logo
1 2 3 41122
قربص التونسية.. إرث فينيقي للعلاج بالمياه الحارة!!
22.04.2017

غير بعيد عن العاصمة تونس تنتصب مدينة قربص على مرتفع يطل على المتوسط لتشد بجمالها وهدوئها الخالد زائرها بسحر تعانق فيه زرقة البحر شموخ الجبل وخضرة الغابة، فيما فرادتها تنبع من وفرة المياه المعدنية الطبيعية المتدفقة من العيون المنتشرة في كل مكان تقريبا.
تونس - تقدم مدينة قربص الجبلية الواقعة بمحافظة نابل شمال تونس المثال على بعض وجهات العلاج الاستشفائي الطبيعي التي تفتن عين الزائر بسحر طبيعتها الخلابة وجمالها الذي يشد الأبصار، رغم ما تعانيه هذه المدينة من أهمال في البنية التحتية والترويج السياحي.
وتجمع مدينة قربص، المطلة على المتوسط، بين زرقة البحر وخضرة الجبل ودفء العيون المائية المتدفقة من باطن الجبال المحيطة في انسجام تام يضفي على المكان سحرا وجمالا، ليأخذ بخارها الجذاب المتصاعد من البحر الأزرق الزوار إلى عالم فسيح من المتعة، حيث تمتد مساحات شاسعة من الغابات الخضراء متناغمة مع زرقة السماء الصافية.
المدينة الجبلية الساحرة، ورغم صغر حجمها بالنظر إلى أقدم المدن السياحية في البلاد التونسية إلا أنها تعتبر إرثا فينيقيا ورمزا من رموز عبور الفينيقيين القادمين من صيدا وصور أرض أفريقية ليختاروا الاستقرار على ضفاف المتوسط في جهة الشرق.
هناك اختلاف كبير بين المؤرخين حول تسمية مدينة قربص، ففيما يجمع بعض المؤرخين على أن اكتشاف ميزات هذه المدينة يعود إلى العهد الفينيقي، حيث اشتهرت بحماماتها وينابيعها الطبيعية وموقعها الفريد المطل على خليج تونس، يذهب أغلب المؤرخين إلى أن أصل تسمية قربص يعتبر تحريفا لجزيرة قبرص وأن الرحالة الفينيقيين الذين تميزوا بخبرتهم في مجال التجارة البحرية وتنقلهم في البحر بسفنهم العظيمة أطلقوا عليها هذا الاسم لتشابه المشاهد الطبيعية بين المنطقتين.
ويعتبر مؤرخون آخرون أن التسمية مستمدة من الاسم الذي أطلقه الرومان على أعمدتها التاريخية وهو “كاربيس”، إلا أن شيئا منها لم يبق حيث تم نهبها أيام الانتداب الفرنسي على البلاد التونسية سنة 1881.
محطة استشفائية
تكمن الميزة الأساسية لمدينة قربص في أنها محطة استشفائية طبيعية بامتياز، حيث تشتهر بعيونها المائية إضافة إلى توفرها على عدة محطات للاستشفاء بالمياه المعدنية، منها محطات تقليدية وأخرى عصرية مجهزة بأحدث التجهيزات الطبية.
مستوى ثان من الميزة التفاضلية تقدمه مدينة قربص على خلاف مدن أخرى سياحية تونسية يتمثل في استقطابها لفئات واسعة من الزوار من داخل تونس أو ما يطلق عليه السياحة الداخلية، فيتدفقون عليها في رحلات متواصلة لا تكاد تنقطع، لأن المدينة الجبلية تغري الزائر، فيطمع بالعودة إليها مرارا وتكرارا.
وما إن تطأ قدما الزائر قلب المدينة التي رصفت أزقتها بحجارة من النوع الكلسي ملساء ورطبة، حتى تعترضه الحمامات التي تقدم خدمات دون انقطاع للزوار المتهافتين على المنطقة من شتى المدن المجاورة والجهات المختلفة من البلاد التونسية.
الشاب رضوان بن الطيب، الذي يعمل على تحضير أكلات سريعة للزائرين، يقول “كل يوم أستيقظ حوالي الخامسة صباحا لتجهيز نفسي وتحضير مستلزمات العمل. الزبائن يقبلون على ما نعده لهم بنهم ودون تردد”. ويشاطره فريد حلواسي القول “لا يقبل علينا لتناول ما نعده سوى التونسيين الذين يستمتعون بما نقدمه لهم ويبادرون إلى شكرنا”.
