logo
الدحيّة ونقدها: هل نحرّر الفنّ من وصاية التهذيب المجتمعيّ؟!
بقلم : خالد عنبتاوي  ... 15.01.2020

أسوةً بغيرها من ألوان غنائيّة شبيهة، كلّما خلعت الدحيّة جلابيبها الأولى، وبدت حصينة أمام اختزالها ضمن دائرة الفلكلور حصرًا، مخترقةً بذلك "المينستريم الفلسطينيّ" بأفراحه ومناسباته، استشرى الجدل والتوتّر إزاءها. وهو جدل لا يخلو، عادةً، من ادّعاءات ومقاربات تتجاوز ما يُظهره من نقاش فنّيّ للونٍ غنائيّ بعينه؛ إذ يُبطن توجّهات ومنطلقات أعمق تتعلّق بقراءة الفنّ الشعبيّ والتراث والذائقة الجماهيريّة، وهي توجّهات ومنطلقات تستلزم التعمّق والنقد معًا.
اللافت للنظر أنّ الغزوة الأخيرة ضدّ الدحيّة، لم تنحصر فقط في محاولات ربط انتشار قيم العنف بانتشار ما اصطُلح عليه "دحيّة السلاح"، وترديد الشباب "طُخّه واكسر مُخّه" مع معين الأعسم، أو في نقد هذه الأغاني حصرًا، بل إنّ النقاش المجتمعيّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ قد امتدّ إلى درجة ألمح فيها البعض إلى مسؤوليّة أو مساهمة الدحيّة في انتشار موبقات كالعنف في المجتمع والتحريض على استخدام الأسلحة. فضلًا عن تطرّف آخرين، نزعوا الدحيّة تمامًا عن نوع الفنّ الشعبيّ، معتبرين أنّها دخيلة على التراث والفلكلور الفلسطينيّ.
النقاش المجتمعيّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ قد امتدّ إلى درجة ألمح فيها البعض إلى مسؤوليّة أو مساهمة الدحيّة في انتشار موبقات كالعنف في المجتمع والتحريض على استخدام الأسلحة
ربّما جاءت الموجة الأخيرة إثر نشر المخرجة سهى عرّاف مقالتين تناولتا نقدًا للدحيّة، إلّا أنّ هذه السطور لا ترمي إلى مناقشتهما حصرًا، بل إلى التطرّق بنيويًّا إلى مجمل النقد والأصوات الّتي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وهي عمومًا بدأت قبل ذلك بسنوات".
عادةً، يقع نقد الدحيّة في سلسلة من المطبّات والتناقضات بين الاعتماد على مجموعة منتقاة من الأغاني الّتي تحمل مضمونًا سيّئًا، علمًا أنّها تتعرّض لانتقادات واسعة في مجتمعات الدحيّة الأصيلة، مثل النقب في فسطين، لذا لا يمكن جعل هذه الأغاني مقياسًا حصريًّا لتقييم الدحيّة وتطوّرها، مرورًا بمحاولات هندسة التراث والفلكلور الفلسطينيّ وإعادة كتابته بصورة منتقاة لتُلائم طرحنا الفكريّ، وصولًا إلى طغيان منطلق "التهذيب المجتمعيّ" وتوجّهه، والوصاية على الفنّ الشعبيّ والذائقة؛ وهذا ما ستحاول هذه المادّة تبيانه.
مزاجيّة النقد
كثيرون من ناقدي الدحيّة يموضعونها في ثنائيّة تضادّيّة مع الزجل والحِداية الفلسطينيّة؛ فتقرأ بين سطور النقد وصمًا للدحيّة بالنشاز، وبتمجيد ثقافة العنف في مقابل الزجل والحِداية، اللذين يملؤهما الغزل والتغنّي بالجمال والأخلاق والوطنيّة.
