير مناسب؟! طبعًا وقد يفرق بالساعة وحتى بالدقائق، وما دام أن الموت حق وحتمي على كل كائن حي، يبقى أن نتمنّاه موتًا هيّنًا عاديًا وبتسلسل زمني طبيعي، أن يموت الكبير قبل الصغير، والهرِم قبل الكهل، وأن نغادر قبل الخرَف، وقبل فقدان السيطرة على قضاء حاجاتنا البيولوجية، ليس ظريفًا أن تنهي حياتك كما بدأتها بالحفّاظات، يقول دعاء الأجداد المتفائل: «يا رب أمِتنا وغبار الطريق على أرجلنا».
قبل أيام كنت مدعوًا إلى فرح في قرية مجاورة، سمعت بعضهم يبتهلون بأن لا يموت عم العروس، وهو كهل في الخمسينيات من عمره، أصيب بجلطة دماغية قبل أسبوعين، ومعلّق بجهاز تنفس اصطناعي، يتمنون أن «يصمد» الساعات القليلة المتبقية.
رحيله الآن، في الساعات الحاسمة، يُفسد الفرح، الموت حق، ولكن طالما أن روحه لم تنسحب من جسده بعد، فالفرح والرقص والغناء مسموح، وممكن لفعاليات العرس أن تمضي بشكل طبيعي، وأن يشارك فيها الجميع بما في ذلك أقرباؤه، رغم أن الأطباء قالوا إن مخّه توقف عن العمل منذ أيام، ولكن الأصول أصول، لا يعقل أن نرقص ونغني بينما هم يدفنون عمّ العروس التي تحبّه كثيرًا، وأصرّت على زيارته في المستشفى يوم أمس، والتقطت صورة إلى جانب سريره وهي تبكي.
دخل رجل كهل بلباس رسمي، أعتقد أنه مدرسٌ متقاعد، بارك لوالد العريس، ودسّ بيده مغلف «النقوط» ثم جلس، قدّموا له فنجان القهوة السادة وحلوى، ثم التفت إليه أحد الحضور يسأله: كيف أبو زكريا الآن، إن شاء الله أحسن؟
رد الرجل دون أي تغيير في ملامحه: شو أحسن؟ علميًا وطبّيًا هو ميّت، مخّه توقّف..
- الأعمار بيد الله، ليست بيدي ولا بيدك، لكن أقصد
الدكاترة شو بيقولوا؟
- الدكاترة يقولون منذ أيام، لا يوجد أي أمل، وإذا عزلوه عن جهاز التنفس الاصطناعي يتوقف قلبه على الفور ويموت، يعني روحه الآن بيدهم!
- لاحول ولا قوة إلا بالله، كيف روحه بيدهم، الأعمار بيد الله، ما دام قلبه يعمل فهو لم يمت بعد.
- علميًا هو ميت، لأنه إذا مات المخ مات الإنسان.
- ولكن الله قادر على كل شيء…
- والنعم بالله، ولكن من مات مخّه فقد مات.
-المهم أن روحه لم تغادر جسده بعد..
- غادرت أم لم تغادر، طبّيًا يعتبرونه ميْتًا، الأطباء طلبوا من العائلة أن تتبرع بأعضائه، ولكنهم ما زالوا يأملون بعودته.
-هذا حقهم، ما دامت روحه في جسده.
- يا عمّي، يعني أنا أريد له الموت؟ ولكن لشو نضحك على بعض! يستحسن أن يأخذوا بعض أعضائه الصالحة لمن هو في حاجة لها قبل أن تتلف، هذا عمل أجره كبير عند الله.
- يعني يقتلونه ليتبرع بأعضائه؟
- لا حول ولا قوة إلا بالله، الزلمة مات وشبع موت، خلص بلاش هالنقاش البيزنطي..
- المهم أن يمرر الليلة على خير.
- إن شاء الله يمرّرها على خير، ولكن الزلمة ميّت.
وهنا استذكر البعض حالات عاش فيها المُحتضر سنوات وهو معلق بهذه الأجهزة، «أرييل شارون عاش سنوات وهو معلق…»
-هذا ربنا أراده عبرة لمن يعتبر، شو عاش؟ ربنا جعله نبتة ثمان سنوات، حتى دوّد جسده، كي يرى كل متجبر ومجرم مصيره.
