logo
الفلسطينيون يُشرّدون بعيدا!
بقلم : رشاد أبو شاور ... 30.10.2013

رغم حرارة اللقاء مع فلسطينيي مدينة (غوتبورغ)، وبهجة احتفاليتهم، ودبكة الشباب والشابات المقبلين على الحياة بفرح لا ينسيهم أنهم من مخيمات لبنان، وسورية، وأنهم بالأساس من قرى جليلية لم يولدوا فيها، ولكن أجدادهم عرفوها وعاشوا فيها، وبعض آباءهم وأمهاتهم ولدوا على ثراها وغادروها أطفالاً في (اللفات).
في زيارتي تلك، في شهر أيّار الماضي، حملت هم معاناة فلسطينيي السويد، ليس بسبب الغربة حسب، ولكن لرمادية الجو، وانغلاقه، وانعدام انبثاق ولو خيط شمس من بين الكتلة القاتمة من الغيوم التي تجعلك شبه متيقن من أن الشمس أبدا لا تشرق في سماء هذه البلاد!
كل العائلات هناك تنتظر الصيف لتغادر إلى الشام، أو بيروت، ومخيمات الجنوب والشمال، فالحنين يشدهم للأهل، وللمدن التي نشأوا فيها، ومع ناسها، رغم المعاناة التي دفعتهم للرحيل، والبحث عن ملجأ ومأوى ولو في بلاد لا تشرق الشمس في سمائها إلاّ لماما، وهذا ما يحضهم على (تحويش) الكورون على الكورون ـ وحدة العملة السويدية ـ وتبديله بالدولار السيد الوحيد في بلاد العرب، رغم حافة الإفلاس المالي التي تهوي إليها الإمبراطورية الأمريكية، لتقديم بعض العون دعما لصمود الأهل الصابرين المنتظرين، ولاستعادة العلاقة مع شمس بلاد العرب التي حُرموا منها!.
كثير من هؤلاء الذين التقيتهم في تلك المدينة السويدية هاجروا بعد معركة بيروت 1982، وأوسلو 1993، حين ضاقت بهم بلاد العرب رغم رحابتها، واحتضانها لملايين الأسيويين، والخادمات الآسيويات.
ثاني يوم العيد اتصلت بصديقي الروائي والقاص الدكتور حسن حميد الذي يقضي وقته مشــــــردا عن بيـــــته في حي (السبينة) العشوائي الذي اتسع فوضويا، فكان العيد بثا للشكوى، وتبادل الأحزان، وتفقّد الأصدقاء الذين تشردوا من مخيم اليرموك، والذين تناثروا على هذه المعمورة مـــن (الفلبين) ـ بعض العائلات وصلت إلى تلك البلاد التي تصدر للبطــــــرين العرب الخادمات حتى ترتاح السيدات العربيات من الطبخ ، وخدمة الأطفال، بحيث يبقين مهفهفات معطرات لزوم البغددة وخلافها!_ إلى السويد شمالاً.
يخبرني صديقي حسن: هل تعلم أن صاحبنا القاص أحمد نجم في (أربيل) عند ابنته، وأن أسرته وصلت السويد، وأنه يعيش ممزقا لا يعرف ماذا يفعل.
ثم بصوت متهدج: ثـــــلاثة وعشرون ألفا من أهالي مخيم اليرموك توجهوا إلى السويد..إلى السويد يا رشاد وليس إلى فلسطين، ومدن الجليل وبلداتها المطلة على البحر، وبيارات البرتقال.
يتساءل حسن حميد: لماذا يُشرّد الفلسطينيون؟! من له مصلحة في إبعادهم عن حدود وطنهم فلسطين، وإنسائهم حق العودة، وحمل السلاح والمقاومة لتحرير ما استولى عليه الصهاينة بالقوّة؟!
مكالمة حسن طويلة معتمة أكثر من سماء غوتبورغ، وأشد قتامة.