يقع هذا النقد في خطأين بنيويَّين، أوّلهما قصور في فهم الأبعاد المادّيّة- الاجتماعيّة والفنّيّة لتطوّر الدحيّة، حتّى وصلت إلى صيغتها الحاليّة، ثانيهما إعادة كتابة التراث الغنائيّ الشعبيّ الفلسطينيّ وأعراسه بصورة انتقائيّة، فيُنسب إليه ما يدعم ادّعاء المنتقدين ويُسلخ عنه ما يفنّده. ضمن هذا الخطاب يُبنى "تاريخ الدحيّة" بصورة مبتورة؛ فتُحصَر الدحيّة بـ "دحيّة السلاح" مثلًا، بينما تُغفَل الأنواع والثيمات الأخرى. بعيدًا عن أصل الدحيّة القديم، تُشير مصادر عدّة إلى أنّ قوامة الدحيّة نظم الشعر المعروف بـ "الهجين"، وقد كان التغزّل بالطبيعة أحد ألوانها الأساسيّة، كمناجاة الجمل والإبل، ما تطوّر لاحقًا إلى "الهجين الصحراويّ"، إضافة إلى "الهجين الغزليّ" حول الحبّ والفراق، فضلًا عن محاكاة الاغتراب الذاتيّ لتطوّر الحياة البدويّة. برز في هذه الألوان كثيرون من مؤدّي الدحيّة اليوم، مثل أمير أبو عابود الّذي ينظّم الدحيّة بهجين "تلعب في قلبي وأطيعك"، ويوسف الصرايعة، وغيرهما.
رصد سريع حتّى للدحيّة المقدّمة من سالم ومعين الأعسم، تبيّن مدى انتشار دحيّة حاكت هواجس سياسيّة، كدحيّة غزّة أثناء العدوان الإسرائيليّ عام 2014
لا يحتاج المرء إلى كثير من التعمّق لتبيان قصور الرؤية الّتي تحصر الدحيّة بثيمة تمجّد العنف، في مقابل الزجل والحِداية اللّذين اشتبكا بثيمات السياسة والمقاومة. رصد سريع حتّى للدحيّة المقدّمة من سالم ومعين الأعسم، تبيّن مدى انتشار دحيّة حاكت هواجس سياسيّة، كدحيّة غزّة أثناء العدوان الإسرائيليّ عام 2014، الّتي قالا فيها: "العب يا فرد القرناسة... الليلة ندحّي سياسة". وإن كان الإيقاع لا يسحر ذائقة البعض الفنّيّة، فليس ذلك مبرّرًا لبتر هذه الإنتاجات وتجاهلها، بصرف النظر عن ذائقتنا الشخصيّة أو مدى "عمقها". وفي هذا المضمار، يُذكر أنّ سالم الأعسم سُجن ثلاثة أشهر بسبب تلك الدحيّة.
ليوسف الصرايعة دحيّة "عالخطّ الصحراوي"، ينتقد من خلالها ظاهرة التجنيد لدى الشباب البدويّ قائلًا: "راحت بلادك وبلادي، والحكم فيد اليهودي، بدونك فالجيش تطوّع، عشان تشيل البارودي".
أبعاد مادّيّة - اجتماعيّة لتطوّر الدحيّة في عصرنا
كانت السنوات الخمس عشرة الأخيرة علامة فارقة في مشوار الدحيّة، حتّى إنّ الدحيّة الحديثة/ العصريّة باتت محطّ نقد ونفور من أوساط عدّة في النقب. يستلزم تقفّي أثر هذا التطوّر حَفرًا رشيقًا في أبعاد اجتماعيّة وفنّيّة رافقت هذه العمليّة، وأدّت إلى الدفع في اتّجاهها.
على المستوى الفنّيّ، كان لإدخال الموسيقى الحديثة الإلكترونيّة وآلة الأورغ دور في تسارع انتشار الدحيّة وتطوّرها منذ عشر سنوات، بعد أن كانت الأدوات المستعملة تقليديًّا هي الربابة والسمسميّة، وأحيانًا جرن القهوة، وقد أدّت فرقة "نجوم التراث البدويّ" ليوسف الصرايعة وسالم الأعسم دورًا بارزًا في ذلك.
