logo
العروس دنماركية والدبكة فلسطينية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 13.10.2016

الحمد لله، زففنا في بلدتنا هذا الموسم عشرات العرسان والعرائس، ولكن هذه العروس حالة خاصة، كانت أجمل ما في هذا الموسم.
هاتفني رجل تربطني به قرابة بعيدة وصداقة أقرب، فقال لي: «تفضل عندنا بكرا على سهرة العروس.»..
• أي عروس؟ قلت، وأنا مستغرب، فليس لديه بنات عازبات…
ـ هي من أقرباء المرحوم والدك!
• من هذه العروس؟ ابنة من؟
ـ إنها ابنة ابن ابن خال والدك.. من الدنمارك…
• آه من الدنمارك! جدها (العبد) الله يرحمه ابن خال والدي..!
ـ بالضبط ..
• ولكن كيف سهرتها في مجد الكروم! هل ستتزوج من بلدنا؟
ـ لا.. العريس من الرينة (قضاء الناصرة)، خلال حديثي على (النّت) مع والدها (ابن ابن عمّي) عرفت أنها تعرفت على شاب من (الرينة) وستتزوج في بلادنا، فعرضت عليه أن نعمل سهرتها في مجد الكروم، ويأتي أهل الرينة وعريسهم إلى ليلة الحناء هنا، وفي اليوم التالي يأخذونها من عندنا إلى عريسها، كما هي العادة، يأخذونها من بين أقربائها وأقرباء جدها وجدتها!
في مساء اليوم التالي ذهبت وزوجتي إلى ساحة المدرسة الابتدائية حيث أقيمت السهرة، وإذ بالساحة مكتظة بالناس من كل الأعمار رجالاً ونساء وأطفالاً، أقرباء وأنسباء وجيراناً وأصدقاء!
على محيط الساحة الواسعة جلس رجال من مختلف عائلات القرية، بعضهم كانوا يعيدون ترتيب صلة القربى بين العروس وذويها والشطر المتبقي بالوطن.
عند المدخل جلس رجلان يستقبلان الضيوف، إنهما والد العروس الذي يأتي إلى فلسطين لأول مرة، وعمها الذي سبق وأتى قبل سنوات برفقة والده ويعرف بعض الحضور، وإلى جانبهما أقرباء وأنسباء وأصدقاء.
جدها (العبد)، ابن خال والدي، الذي هُجر عام النكبة إلى لبنان، زار الوطن قبل أحد عشر عاماً، جلست معه على سطح بيتنا، وحكى لي عن مسيرة تشرده مع والده (خال والدي) وشقيقته ووالدي الذي كان في مثل سنه ورفيق طفولته، من مجد الكروم إلى لبنان إلى مخيم شاتيلا، والدي وصل حلب ثم رجع إلى شاتيلا، ثم عاد إلى فلسطين بعد عام، وبقي خال والدي وأسرته في شاتيلا حتى المجزرة الشهيرة مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية.
في الحرب الأهلية اللبنانية اختفى (الفهد) أبو العبد، خال والدي، والد جد العروس، ظنوا أن مسلحي الكتائب اختطفوه، ولكن فيما بعد ثبت لهم بأنه قتل بأيدي لصوص فلسطينيين جاؤوا للسرقة من مخازن تموين تابعة لللاجئين، حيث كان يعمل حارساً فيها! (أبو العبد) كشف أمرهم وعرفهم فقتلوه. (غسان كنفاني كتب قصة مشابهة عن سرقة مخازن تموين اللاجئين قبل هذا بسنوات، ويبدو أن السرقات ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا مع تبدل الوجوه والأيدي).
