logo
1 2 3 41121
محمية وادي دجلة ملاذ سكان القاهرة من ضغوط المدينة !!
19.09.2019

القاهرة – كتبت رحاب عليوة...يحتاج سكان القاهرة إلى سفر يتجاوز نصف اليوم للوصول إلى مثلث حلايب وشلاتين وأبورماد الحدودي مع السودان، وإلى 25 بالمئة من هذا الوقت للسفر شرقاً في اتجاه شبه جزيرة سيناء، للاطلاع على الحياة البدوية البسيطة، الخالية من التعقيدات الحضرية والحياة المعلبة.
اقتصر في السابق، الانخراط في جو القبيلة على قلة تستطيع تحمل رفاهيته المادية والوقتية، قبل أن تنجح وزارة البيئة في فتح نافذة لا يتطلب الولوج فيها سوى قطع نحو 35 كيلومترا جنوب القاهرة، حيث محمية وادي دجلة في منطقة المعادي.
استضافت المحمية على مدار 3 أيام في الفترة بين 22 إلى 24 أغسطس المنصرم، أول مهرجان تحت اسم “الطبيعة والثقافات المحلية”، لنقل ثقافة البدو المرتبط تواجدهم في الواحات بالصحراء الغربية والمحميات الطبيعية إلى القاهرة.
تمتد محمية وادي دجلة على مسافة 60 كيلومترا، وتضم عددا من النباتات النادرة والزواحف المهددة بالانقراض والطيور.
تعجبت آلاء محمد (27 عاماً) حينما رأت صوراً لصديقتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” في منطقة صحراوية، وسط خيام بدوية، مصحوبة بموقع يشير إلى الحي السكني المكتظ (المعادي). تجهل غالبية سكان القاهرة وجود محمية طبيعية في المنطقة الجنوبية، يمكن عبرها خوض مغامرة في دروب الصحراء، دون تحمل عبء سفر لساعات طويلة، وبسعر زهيد 3 جنيهات (نحو 18 سنتا) للمصريين و5 جنيهات (نحو 34 سنتا) للأجانب.
يبدأ المتجه إلى محمية “وادي دجلة” في الطريق الرابط بين حي المعادي ومنتجع العين السخنة على البحر الأحمر، في التخلي عن شعور المدينة وضجيجها، بقطع طرق رملية غير ممهدة وصولاً إلى المحمية، وهي عبارة عن مساحات شاسعة من اللون الأصفر، والمنحدرات الجبلية.
خيَم البدو المشاركون في المهرجان عند مدخل المحمية على مسافات متباينة، أولهم من قبيلة العبابدة، وهي واحدة من أكبر القبائل العربية، يمتد قاطنوها من سيناء شرقاً حتى السودان جنوباً، وفرعها في حلايب وشلاتين مثلها في المهرجان.
سيوف العبابدة
يتوسط خيمة العبابدة سيفان متقاطعان في حلتهما. ويشير علاء عبدالهادي، أحد أبناء القبيلة لـ“العرب” إلى أن استخدامهما لا يقتصر على الزينة أو كمعلم تراثي، “لازلنا نستخدم المبارزة بالسيوف والدروع في بعض المنازعات، بحيث تٌقضى بأن يُسقط أحد المتبارزين سيف الآخر”.
قطع عبدالهادي تعجب الملتفين حوله، وأضاف “بعضنا لا يسير سوى والسيف معلق على كتفه”، فرد أحد سكان القاهرة “كما الخنجر لدى القبائل اليمنية”.
إلى الجوار، تمركزت خيمة ممثلة لواحات الفيوم (جنوب غرب القاهرة)، تعرض أعمالا يدوية خشبية ومنسوجات، وتتمركز في منتصفها سيدتان تنحدران من السودان، تنقشان رسومات بالحناء على أيدي الفتيات.