أدّى استحداث الآلات الإلكترونيّة، خاصّة بين 2013 و2014، إلى تغيير جذريّ في الدحيّة؛ فباتت تعتمد على الإيقاع والحركة أكثر من الكلمة والنصّ، وهو ما حدث للحِداية والمحاورات الزجليّة كذلك منذ بداية هذه الألفيّة، ونرى ذلك مثلًا لدى موسى حافظ وأبو بسّام جلماوي. أسهمت هذه العصرنة في توسيع رقعة انتشار الدحيّة ومناليّتها للأذن الشابّة، لتجد طريقها إلى خارج حدود الأعراس البدويّة في النقب وغيرها، وتُدمج بسرعة في الأعراس والمناسبات وسط وشمال فلسطين.
وكان دخول موسى الحافظ، وهو من أشهر مغنّي الزجل والحِداية، ودمجه الدحيّة، إعلانًا للاختراق الأبرز للدحيّة في العرس العربيّ التقليديّ
أدّى هذا الانتشار إلى انكشاف جمهور جديد على الدحيّة، وبالتزامن معه ظهرت محاولات من قِبَل فنّانين من غير النقب، لإضفاء تغييرات ما على الدحيّة، على مستوى ترقيق/ تخفيف الكلام واللهجة أوّلًا، لتبدو أكثر سلاسة لهذا الجمهور، كما جاءت مثلًا على يد شادي البيروني وقاسم النجّار، وعلى مستوى الإيقاع، من خلال دمج آلة اليرغول مع الدحيّة من قِبَل البعض، أبرزهم أشرف أبو ليل.
رافق هذا الدمج منذ بدايات 2016 في إيقاع الدحيّة، دخول معظم مغنّي الحِداية عالم الدحيّة، كعصام عمر ورفعت أسدي وغيرهما، والملاحظ إحياء كثير من هؤلاء أعراسًا ومناسبات مشتركة مع سالم ومعين الأعسم، وهو تطوّر يترافق مع تعميق العلاقة بين النقب وسائر فلسطين في مجالات اجتماعيّة وسياسيّة أخرى، ويدلّ عليها.
مهّدت كلّ تلك المتغيّرات الإيقاعيّة إلى التطوّر الأبرز للدحيّة العصريّة شماليّ فلسطين، وهو تطوير شادي البيروني وقاسم النجّار في دحيّة "يا ستّي"، لتحتلّ "هو هو هو" عالم الدحيّة العصريّ. وكان دخول موسى الحافظ، وهو من أشهر مغنّي الزجل والحِداية، ودمجه الدحيّة، إعلانًا للاختراق الأبرز للدحيّة في العرس العربيّ التقليديّ، وكان أبرز أغانيه في هذا الجانب "وسمعت صوت البارود".
من هذا المنظور يتبدّى لنا أنّ الدحيّة وتطوّرها الأخير لم تكن وليدة النقب حصرًا، بقدر ما هي الانشباك والتفاعل الطبيعيّ بين اللون الغنائيّ من جهة، وانكشاف جمهور جديد عليها على المستوى الاجتماعيّ من جهة أخرى؛ أي أنّ نسب "دحيّة السلاح" إلى النقب، وحصريًّا إلى الدحيّة، فيه جفاء للواقع، كما قال لي أحد الأصدقاء من النقب في حديث معه: "أنتم أهل الشمال اللّي دخّلتم التوسترون للدحيّة بالرقص والسلاح".