الفتاة المولودة في أودينتسي، تزور فلسطين لأول مرة، تزورها عروساً وستقيم فيها، ترقص بلا توقف في ساحة المدرسة التي تعّلم فيها جدها (العبد) حتى الصف السابع الابتدائي في زمن الانتداب البريطاني، كان جدها أذكى الطلاب وبشهادة كل من عرفوه، عندما زار فلسطين قبل أحد عشر عاماً عرف كل من جاء ليسلّم عليه، حتى أنه عرف بالفراسة من هم أصغر منه سناً رغم أنه لم يلتقهم من قبل! أدهش الناس بفراسته، لم يخطئ بأحد، ولم تتحقق أمنيته بأن يموت ويدفن في فلسطين، مات ودفن في أودينتسي.
الحفيدة ترقص وتتصور، تنقل السهرة مباشرة إلى صديقة لها أو لبقية أفراد العائلة في الدنمارك.
الفرحة تطيّرها عن الأرض، فتحوم في الساحة كفراشة، طيرانها يُفرح الحضور، فرح مشوب بحزن، كأني أرى جدها في طفولته في هذه الساحة، لكنها الآن معبدة بالإسفلت، كانت في زمن ما من تراب وعشب رحيم بأقدام الأطفال، لم يتغير شيء سوى أن المدرسة اتسعت وضاقت المساحات بين أجنحتها، كانت أربع غرف متلاصقة من الحجر، وسط أرض وقفية واسعة، صارت الآن من عشرات الغرف والأجنحة الجديدة ومن ثلاثة طوابق، بين جدرانها مئات الأطفال وعشرات المدرسين، واكتظاظ كبير.
جميع العرسان والعرائس متشابهون، ولكن هذا النسب بين فلسطينيي المهجر وبين أهل البلاد المقيمين له نكهة ومعنى آخر، كأنه يعقد العلاقة ويجددها بين الشتات والداخل الفلسطيني برابطة الدم والنسب، يعيد رتق ما تمزق من نسيج هذا الشعب، لا، ليست عرى الدم والقربى فقط، إنها أكبر وأوسع، علاقة أبناء شعب واحد يتعرض للمحو، ولكن ما يدهش أنها تعود للالتحام خلال دقائق، كما لو كنا نعرف بعضنا بعضاً منذ عشرات السنين.
العروس تبكي فرحاً، بعض النساء يبكين تأثراً، والرجال يبتسمون، يدورون في الساحة بصف السحجة التراثية القروية، ثم ينتقلون إلى صف الدحيّة البدوية المنتشرة هذه الأيام في كل أرجاء فلسطين!
فهمت من زوجتي أن بعضهن يبكين لأن العروس ستكون وحيدة وبعيدة عن أهلها المقيمين في الدنمارك!
قلت ـ لكنها هنا في وطن أجدادها وستشعر أنها بين أهلها، العالم صار صغيراً وما زال يصغر.. ويبدو أن التكنولوجيا تعيد صياغة مفهوم الغربة من جديد، السفر صار أكثر سهولة، ومن يرغب بإمكانه التحدث مع أقربائه عبر شبكات التواصل بالصوت والصورة، التكنولوجيا الحديثة، تعيد ترتيب قطع (البازل) التي تبعثرت.
يبقى الآن موقف السلطات من حصول العروس على المواطنة، فالسلطات سنت قانوناً يحرّم المواطنة على من يقترنون بفلسطينيي 48 من أبناء وبنات الدول العربية ومن الضفة الغربية وقطاع غزة، لإعاقة التطور والتكاثر الطبيعي للفلسطينيين داخل الخط الأخضر بقدر الممكن! فهل سيطبق هذا القانون العنصري أيضاً على هذه العروس العائدة بعد أجيال من الغربة إلى طرق داستها أقدام أجدادها! كانت فرحة كبيرة، والآن على الشبان بعد انتهاء السهرة أن يجمعوا كل الزجاجات والعلب الفارغة والأوراق وغيرها من مخلفات السهرة، لأن المدرسة سوف تستقبل في صبيحة الغد، المئات من فرح الحياة… من الطلبة والمعلمين..


www.deyaralnagab.com