وتنبع من حنفيات الحمامات الفينيقية أو الرومانية مياه ساخنة وحارة غنية بالأملاح المعدنية والكبريت، يقبل عليها الزائر لأنها تمسح عنه التعب والأرق والإجهاد المتواصل وحتى الأمراض مثل الروماتيزم والإرهاق النفسي والروتين.
مدينة قربص لا تخلو من حركة دؤوبة على كامل السنة تقريبا وفي مختلف الفصول، فالزوار لا يتغيبون لأن سحر المدينة لا ينقطع، ولا المشهد الطبيعي يتغير بتغير الفصول، إضافة إلى أن المناخ ولذة المياه الجبلية لهما نفس الميزات ونفس القيمة الطبيّة، ففي الشتاء كما في الصيف تظل المياه المنبعثة من باطن الجبال الخضراء العالية ساخنة وحارة.
الاستجمام في المياه الساخنة
يروي أحد من أفراد عائلة الحاج صالح متعة الرحلة التي قادتهم إلى قربص بمناسبة العطلة المدرسية، فيقول الطالب زياد (25 عاما) “جئنا إلى قربص للاستمتاع بالمياه الساخنة.. الحاج صالح يصطحبنا دائما إلى هذه المدينة التي يتردد عليها للتداوي بمياه العيون.. مناظر الطبيعة وسحر البحر لا يعوضهما أي شيء في قربص”.
وتمنح محطة قربص خيارات مختلفة لمن يرغبون في التخلص من التعب والضغط بواسطة الحمامات المعدنية، لكن بأسعار بعيدة عن تلك المعتمدة في مراكز العلاج بمياه البحر في المدن السياحية المشهورة، إذ لا يتجاوز سعر الحصة الواحدة 10 دنانير (5 دولارات).
شريف حواصة (35 عاما) الذي يعاني من مرض الروماتيزم يذكر أنه يأتي كل شهرين تقريبا إلى قربص للتداوي في المحطة الاستشفائية.
يقول حواصة “الشيء الوحيد الذي يجعلني أداوم على القدوم إلى هنا هو المناظر الطبيعية وعذوبة المياه”، ويضيف “القائمون على المحطة يعملون بمستوى عال من الحرفية والإتقان.. هم حقيقة يهتمون بمرضاهم ويولونهم عناية فائقة”.
عيون صافية
تضم قربص عددا كبيرا من الينابيع التي تتدفق منها مياه حارة نابعة من الجبل في اتجاه البحر، فيعبأ ماء عيونها في قوارير ويباع في المحلات التجارية لأنه يعد من أجود أنواع المياه المعدنية في البلاد.
ووسط جمال المناظر الطبيعية الساحرة يستمتع زائر المدينة الجبلية بخدمات أهلها الطيبين الذين خبروا عدة مهن وحرف تقليدية كالنقش والزخرفة وإعداد القلادات والتحف، إضافة إلى تقديم ألذ وأطيب أنواع المأكولات ومختلف أنواع العصائر وخاصة عصير البرتقال لأنه لا يمكنك الوصول إلى مدينة الأحلام قربص دون المرور بحدائق ممتدة على جنبات الطريق تزينها أشجار البرتقال والقوارص.
ولليانبيع المعدنية في قربص أسماء تعرف بها، فهناك “عين الصبية” و”عين الشفاء” و”عين أقطر” و”عين العتروس” وهي إحدى أهم عيون المياه المعدنية الطبيعية التي تتدفق بدرجة حرارة تقارب 70 درجة مئوية وتصب في البحر، فيتصاعد البخار من عباب البحر، حيث يسبح الزائر ويستمتع بدفء المياه الممتزجة بملوحة البحر وثراء المياه الجبلية بالمعدن والكبريت ولو كان الفصل شتاء.
تختلف هذه الينابيع الواحدة عن الآخرى بخاصياتها المميزة وطبيعة مياهها العذبة، وبمجرد أن يمعن الزائر ويمد بصره وهو في قمة الجبل منحدرا إلى المدينة، يطالعه خليج تتلألأ مياهه صفاء لترسو فيه اليخوت والسفن طمعا في الراحة أو انتهاء من مهمة شاقة في الصيد.
هنا وعند هذا الخليج توجد عين الكناسيرة التي يقصدها الكثير من الناس للتداوي، فماؤها والطين المحيط بها نافعان للبشرة وللأمراض الجلدية، لكن مشكلة تهيئة الطريق تحول دون وصول الكثير من الناس إليها.
وتبقى عين العتروس الأكثر شهرة باعتبارها تقع على حافة الطريق وتبعد عن مدينة قربص قرابة كيلومتر واحد فقط. ماؤها الساخن المتدفق من الجبل يصب في البحر وهو ماء غني بأملاح معدنية متعددة مفيدة للتداوي.