وربّما كان ما يتعرّض له أهل النقب من تغييرات اجتماعيّة - مادّيّة، على صعيد فرض التمدين السكنيّ القسريّ عليهم، يعيد معه هاجس الجيل الشابّ بإعادة تقديم تراثه وفنونه الشعبيّة
ربّما ليس هذا التحديث وسياقه شاذًّا عن تحديثات تاريخيّة للفنون الشعبيّة، وإخراجها من دائرة الفلكلور، إلّا أنّ ذلك يحتاج إلى بحث أكثر عمقًا، وعادةً تترافق هذه "العصرنة" مع تغييرات سوسيولوجيّة تضرب عميقًا في المجتمع، وربّما كان ما يتعرّض له أهل النقب من تغييرات اجتماعيّة - مادّيّة، على صعيد فرض التمدين السكنيّ القسريّ عليهم، يعيد معه هاجس الجيل الشابّ بإعادة تقديم تراثه وفنونه الشعبيّة، بصفتها جزءًا من مقاومة حالة الاغتراب الّتي ينتجها هذا التمدين الّذي يأتيهم من الأعلى سلطويًّا، وليس قاعديًّا من الأسفل.
عادةً، تستدعي حالة الاغتراب في المهجر لدى الشباب، إحالتهم إلى إعادة تقديم تراثهم تعبيرًا عن مواجهة هذه الحالة؛ وهي بذلك تذكّر بإعادة تقديم موسيقى الراي على يد الشباب الجزائريّ خالد وماما حسني، وغيرهما، بعد أن كانت محصورة في وهران وتلمسان في الجزائر. وكذلك "الموسيقى الريفيّة" في الولايات المتّحدة في العشرينات والثلاثينات، وجميع هذه الألوان هوجمت منذ البداية.
مَنْ يملك كتابة التراث و"الزمن الجميل" المتخيّل؟
عودة إلى هندسة التراث، من الأمور اللافتة في الجدل الأخير حول الدحيّة، إضافة إلى حصرها وبنائها في إطار "تمجيد العنف والنشاز"، يكمن في هندسة مقابلة متخيّلة للفنّ الشعبيّ والزجل، باعتباره "الزمن الجميل" بالمطلق، زمن نوستالجيّ نقف على أطلاله اليوم؛ إذ يفصَّل هذا الزمن بلغة تبسيطيّة على اعتباره زمنًا جميلًا خالصًا بالمطلق. تشبه هذه الحركة الذهنيّة لهندسة التراث، عمل الجرّاح الّذي يقبض على مبضعه، فيشرط ما لا يتراءى مع رؤياه عن هذا "الزمن الجميل"، ويثبّت ما يتوافق معه. وفي نقاش الدحيّة حصرًا، نرسم ماضيًا غنّت ورقصت فيه الصبايا إلى جانب الشباب، وتبادلوا الجعّة وكأس العرق معًا في القرية الفلسطينيّة المفقودة.
تُعيد هذه النزعة الحداثويّة كتابة الزمن بما نريد أن نتخيّله عنه بأثر رجعيّ، لا بما احتوى من تناقضات وصراع؛ إذ يسلخ - أو يتناسى - "جرّاحو التراث" أنّ ذات "الزمن الجميل"، شمل في جوانب أخرى قهرًا للنساء واعتدادًا بالحمائليّة وتمجيدًا للثأر
لا تخلو هذه الرؤية من نزعة حداثويّة تبسيطيّة لمفهومَي "التقدّم" و"التأخّر" المجتمعيَّين؛ إذ لا تشكّل هذه المشاهد المذكورة معيارًا حصريًّا، نقيس عليه تقدّميّة مجتمع ما أو رجعيّته، وهي مشاهد لم تألفها كلّ القرى الفلسطينيّة على أيّ حال، ومعظم الأعراس العربيّة التقليديّة اليوم الّتي تقوم على الزجل والمحاورات والحِداية، يُفصَل بها الرجال عن النساء، فضلًا عن أنّ ادّعاء إقصاء النساء من الدحيّة بالمطلق، يستلزم هو الآخر مساءلة، فمن المعروف أنّ النساء أيضًا يمارسن الدحيّة والبدع في العرس النقباويّ بشكل منفصل.