على مسيرة عدة أمتار تقبع خيمة لقبيلة البشارية، وهي إحدى قبائل مثلث حلايب، المتنازع عليه بين مصر والسودان، ويُلاحظ أن البدويات بزيهن المميز المغلف بالسواد، وعلامات مرسومة على وجوههن، تكثرن في تلك الخيمة ما يعكس أدوارهن البارزة، وتظهر نتائجهن في الأعمال اليدوية المتنوعة، بين أدوات منزلية وأخرى للزينة، صنعت غالبية تلك المواد من خام الجلد الطبيعي المستخرج من الغنم.
يُثمن رئيس جمعية عائلات البشارية حسين مرعي حسن في تصريح لـ“العرب”، فكرة إقامة المهرجان كسبيل للتقارب وتناقل الثقافات، قائلا “إن المهرجان كان من الممكن أن يحصد أضعاف حضوره، إذا عقد في فصل الشتاء، لأن موسم المحميات في موطنها يزدهر في ذلك الفصل، حين يُغطي الخضار سلاسل جبال علبة فيضيف إليها روعة الطبيعة”.
وأسهب في الحديث مع الشيخ البدوي الذي رحب بنقل تراثهم إلى القاهرة، وتمنى أن تُنظم حافلات لنقل العامة من نقاط محددة إلى المهرجان، كما يحدث في معرض الكتاب، بحيث تتنوع فئة الزوار، ويحقق أكبر تبادل ثقافي ممكن، مقترحا أن يتحول المهرجان إلى معرض دائم طوال فترة الشتاء.
غالبية سكان القاهرة يجهلون وجود محمية طبيعية في المنطقة الجنوبية يمكن عبرها خوض مغامرة في دروب الصحراء
غلب على زوار المعرض فئة طلبة الجامعات، بتنسيق بين منظمي المهرجان وبعض الجامعات المصرية. ويكتفي هؤلاء الرواد بانبهار بما نُقل إليهم من عادات وطريقة في اللباس والغناء والرقص، دون محاولات للتقصي عما لم يحمله المهرجان من تغيرات طرأت على الحياة البدوية.
يجيب رئيس جمعية البشايرة على تساؤل لـ“العرب” عمّا أحدثته التكنولوجيا في الحياة البدوية، بنبرة تمزج القلق بالترقب، قائلا “أتمنى ألا تحدث تغيرات إضافية، أخذت منا شلاتين بالكامل، حيث عرفت طريقها إلى المدنية وغيرت معالمها واختلطت أنسابها وضمت وافدين من كافة المحافظات، وكل جاء يحمل ثقافته”.
وأضاف، “حلايب لا زالت متمسكة بعاداتها البدوية، لكنها باتت أكثر توثيقاً، وكان الزواج من قبل يتم عبر السُنة أو الإشهار، يجتمع أبناء القبيلة ويعلن شيخها تزويج الشاب والفتاه دون توثيق العملية بأي عقد رسمي”.
وتابع، “الآن الدولة مهتمة جداً بتوثيق كافة المعاملات واستخراج هويات لأهالي المناطق الحدودية، وهذه خطوة تحافظ على حقوق الأهالي في ما بينهم، ولا تنتقص من العادات الأصيلة”.
ويرى البدوي من قبيلة العبابدة علاء عبدالهادي، أثرا أكبر للتكنولوجيا، فحتى إذا لم تكن شبكات الاتصالات والإنترنت جيدة بالدرجة نفسها في واحاتهم، بات لدى الجميع رغم ذلك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً الشباب.
وتراجع إتقان اللهجة البدوية “الرتانة” بين النشء، ولم يعد يتقنها سوى 10 بالمئة منهم تقريباً، وفق تقدير رئيس جمعية البشايرة. واستقبلت القبيلة زوارها في المهرجان بكلمة “ايتنينا” وتعني “أهلاً”.
جذب الطعام البدوي رواد المهرجان أكثر من غيره مع تباهي البدوي به، وترديده في نبرة من الفخر والتحدّي “سنذيقكم خبزا يُدفن بين الرمال فينضج دون أن تصيب فمك حبة رمل واحدة”.
