logo
قرية العراقيب تروي قصة النقب الصامد!!
بقلم : سفيان بنحسن ... 24.04.2017

ينسب لحاييم وايزمان أول رئيس للكيان الصهيوني قوله "إن العربي ليس إبن الصحراء كما يردد الجميع، بل هو أبو الصحراء وصانعها، فبكسله وتواكله يحوّل الواحات الخضراء إلى صحار قاحلة" وقد جاء رده هذا على سؤال للسفير السوفياتي إيفان مايسكي في أربعينات القرن الماضي حول كيفية تهيئة فلسطين لتتسع لشعبين إثنين وتوطين أربعة أو خمسية ملايين يهودي من شتى أنحاء المعمورة في أرض يقطنها زهاء من مليوني عربي، فأشار بأسلوبه العنصري البغيض إلى أن الأرض قد تتسع لأضعاف عدد سكانها إن وجدت من يصلحها، لكن التاريخ القصير للدولة العبرية أثبت بالدليل القاطع أن وايزمان قد كذب مرتين في إجابته تلك، كذب في إخفائه للمخطط الصهيوني القاضي بتشريد السكان الأصليين وإستبدالهم بالقادمين من وراء البحار وكذب بإدعائه أن الأكشيناز والسيفادريم سيصلحون الأرض والحال أن فلسطين، أو صحراءها على وجه الدقة، حافظت على خصائصها الأولى بل إن ما تم تجريفه من أراض كانت صالحة للزراعة أكبر بكثير مما تم تهيئته وأن ما تم إقتلاعه من أشجار الزيتون أكثر مما تم زراعته في الأراضي المغتصبة.
إقليم النقب هو تلك الأرض الممتدة جنوب فلسطين من بئر السبع إلى حدود العقبة الأردنية أي أن مساحته تقارب نصف مساحة فلسطين التاريخية، ناله ما نال كل المدن والقرى من تهجير وهدم وتقتيل ورغم انقضاض بني صهيون على المدن الساحلية والشمالية لفلسطين في بداية حملاتهم الإستعمارية إلا أن نصيب مدن النقب وقراه من المجازر كان عظيما وتكفي هنا الإشارة بإيجاز لما ورد في شهادة أحد الصحفيين الصهاينة "دافيد لانداو" بأن مجرم الحرب شارون قد قام بتصفية العشرات من سكان قرى النقب بتعلة إخلاء الأرض وتحويلها إلى معسكر للتدريب إذ تم تشريد أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني سنة 1972 في الصحراء النائية بناءا على أوامر مباشرة من شارون الذي كان آنذاك قائدا للمنطقة الجنوبية، واليوم إذا ما إستثنينا بئر السبع وبعض التجمعات التي يستوطنها القادمون من وراء البحار فإن عددا كبيرا من السكان العرب قد إستقروا في الصحراء وشيدوا المدن والقرى البدائية من دون دعم من أي جهة كانت وفي غياب تام لأبسط الخدمات، وتبقى مدينة رهط وإسمها القديم "الهزيل" من كبرى تجمعات البدو في النقب ويعاني أهلها من تجاهل سلطات الإحتلال ومن غياب الدعم العربي لهم حتى بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من ثمانين بالمائة، ورغم الواقع المزري فإن المدينة الصامدة تتميز بأكبر نمو ديمغرافي في العالم مما يجعلها شوكة في حلق الكيان العنصري الصهيوني الذي راهن على تشتت الفلسطينيين وتركهم لأراضيهم، وقد قفز عدد سكان هذه المدينة من تسعة آلاف نسمة سنة 87 إلى أكثر من ثمانين ألفا سنة 2014، ويدرك العدو المنتشي بقوته العسكرية أن عقب أخيله هم السكان الأصليون الذين لم يفرطوا في وطنهم وقبلوا العيش تحت حراب المحتل ولم يتركوا أرضهم رغم سياسات التهجير الممنهجة ورغم مئات قرارات الهدم والتجريف والحرمان من أبسط الإمدادات والخدمات.