من هذا المنظور، تُعيد هذه النزعة الحداثويّة كتابة الزمن بما نريد أن نتخيّله عنه بأثر رجعيّ، لا بما احتوى من تناقضات وصراع؛ إذ يسلخ - أو يتناسى - "جرّاحو التراث" أنّ ذات "الزمن الجميل"، شمل في جوانب أخرى قهرًا للنساء واعتدادًا بالحمائليّة وتمجيدًا للثأر، وكلّ ذلك لاقى تعبيراته في الفنّ والحكاية الشعبيّة.
وإن كنّا أردنا محاكمة الدحيّة بصورة جوهريّة بحتة - أي بتقييم رأينا الفكريّ في كلّ كلمة وجملة تقال - فلماذا لا ينسحب هذا المنطق على أهازيجنا الفلسطينيّة في "طلعة العروس" وطقس استقبالها في بيت أهل الزوج مثلًا؟ حيث تزغرد النسوة "عروس لا تعبسي/ عروسك أحلى وأحلى/ سالفك هالرومي تحت شاربو هالأشقر"، فضلًا عن تحقير ذوي البشرة الداكنة، وتمجيد زواج الأقارب وذمّ زواج غير الأقارب، "وشو عماكم عن ابن الخال والعمّ"، وغيرها. وإذا كانت مقصلة الحكم الأخلاقيّ تُنصب للدحيّة، فلماذا تتمنّع إذن إزاء هذه الإنتاجات؟
لا تخضع هذه الأهازيج لعمليّة القطع القيميّ من مباضع جرّاحي التراث، كما تخضع أغاني الدحيّة اليوم، بل إنّنا نقيم لها الأمسيات ونملؤها جمهورًا احتفاءً بها؛ وللتوضيح فليس في هذه السطور ما يدعو إلى التوقّف عن ذلك، أو إسقاط هذه الأهازيج من أعراسنا أو محاكمتها قيميًّا؛ فهي أغانٍ ما زلنا نردّدها ونحبّها، إنّما هي محاولة لتبيان خطأ التورّط في إخضاع الفنّ لمقاصل قيميّة (بالمفهوم المثاليّ)، أو ما بات يُطلق عليه "الصوابيّة السياسيّة" (Political Correctness)، الّتي تفتّش في كلّ كلمة تقال في أغنية لتحدّد موقفًا من جمهورها.
الزمن خطوط متناقضة من القبح والجمال معًا، والخير والشرّ، والعدالة والظلم، والأبويّة والنسويّة، كلّها خطوط قد تسير معًا، أمّا ما نفعله بتفصيل "الزمن الجميل" فليس سوى اقتطاع ما لا يلائمه من ذاكرتنا
تحمل هذه الرؤية منطلقًا اختزاليًّا أعمق، يطوِّع الماضي والتراث، ويجعله أسير النوستالجيا. ضمن هذه العمليّة يجري تشييء للماضي وتشييء القرية والفلكلور؛ أي لا نحاكمهما بوصفهما نصًّا أو جوهرًا، بل بوصفهما شيئًا صنميًّا، وأداة وأعمدة نبني عليها قصور زمننا القرويّ المتخيّل. ربّما كان نصّ وليد سيف في "التغريبة الفلسطينيّة" التعبير الأبرز لنقد هذه الرؤية المتخيّلة للقرية والريف، بوصفه جنّة الفلّاح في حين أنّ هذا الأخير قُهر تحت سياط الإقطاع الداخليّ والاستعمار معًا.
ليس ثمّة زمن جميل وقبيح في المطلق، الزمن لا يحمل بُعدًا قيميًّا في حدّ ذاته، لا يسير بالضرورة إلى الأسوأ، ولا يسير بالضرورة إلى الأفضل، كما يوضّح والتر بنيامين في نقده الفذّ لمفهومَي التاريخ والزمن. الزمن خطوط متناقضة من القبح والجمال معًا، والخير والشرّ، والعدالة والظلم، والأبويّة والنسويّة، كلّها خطوط قد تسير معًا، أمّا ما نفعله بتفصيل "الزمن الجميل" فليس سوى اقتطاع ما لا يلائمه من ذاكرتنا، أو ما لم يتبقّ ناشطًا فيها؛ فالقبيح يسقط من ذائقة الناس الجمعيّة بفعل الزمن، فلا يبقى من الإبداع إلّا ما استطاع اختراق الزمن، فنتخيّل أنّ الزمن كلّه كان جميلًا.