وتمتاز مدينة قربص بتوفرها على عيون أخرى للمياه المعدنية مثل “عين الفكرون” و”عين الصبية” و”العين الكبيرة”، إضافة إلى حمامات تقليدية تمتاز بعراقتها وقدمها، ومحطة استشفائية يعود تاريخ تأسيسها إلى بداية السبعينات من القرن الماضي كانت تابعة لديوان المياه المعدنية وتم التفويت فيها للخواص سنة 1996.
وتقدم هذه المحطة العديد من الخدمات العلاجية بالمياه المعدنية كالتدليك والعلاج بالطين والماء المضغوط وعلاج الحزام والظهر، ويستفيد منها المنخرطون في الصناديق الاجتماعية وغيرهم ممن يبحثون عن الاسترخاء والنقاهة.
عزالدين القبطني، أحد المسؤولين بالمحطة، يقول إنها “تشغل قرابة 25 شخصا بين إطارات وأخصائيي علاج طبيعي وعملة”، غير أن الإقبال يبقى متواضعا مقارنة بمحطات استشفائية أخرى، ويعزو القبطني ذلك إلى انقطاع الطريق القديمة التي كانت توفر عناء طول المسافة على الزائرين علما وأن الأشغال متعطلة منذ سنوات.
ويضيف عزالدين أن قربص “تفتقر إلى نزل ذات طاقة استيعابية كبيرة وخدمات راقية يمكن أن تجعل من المنطقة أحد أهم أقطاب السياحة الاستشفائية بتونس”.
ويتطلع أهالي المنطقة وزوارها إلى إتمام إنجاز مشروع الطريق المؤدية إلى قربص عبر المريسة وتشجيع الاستثمار في مجال السياحة الاستشفائية. وكانت قربص في ما مضى تستقبل مرضاها عن طريق التنسيق مع الأطباء، فتقدم الرعاية الصحية من أجل الشفاء من أمراض القلب والشرايين وضغط الدم وأمراض المفاصل والروماتيزم وبعض الأمراض الجلدية.
وتقدم المحطة الاستشفائية جلسات خاصة بالعلاج الطبيعي والتأهيل الوظيفي، ويساعد جمال المدينة في الراحة النفسية للقادمين إليها، فجبالها الخضراء تفتح أفقا رائعا للزوار لمشاهدة المواقع المرتفعة في تونس وشوارعها.
وجهة سياحية متروكة
تعتبر قربص من أقدم المدن السياحية في تونس على الرغم من صغر حجمها، لكن غالبية زوار قربص حتى اليوم من التونسيين، فلا يقبل عليها السياح الأجانب لقلة
الترويج لها، كما لا توجد فنادق بالمدينة مخصصة للسياحة، فالفنادق القليلة مرتبطة بالحمامات المعدنية وحصص التدليك بالمياه التي يشرف عليها أطباء متخصصون.
ويقبل على قربص التونسيون بأعداد كبيرة لا سيما في فترة العطل المدرسية والإجازات، ليستمتعوا بتسلق جبالها الخضراء حيث تفسح المواقع المرتفعة المجال لمنظر منقطع النظير لمدينة تونس وخليجها المرصع بالمدن الصغيرة.
وبسبب ارتفاع المدينة عن سطح البحر لا يستطيع زوارها السباحة في ساحلها إلا إذا ما نزلوا إلى بلدة سيدي ريس القريبة منها، علما وأنه سيشرع في تنفيذ خطة لتهيئة منطقة سياحية متكاملة تشمل البلدتين.
مشاريع التحديث في قربص لا تزال غير كافية، طبيب المحطة الاستشفائية شكري همامي يشرح ذلك بالقول إن البنية الأساسية في قربص تقادمت وهي تحتاج إلى التجديد والتحديث لتغدو من المحطات المعروفة في منطقة المتوسط بعد استكمال التوسعة الجارية واقتناء معدات جديدة ستوضع في قاعات الساونا والجاكوزي.
وبعدما كان أغلب زوار المحطة من أبناء تونس طوال أربعة عقود بدأ السياح الأجانب يتوافدون عليها وإن بأعداد محدودة اعتبارا من العام الماضي، خصوصا الإيطاليين والجزائريين.
ويأمل همامي كغيره من القائمين على المحطة الاستشفائيةويأمل همامي كغيره من القائمين على المحطة الاستشفائية في أن يرتفع العدد بعد استكمال شق طريق جديدة والتخلي عن الطريق الحالية التي تعتبر خطرة.


www.deyaralnagab.com