محمد عادل الكاتب المقيم في الشام، يكتب لي على الفيس بوك: مخيم اليرموك يا صديقي خُرّب ونهب، وأهله شُردوا، ومن بقي قلة، وهم يعانون. ويضيف: كفاءات فلسطينية غامرت بالرحيل من ليبيا في الزوارق ميممة صوب إيطاليا، لاقت حتفها غرقا في الأمواج، وطواها الموت الفاجع، ومن بين هذه الكفاءات أطباء ومهندسون. هناك من سمموا حياتهم واضطروهم للهجرة، للنجاة بأنفسهم، وبأفراد أسرهم، فكان أن تلقفتهم الأمواج، وراحوا بلا قبور، ولا شواهد تحفظ أسماءهم، وتذكّر بهم..طبعا معهم سوريون، وعراقيون، وصوماليون، ولبنانيون، فالبحر البيض المتوسط تحوّل من بحيرة عربية ذات زمن .. إلى بحر للموتى العرب الهاربين من بلادهم اضطرارا وقهرا!
مخيم اليرموك ما زال محتلاً، ومحتلوه إسلاميون من (النصرة)، ومن (الجيش الحر) الذي مسحته (داحش) من ربوع دولتها الإسلامية!
حتى اللحظة يرفض محتلو مخيم اليرموك تركه بالحسنى، ولذا يقاتل في زواريبه شباب من أبناء المخيم، تنظموا في (اللجان الشعبية) لاستعادة بيوتهم بالقوة، بعد أن يئسوا من إقناع (المجاهدين) من ترك المخيم لأهله، والانصراف للجهاد في فلسطين وليس الجهاد لتشريد الفلسطينيين!
كل ما بناه فلسطينيو مخيم اليرموك على امتداد قرابة الستين عاما خرّبه هؤلاء الأشقياء الجهلة خدمة لمخططات تشريد الفلسطينيين، وإحباطهم، وتيئيسهم.
أنا واثق أن أهل مخيم اليرموك سيعودون إلى بيوتهم خلال أسابيع، بفضل بطولة وتضحيات أبنائهم الذين اضطروا لحمل السلاح، هم أبناء الشهداء ـ مخيم اليرموك يحتضن مقبرتي شهداء تضمان الألوف ممن سقطوا فداء لفلسطين منذ انطلقت المقاومة واشتدت بعد هزيمة حزيران 67 ـ وأخوتهم، وأبناء جيرانهم، والذين لن يرضوا بأن يتواصل نزف أبناء المخيم وتشردهم المذل، ومهانة حياتهم بعيدا عن مخيمهم الذي اجتمعوا في كنفه ليكون انطلاقتهم إلى فلسطين، وهذا ما يثبته ويبرهن عليه انضمام الألوف منه على امتداد ثلاثة أجيال للثورة التي كانت بشارة ووعدا بالتحرير.
عيّدت على أصدقائي: ياسين معــــتوق ـ نشر كثيرا من كتاباته على صفحات القدس العربي ـ القيادي محمد غانم، اللواء أبو جمال، وكانوا في مدخل المخيم، وعلمت منـــهم أن مجموعات شباب اللجان الشعبية قد توغلوا في شارعي اليرموك وفلسطين، وأن بعض فدائيي الفصائل، وفي مقدمتهم القيادة العامة يخوضون معركة تحرير المخيم، مهما كانت التضحيات، فقد طفح الكيل وفاض كثيرا، ولا صبر بعد الآن على من يحتلون المخيم، وينهبونه.
الشتاء يقترب، وأول المطر تساقط، والشتاء القاسي آت كما تبشرنا تنبوآت الأرصاد الجوية، وهذا يعني أن أهل مخيم اليرموك سيتبهدلون إذا لم يعودوا إلى مخيمهم ليعيدوا البناء، وليرمموا ما يمكن ترميمه، وليستأنف أبناؤهم وبناتهم دراستهم في مدارسهم.
أستعير من القاص السوري الكبير الراحل سعيد حورانية عنوان مجموعته (شتاء قاس آخر)، وأقول: لا يجب أن يعاني أهلنا، أهل مخيم اليرموك شتاء قاس آخر، ومن شردوا أهلنا عليهم أن يدفعوا ثمن جريمتهم، وهي آتية وقريبة بحسب ما أتوقع، وهذا ما يجب أن يحدث لكي تكون فيه عبرة لكل من يتطاول ويعتدي على شعبنا، ليس في مخيم اليرموك، ولكن حيث يتواجد شعبنا، فلا يجب أن نبقى (حيط واطي) لكل أفّاق متآمر…


www.deyaralnagab.com