لم يخلُ أيّ "زمن جميل" من القبح والرداءة على المستوى الفنّيّ، فحتّى ذلك الزمن الّذي نخاله كلّه جميلًا، الّذي أبدعت فيه أمّ كلثوم أكثر القصائد جمالًا، هو ذاته الّذي غنّت فيه سلطانة الطرب منيرة المهديّة "الخلاعة والدلاعة مذهبي"، وهي طقطوقة أعادت أمّ كلثوم غناءها، بشحمها ولحمها وصوتها، بصرف النظر عن ندمها على ذلك في ما بعد، وهو أمر آخر يحتاج إلى مساحة أخرى من التفصيل.
التهذيب المجتمعيّ والصوابيّة السياسيّة
تتعرّض ألوان جديدة من الفنّ الشعبيّ تحديدًا لتوجّه حداثويّ يحتكر وصاية "التهذيب المجتمعيّ" عليه، وهي ليست ظاهرة حصريّة لمجتمعنا؛ فقد انتشرت وما زالت تنتشر في العالم كلّه. يطلق البعض على هذه النزعة ما يُعرف بـ "الصوابيّة السياسيّة" (political Correctness)، وعادة ما يُوصَم الكثير من الفنون الشعبيّة بالرداءة والغرائزيّة والتبسيطيّة في طرح الموضوع، مقابل الفنون العميقة الراقية، تمامًا كما يجري في تقييم الدحيّة.
يعيب كثيرون من نقّاد الدحيّة أنّ الشباب يبدو مسيَّرًا وفاقدًا للسيطرة وهو يتفاعل مع كلمات الدحيّة على الرغم من أنّه لا يفهمها، لكن إن أردنا نصب هذه المقصلة للدحيّة أو لجمهورها، فلماذا لا تنسحب على فنون أخرى؟
في سياق شبيه، يمكن قراءة النقد الفنّيّ لِما بات يُعرف بـ "موسيقى المهرجانات" أو "التكنو - شعبيّ" في مصر، وقد انتشر بصورة سريعة بعد أحداث الثورة المصريّة، مترافقًا مع محاولات سكّان الأحياء الشعبيّة إحداث تغييرات في نمط الأفراح الشعبيّة، كما عبّر عنه فيلم "الفرح" (2009) لسامح عبد العزيز، ليجد طريقه السريعة بعدها إلى قلب "المينستريم" المصريّ، وعندما حدث هذا الاختراق، تعرّضت هذه الظاهرة إلى موجات شديدة من السخط، وسُلّطت سياط النقابات الرقابيّة عليها، وصل حدّ التجريم والمنع لمهرجانات حمو بيكا ومجدي شطّة وغيرهما، تحت شعارات مثل "منع الفاحشة" و"تلويث الذائقة الفنّيّة للجمهور".
عالميًّا وفي سياق آخر، كان قد انتشر مثلًا في الولايات المتّحدة في الثلاثينات ما يُسمّى بموسيقى "البيلي هيل" والموسيقى "الريفيّة" في أوساط عمّال ومزارعين بيض، مترافقة مع انتشار "البلوز" لدى السود، وقد هوجم جميعها في البداية أيضًا. على الرغم من ذلك، أحدثت هذه الموسيقى تغييرًا كبيرًا في موسيقى الروك لاحقًا، ثمّ إنّ موسيقى الهيب هوب الّتي انتشرت بعد ذلك تعرّضت لنقد شديد أيضًا، بسبب ما رآه البعض تمجيدًا للعنف.