“قبوري” هو الاسم الذي يطلقه أهالي الصحراء على خبزهم الرئيسي، والذي لا يعده سكان القاهرة والمدن الحضرية، ولا يشبه مخبوزاتهم، فبينما يمتاز الخبز القاهري بالرقة، يصل سمك الآخر إلى 5 سنتيمترات.
يعد أهل البدو خبزهم بدقيق وماء، ثم يدفنوه وسط رماد حطب مشتعل، وبعد دقائق يخرجونه وقد نضج، فيزيلون طبقته الخارجية الملاصقة للرماد بحجارة، ليصبح جاهزاً للتناول، ويجتاز البدويون تحديهم.
ويجهزون وجبة أخرى تُدعى “السُلاته”، وهي لحوم مشوية على حجارة معينة جلبوها من واحاتهم، يتم وضع قطع اللحم مباشرة عليها دون إضافات أو عازل.
يجلس شخص أمام الحجارة المشتعلة، يضع قطع اللحم، يقلبها عند نضجها، ثم يخرجها، مستخدماً يديه فقط، دون أن تتأثر بحرارة النيران المشتعلة، فيما تستدعي فعلته نظرات القاهرييّن المتعجبة. ويسمى المشروب الرئيسي “الجَبنة” وهي قهوة عربية ممزوجة بنبات الزنجبيل، ومعدة على حطب.
يعتز البدوي بنظامه الغذائي لاعتماده البساطة وتجنبه المواد المطبوخة، ما ينعكس على صحته ونشاطه. كما نال نظامه إعجاب الطالب إسلام عبدالمنعم، وهو أحد الوافدين على المهرجان.
وقال لـ“العرب”، “حياتهم بسيطة تخلو من التعقيدات، ينامون ويستيقظون باكراً، ويتجنبون الأطعمة السريعة والمقلية التي تترك أسوأ الآثار لدينا نحن سكان العاصمة”. عقب تناول الطعام، وحتى الغروب، تتواصل حلقات الغناء والرقص في واحة وادي دجلة، حيث صنع الوافدون أجواء خاصة. وتعد الموسيقى جزءا أساسيا من وجدان القبائل العربية، يستخدمونها في كافة مناسباتهم، في الزواج والرثاء وجلسات السمر، وتزين خيمهم الآلات المرتبطة بتراثهم وأشهرها الطنبورة، وهي آلة وترية بدائية.
على الرغم من تميز البدوي برقصات معينة، يحمل فيها السيف والدرع، في وصلة من المهابة، فقد سحب بساط الرقص والغناء أهالي أسوان والنوبة (جنوب مصر) المشهورين بتراثهم الفني العميق وروحهم المرحة.
شاركت فرقة غنائية وهي “كفاكا” وتعني “كف اليد” في المهرجان، وقدمت مزيجا من الأغاني التراثية وأشهرها “نعناع الجنينة”.
تتألف الفرقة من مطرب، وعازف عود وعازف إيقاع، فيما تشكل “الصقفة” باليد الخط الرئيسي فيها، بالإضافة إلى التمايل في حركات مميزة. ألهبت الأجواء فرقة نوبية من فتيات وشبان يرقصون في مواجهة بعضهم البعض، ويتحلون باللباس النوبي اللافت ذي الزخارف والألوان المبهجة.
تراقب الفتاة شاهندة الحسيني، وهي طالبة في كلية الفنون التطبيقية، بشغف العرض، وتتنقل عيناها بين الرقصة والخلفية الصفراء المبهجة، حيث رمال الصحراء، وعمق المشهد، حيث الجبال، والزخارف حيث الأعمال اليدوية، والتراث في الحجارة المشتعلة والفناجين المرصوصة.
تنبهر الفتاة التي تؤهلها دراستها كي تصبح فنانة، وتقول لـ“العرب” “خلال تلك التجربة الفريدة لمست فنوناً لم أعتقد أنها موجودة وعلى تلك الدرجة من الإبهار، كم كان البدوي جميلاً حين جاءنا إلى هنا، أتمنى أن أعمق التجربة وأذهب أنا إليه لأنهل من بحره الواسع”.
*المصدر : العرب


www.deyaralnagab.com