-لا نرى أن أحدًا يعتبر.. الطغاة هم الطغاة.
فطن أحدهم فقال: «في أستراليا أو النمسا، لا أذكر، كان أحد المرضى ميتًا سريريًا وعاد إلى الحياة بعد سنوات، رجع طبيعيًا، هذا يعني أنه ليس كل ما يقوله الأطباء مُنزلاً.
أصر الرجل على موقفه: أنا لم أقل أن رأي الأطباء منزل، ولكن رجوعه، يعني أن مخه كان سليمًا، ولم يكن قد مات؟
- بل هذا يعني أن عمره لم ينته بعد.
أشار أحد المتحمسين إلى شابّ الـ(DJ) مشغّل الأسطوانات: «يلا شغّل الموسيقى، هل سنحدّ على الزلمة قبل وفاته؟»
وارتفع أكثر من صوت- شو القصة؟ شغّلوا الموسيقى، الزّلمة ما مات، وعندما يموت فلكل حادث حديث.
انسابت موسيقى هادئة من مكبرات الصوت، أغلب الظن أنها موسيقى مسلسل تركي، فيها مسحة من حزن.
-شو هالموسيقى الحزاينية! حُطّ غيرها يا زلمة، خلي الشباب يتحركوا…
وما هي سوى لحظات حتى انطلقت موسيقى وأغنية «جيت بوقتك فرفح قلبي آآه يا قلبي، امسح العتمة الساكن دربي، دقت الحب ومُرّ الحب، دخيلك شو عملت بقلبي».
-آه هيك..
وما أن تحمّس الحضور حتى تدخل من أوقف الموسيقى…
-لماذا أوقفتم الموسقى؟
-أنا أوقفتها، قال عم العريس.
-ليش؟
-الزلمة أعطاكم عمره.
-شو هالحكي؟ قبل نصف ساعة كانوا عنده.
-أنا وصلني الآن (واتس أب) أنه أعطاكم عمره، فلا موسيقى ولا رقص ولا غناء، هذا عيب، لكل شيء أصول.
راح أحد أصدقاء العائلة يعالج هاتفه وهو قلق، يروح ويجيئ والعيون تتابعه، تحدث مع أحدهم ثم التفت مستبشرًا: من قال لك إنه مات؟ صحيح الزلمة على آخر طقة من أسبوع، كل يوم نفس الحكي، ولكنه لم يمت بعد.
-مع من تحدثت؟
-مع زوج ابنته، ها هو فوق رأسه، الزلمة لم يمت.
-لكان أرقصوا، ويا ريت يقوم يركض.
-يلا أرقصوا…
-يلا شغّل الموسيقى. أصلاً حرام الحداد عليه قبل أن يموت.
كبرت الحلقة واتسعت وتوافد الضيوف مهنئين، وغابت الشمس، ومُدّت الوليمة، واستمر الغناء ومضت الليلة على أروع ما يكون،
حتى انتهت جميع مراسم العرس.
بعد صلاة الفجر نودي من مسجد القرية «أبو زكريا انتقل إلى جوار ربّه، والدفن بعد صلاة الظهر».
تردّدت مقولات كثيرة قبل وبعد دفنه، «سبحان الله، لقد أمهلنا حتى انتهاء الفرح وأسلم روحه، كل احترام، كان قد مات بالضبط بعد انتهاء السهرة، ربما بدقائق، ألف رحمه تنزل عليه، كل عمره وهو مريح حتى في مماته، لم يُغلّب أحدًا، انفجار في المخ، سقط عن الكرسي، مرته لكشته…قوم قوم، فِشّ حَدا، لا من إيدو ولا من حديدو، انتظر أسبوعين حتى انتهاء عرس ابنة شقيقه ومات. كأن روحه ضُبطت على الساعة إلى حين انتهاء السهرة، يعني لو مات مغرب يوم أمس، لكان خرّب العرس، لكن الله ستر».
-يا جماعة وحّدوا الله، لا تحكوا هيك، هذا كُفر، الأعمار بيد الله، لا تقولوا صَمَد ولا تقولوا لعلّ وربما، «إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون»، الله يرحمه، ألف رحمة تنزل على روحك الطاهرة يا أبو زكريا..


www.deyaralnagab.com