يعيب كثيرون من نقّاد الدحيّة أنّ الشباب يبدو مسيَّرًا وفاقدًا للسيطرة وهو يتفاعل مع كلمات الدحيّة على الرغم من أنّه لا يفهمها، لكن إن أردنا نصب هذه المقصلة للدحيّة أو لجمهورها، فلماذا لا تنسحب على فنون أخرى؟ من منّا لم تتراقص أطراف جسده على أغنية "دي دي" للشابّ خالد رغم عدم استطاعتنا آنذاك استيعابها باستثناء "دي دي واه"؟ وكيف ردّد معظم جيل التسعينات والثمانينات "لولاكي"، وهو ربّما لم يلتقط منها سوى "لولاكي لولا لولا، لولاكي ما حبّيت"؟ وكم منّا رقص طربًا لمدّة ربع ساعة وأكثر، وهو يردّد عبارة واحدة "أواوّا وّا واه" لأغنية ملحم بركات الجميلة؟ فاتّهام مردّدي الدحيّة بأنّهم "يوهوهون" كالقطط مع "هو هو هو"، يذكّرني باتّهامنا "بالنباح" آنذاك. إنّ منطق النقد هذا يُظهر عطبًا بنيويًّا؛ إذ إنّه يخلط بين الذائقة الشخصيّة وما يدّعيه تقييمًا موضوعيًّا، رغم أنّ أدواته انتقائيّة ومبتورة.
عالميًّا وفي سياق آخر، كان قد انتشر مثلًا في الولايات المتّحدة في الثلاثينات ما يُسمّى بموسيقى "البيلي هيل" والموسيقى "الريفيّة" في أوساط عمّال ومزارعين بيض، مترافقة مع انتشار "البلوز" لدى السود، وقد هوجم جميعها في البداية
الفصل بين الجوهر والذائقة
إذا كان انتقاد إنتاجات فنّيّة بعينها كونها إلى التعنيف، مبرّرًا ومطلوبًا أحيانًا، فإنّ سحبها على لون غنائيّ كامل بصورة تعميميّة لا يستقيم، وسيكون متحاملًا إذا وصل حدّ الخلط بين جوهر الأغنية وسلوك متذوّقيها؛ إذ تقرأ بين سطور بعض المنتقدين محاولة نصب مشنقة للدحيّة، بسبب ما يعتبرونه "مساهمتها" في نشر العنف والجريمة، وهي ظواهر ينتجها واقع مادّيّ – اجتماعيّ – سياسيّ، ولا يمكن في أيّ حال من الأحوال إيعازها إلى فنّ بعينه ولو تلميحًا، وهو تحميل للفنّ مسؤوليّات أكثر ممّا يحتمله؛ فهو ليس مُصلحًا اجتماعيًّا (بالمفهوم المثاليّ).
إنّ الربط بين أغانٍ تمجّد العنف وبين سلوك عنيف محتمل لمتذوّقه، يفترض الاستنتاج المعاكس أيضًا؛ أي توقّع سلوك راقٍ بالضرورة لمتذوّقي "الفنّ الراقي" - بتقييم البعض -، وهذا يعبّر بالضرورة عن مأزق بنيويّ آخر، وهو الربط بين الجماليّات والأخلاق، ربط يسقط أمام امتحان الحقيقة؛ إذ عُرف عن كبار مجرمي الحرب حبّهم للموسيقى الكلاسيكيّة الراقية، لقد كان فاغنر من أحبّ الموسيقيّين إلى هتلر، وقد عُرف عن فاغنر نفسه كراهيّته لليهود ولاساميّته.
تحت مظلّة مشابهة، تتعرّض أعمال عديدة للهيب هوب في ألمانيا مثلًا إلى نقد مشابه؛ إذ ترى سلطات الرقابة أنّها تشكّل خطرًا على الشباب، لتمجيدها العنف في أغانيها، مثل فرقة "أغرو"، وقد حظرت قسمًا منها. وتتعرّض موسيقى "الديث ميثال" و"البلاك ميثال" أيضًا إلى نقد مشابه في بلاد أخرى، وهما لونان موسيقيّان يُعتبران من أشدّ الموسيقى سوداويّة وتأثّرًا بالعدميّة، ويرى البعض أنّها تنشر كلمات عنيفة تمجّد الموت، وتتغزّل بالساديّة والمازوشيّة، تصاحبها آلات صاخبة.
