logo
«خيار التوافق» التونسي!!
بقلم : د. خالد الحروب  ... 12.11.2014

نتائج الانتخابات التونسية عززت منطق التوافق؛ ووضحت عدم إمكانية انفراد أي حزب بالحكم، مما يفرض منهج المشاركة والتآلف الوطني
تشكل الانتخابات الرئاسية التونسية القادمة يوم 23 نوفمبر القادم، منعطفاً كبيراً في التجربة التونسية الديمقراطية التي يراقبها العرب ويرون فيها التجربة الوحيدة الناجحة بين تجارب «الربيع العربي». والنجاح الحذر للتجربة أسبابه عديدة، وهي في مجملها أسباب تولدت عن السياق التونسي المدني وآلياته الداخلية، وعقلانية «خريطة طريق» لما بعد الإطاحة ببن علي، ثم المراقبة اللصيقة لما كان يحدث في بلدان عربية أخرى والاستفادة منه. مقاربات القوى التونسية ورشدها ساهمت في الحفاظ على المسار الديمقراطي وأطفأت كثيراً من احتمالات الانفجار هنا وهناك. وعكس تخلي حركة «النهضة» عن الحكومة في مرحلة من المراحل لصالح تشكيل حكومة تكنوقراط تقود البلاد، نضجاً ملحوظاً عندما نقارن ذلك بممارسات «إخوان» مصر مثلاً أو تطرف إسلاميي ليبيا. وفي سجالات الإسلاميين مع بعضهم البعض ومع خصومهم، ثمة جدل عريض كان يُثار دوماً بين خياري «المغالبة» و«المشاركة». أنصار «المغالبة» هو الأكثر تطرفاً وتوتراً والظانون بأن مسألة الحكم نزهة لا أكثر ولا أقل. أما أنصار «المشاركة» فيرون أن قيادة أي بلد ليست كقيادة حزب أو تنظيم، وأن ما ينطبق على «الجماعة» لا يمكن أن ينطبق على البلاد بأسرها. «مغالبة» «الإخوان» في مصر قادت إلى كوارث سياسية، و«مشاركة» «النهضة» في تونس قادت إلى «التوافق الوطني».
و«التوافق» ليس أمراً سهلاً وميسوراً، لأنه يعني التنازل والمساومة والبحث عن أرضيات مشتركة، والابتعاد عن الغرور السياسي الذي يوفره الفوز الانتخابي. فهذا الأخير يأتي بمقادير هائلة من الثمالة التي تعمي المُنتصر عن رؤية الأمور في حجمها الحقيقي. ذلك أن الفوز النسبي الانتخابي الذي يكون بنسبة مئوية ضئيلة، يتحول إلى «نصر مؤزر» يمنح صاحبه الحق الحصري للنطق باسم الشعب والبلاد، والتنطع لإعادة كتابة الدستور، وصوغ المجتمع، وسوى ذلك. والقيادات، حتى العقلانية منها، يُسكرها النصر الانتخابي، خاصة مع تسييد الشعارات الكبرى وضغط القواعد الحزبية التي طالما انتظرت هذه اللحظة.
ولا يبدو أن هناك مقاربة أخرى غير مقاربة التوافق قادرة على إدارة الحقبة الانتقالية التي تلي سقوط أي نظام استبدادي. فالمسارعة للقفز نحو انتخابات هدفها حسم «القيادة الوطنية» لتؤول إلى قوة معينة تتصدى للحكم منفردة، لا يحقق الانتقال الديمقراطي المطلوب. ليست هذه نظرية جديدة في التقعيد لمراحل الانتقال الديمقراطي، بل هي النمط الأكثر نجاحاً في تجارب الانتقال الديمقراطية، خاصة الأميركية اللاتينية. فحال الدول والمجتمعات الخارجة من الاستبداد تكون خليطاً من الهشاشة الوطنية، وفقدان القواسم المشتركة العميقة، وغياب التجربة الديمقراطية الحقيقية التي لم تكن لتتيحها عقود من السلطوية والانسداد السياسي. يُضاف إلى ذلك أن الخصومات الأيديولوجية والسياسية داخل الصف الوطني، رغم توحده في خصومة المُستبد، تنفلت من قيودها في مرحلة التحرر الثوري، وقد تتحول إلى آلات تدمير حقيقية إن لم يتم ترشيدها ولجم انفلاتاتها الهوجاء. على هذا، تكون نقطة البداية في حقبة التوافق الوطني، وكما طُبقت في التجربة التونسية، الاتفاق على الدستور الجامع، وهو اتفاق يجب أن يسبق الانتخابات التشريعية والرئاسية. وعلى أساس الدستور التوافقي تنطلق العملية السياسية بمساراتها المتعددة.
قطعت التجربة التونسية أشواطاً كبيرة، آخرها الانتخابات البرلمانية. ونتائج تلك الانتخابات تعزز منطق التوافق إذ وضحت عدم إمكانية انفراد أي حزب بالحكم، مما يفرض منهج المشاركة وإنشاء حكومة تآلف وطني.وثمة قلق لدى البعض من أن يمثل «نداء تونس» الستار الذي يتسلل من تحته النظام القديم برموزه وممارساته. كما أن ثمة خشية أخرى من أن تصيبه نشوة الفوز فينحو نحو إقصاء منافسيه عن المشاركة، فتنقطع مسيرة التوافق الضرورية للفترة الانتقالية. في المراحل القادمة وبعد أن يترسخ المسار الديموقراطي، ستصبح خيارات الحزب الفائز بالانتخابات إزاء التحكم بالسلطة معقولة ومفهومة، لأنها ستقوم على أرضية صلبة. لكن الآن ما زالت الأرضية رخوة ولا تتحمل انفرادات الأحزاب بالحكم والسلطة.
لذلك من الأفضل لتونس أن تجعل من انتخاباتها الرئاسية، مدخلاً للوصول إلى نقطة توازن القوى التي تفرض على الجميع البقاء في منطق «التوافق».


www.deyaralnagab.com