السياسة الصهيونية تجاه سكان النقب الصامد تجلت بشكل أوضح في مخطط برافر لسنة 2013 والمنسوب لوزير التخطيط الصهيوني إيهود برافر الذي دعى إلى تجميع سكان النقب أو العرب منهم على وجه الدقة في "بلديات التركيز" أي فقط في واحد بالمائة من مساحة الإقليم وتدمير عشرات القرى غير المعترف بها، وإن تراجع الكيان الصهيوني عن مشروعه هذا بعد الإدانة الدولية وضغوط سكان الخط الأخضر والإتهامات له بالتمييز الديني والإثني إلا أن ما ينتهجه الكيان اليوم يثبت أن تراجعه مناورة سياسية تهدف للحد من درجة الإنتقاد وأنه سائر في مشروع تهجير السكان الأصليين وفي إستنساخ تجربة نكبة 48 التي سمحت له بتثبيت نفسه كدولة يهودية عنصرية في المنطقة. لكن يبدو أن التاريخ يرفض هذه المرة أن يكرر نفسه، فبدو النقب قد حفظوا عبر الماضي واتعظوا من دروس سكان حيفا ويافا وغيرها من المدن التي خلت من أهلها إبان حرب 48، فعضوا على أرضهم بالنواجذ وإختاروا البقاء فيها رغم إنعدام كل أسباب الحياة الطبيعية ورغم غياب أبسط الخدمات ورغم التهديد الوجودي الدائم من قوى الإحتلال، وفي تحد لقرارات الهدم المنبثقة عن مخطط برافر أقدم سكان النقب على إعادة بناء كل وحدة تتم إزالتها من الوجود.
ربما لن تكفي هذه الأسطر للمرور على كل القرى المنكوبة في النقب الصامد المقاوم، لكننا نضرب مثلا قرية العراقيب التي هدمها الإحتلال أكثر من مائة مرة في السنوات الست الأخيرة، وفي كل مرة ترفض القرية أن تموت ويعيد أهلها بناءها من جديد لتنبعث إلى الحياة من تحت الركام كطائر العنقاء الأسطوري الذي يخرج من الرماد بعد الإحتراق، ويوجه أهلها الصامدون إلى الأنفس المستسلمة رسالة مفادها أن للمقاومة وجوه عدة وأن أشدها على المحتل هو الثبات على الأرض والموت دونها والبقاء فيها ما بقي الزعتر والزيتون، ومن المضحكات المبكيات في قصة العراقيب أن الكيان يطالب سكانها اليوم بدفع ما يقارب 2 مليون شيقل مقابل مصاريف الهدم (وللإشارة هنا فإن إسم العملة العبرية مسروق هو الآخر من عملة عراقية قديمة كانت مستخدمة منذ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد) وببقاء النقب عربيا رغم الترويع ورغم القوانين العنصرية والغرامات الباهضة ورغم محاولات تجريف الأرض وجعلها غير قابلة للحياة فإن دولة فلسطين الحرة ستعود إلى الحياة وسيدخل الكيان الصهويني التاريخ كدولة عابرة مرت من هذه الأرض وإبتلعتها رمالها الثائرة.
العراقيب قصة أسطورية سيخلدها التاريخ كقرية في قلب الصحراء ترفض أن تزول وتخرج من تحت الركام أقوى وأشد مما كانت عليه، وللعراقيب أخوات في المأساة والصمود مثل "أبو تلول" و"تل عراد" التي يزيد عمرها عن أربعة آلاف عام أي أكثر بخمسين ضعفا من عمر كيان الإحتلال، ورسالة العراقيب إلى العرب وإلى السلطة الفلسطينية أن لا حل لمشكلة الإحتلال من دون ضم النقب للدولة الفلسطينية وأن التنازل عن هذه الأرض للعدو هو بمثابة التخلي عن أهلنا في هذه الصحراء وتركهم فريسة التصفية العرقية التي يتقنها العدو ويحترفها منذ يوم إنبعاث كيانه إلى الحياة.

*تونس

www.deyaralnagab.com