رغم ذلك، تنفي أبحاث أكاديميّة حديثة هذا الاعتقاد تمامًا؛ فقد أجرى مختبر الموسيقى في "جامعة ماكواري" بحثًا أظهر أنّ الاستماع لمثل هذه الألوان، كموسيقى فرقة "بلودباث"، لا يدفع جماهيرها إلى اعتناق أفكار عنيفة، بل تدعوهم إلى الفرح، فضلًا عن أنّ هذا النوع من الموسيقى بخاصّة، ينتشر بكثافة بين الشباب في مناطق شمال أوروبّا، وفي بلدان تتربّع على قائمة "البلدان الأكثر رفاهية في العالم".
أجرى مختبر الموسيقى في "جامعة ماكواري" بحثًا أظهر أنّ الاستماع لمثل هذه الألوان، كموسيقى فرقة "بلودباث"، لا يدفع جماهيرها إلى اعتناق أفكار عنيفة، بل تدعوهم إلى الفرح.
قد تحيلنا هذه المقاربات إلى تحذير نيتشه اللافت من فكرة "تصنيم الأخلاق"، من خلال بناء "الثقافة العليا" وتأسيس قواعد "التهذيب المجتمعيّ"، كسياط تجلد التعبير الغرائزيّ الطبيعيّ والإنسانيّ عن توتّراته وتناقضاته، الّذي يتشابك وينجدل مع المتلقّي والجمهور في صراع ومحاورة، ليبقى منه مع الزمن ما هو أكثر جمالًا.
يتحوّل هذا التهذيب إلى محاكمة أخلاقويّة، ربّما تبدأ بما نحسبه نحن غير أخلاقيّ، لكنّ الخيط عادةً يفلت من قبضتنا وينسحب، ليشمل أعمالًا أخرى قد يراها الآخرون أيضًا لاأخلاقيّة، كما حدث في حالات اعترض عليها منتقدو الدحيّة أنفسهم، رغم اختلاف السياق ومنطلقات المطلب وجوهره. ربّما كان تعبير كروتشيه بالغًا في التحذير من ربط الجماليّات بالأخلاق بمفهومها المثاليّ الكانطيانيّ، في قوله "يكفي الفنّ أنّه وسيط رائع للارتفاع بمستوى الإحساس... لكنّه عمل إبداعيّ، لاأخلاقيّ قبل ذلك وبعده".
ليس بين هذه السطور ما يرمي بالضرورة إلى إطلاق دعوة مجّانيّة ومناشدة عامّة للوقوع في غرام الدحيّة أو العكس، أو دفاعًا عن أغنية تتغزّل بالجريمة، بل هي دعوة إلى التعمّق في تركيب الظواهر الاجتماعيّة أوّلًا، وتحرير الفنّ من أغلال "سحر" الوصاية بينه والجمهور ثانيًا، والتحرّر من مزاجيّة النقد الحداثويّ ثالثًا، حيث لا بدّ له من أن يقع في شراك الانتقائيّة. والأهمّ أن نجعل المسافة بين الناس والفنّ وتقييم الأخير، متحرّرة من التعميمات والتعليبات.

*خالد عنبتاوي..طالب دكتوراه في "معهد جنيف - قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا". باحث في مركز "مدار"، كما عمل في مركز الدراسات "مدى الكرمل"، وهو ناشط سياسيّ واجتماعيّ. نشر عدّة موادّ سياسيّة في مجلّة "جدل" ومجلّة "قضايا إسرائيليّة"، وكذلك موادّ ثقافيّة في منابر أخرى. صدرت له مؤخّرًا دراسة حول "الحكم العسكريّ في الضفّة الغربيّة" عن مركز "مدار"

المصدر : عرب48

www.deyaralnagab.com