أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
عبد الحميد الثاني.. الحقيقة والأيديولوجيا!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 15.04.2014

نشرتُ مؤخراً مقالة حول كتاب جديد يتناول سياسة السلطان عبد الحميد الثاني إزاء فلسطين والحركة الصهيونية، وعنوان الكتاب «دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين»، من تأليف الباحثة الأردنية فدوى نصيرات. تعرضت المقالة وكاتبها، والكتاب ومؤلفته، لسيل لم ينقطع من التهم والشتائم التي تدور في مجملها حول «النوايا المشبوهة» خلف المقالة والكتاب لتدمير «قيم الأمة ورموزها ودينها»! كيف تحول سلطان مستبد يختلط سجله بالنجاح والفشل إلى تجسيد كلاني لـ«قيم الأمة ودينها»؟ إنه أمر يستحق التوقف عنده، وفضلا عن التأمل في نوعية التهم وما تعكسه من أدلجة فكرية وفقدان ثقة بالنفس، إضافة إلى خلط ما هو تأريخي بما هو سياسي وأيديولوجي.
يقدم الكتاب قراءة تاريخية مبنية على سرد الوقائع التاريخية وتركيب الصورة الإجمالية لمواقف السلطان عبد الحميد من فلسطين وتحديداً لقاؤه بتيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، ورفضه بيع فلسطين بالمال اليهودي. الأطروحة الأساسية للكتاب تقول إن السياسة المترددة والبراغماتية للسلطان خلال حقبة حكمه الطويل، أدت عملياً إلى تسرب فلسطين للمنظمات الصهيونية، رغم أن موقفه الرسمي كان التشدد في الموضوع. لا ينشغل الكتاب بإطلاق أي وصف على السلطان أو تخوينه أو اتهامه بأن سياسته كانت ذات أجندة سرية أو أنه تعاون سراً مع المنظمات الصهيونية. بل يقر بأن الموقف الحقيقي للسلطان كان عدم التساهل وعدم التفريط، لكن السياسة المطبقة عملياً افترقت مع ذلك الموقف. ويدلل الكتاب بمتابعة مسارات سياسة عبدالحميد حيث أراد الإبقاء على خطوط التواصل مع هرتزل والمنظمات الصهيونية بسبب نفوذهم العالمي، مع رفضه «رسمياً» بيع فلسطين لهم. لكنه حرص على إظهار حسن النية وإبقاء الباب موارباً للهجرة اليهودية وعدم التشدد في تطبيق الفرمانات التي أصدرها لتضييق تلك الهجرة. ونتيجة لتلك السياسة المترددة تضاعف عدد اليهود في فلسطين خلال فترة حكمه ثلاث مرات، فضلا عن قيام البنية التحتية الاستيطانية وبناء الشركات وإنشاء الجمعيات. تفاصيل انتقال الأرض إلى الشركات اليهودية مريرة، وخاصة الجانب المتعلق بتفريط الإداريين العثمانيين في فلسطين، وانتشار السمسرة وقبول الرشاوى التي كانت تقدمها المنظمات الصهيونية بسخاء. كل ذلك كان يتم رغم الغضب والنقمة التي يبديها الفلسطينيون ويجهرون بالاعتراض عليها. فمثلا انتقلت الأرض التي أقيمت عليها مستوطنة «ريشون لتسيون» في وسط فلسطين، إلى أيدي المنظمات الصهيونية عبر تواطئ مكشوف من قبل السلطات العثمانية سنة 1882. فآنذاك عمدت السلطات العثمانية إلى مصادرة الأرض من ملاكها الفلسطينيين ثم عرضها للبيع بالمزاد العلني لعدم تمكن الملاك من دفع الضرائب الهائلة المترتبة عليها، وقد اشترت الأرض ست عائلات يهودية روسية. ومعروف أن هذه المستعمرة شكلت أحد أهم البنى الاستيطانية التحتية للمشروع الصهيوني، وهي الآن رابع أكبر تجمع سكني في «إسرائيل.
خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني التي زادت عن ثلاثة عقود، كما يخبرنا هذا الكتاب، تضاعف عدد اليهود ثلاث مرات ووصلت نسبتهم سنة 1908 إلى 11 في المئة من عدد السكان. ونقرأ في الكتاب تفاصيل مثيرة عن الزيارات الخمس التي التقى فيها هرتزل بالسلطان بين سنوات 1896 و1902، وما حدث فيها، ونلتقط من خلال التفاصيل تردد السلطان وتساهله إزاء هرتزل، ومحاولته استكشاف مدى صدقية الزعيم اليهودي وقدرته على الوفاء بوعوده المالية. تبحر فدوى نصيرات وسط أحداث تاريخية كثيفة وتلتقط مسار علاقة عبد الحميد بهرتزل لتصل إلى السؤال التالي: إذا كان السلطان قد رفض عرض هرتزل في لقائه الأول به سنة 1896، فلماذا يلتقيه بعدها عدة مرات، ويستضيفه في اسطنبول وعلى نفقته الخاصة، ويأمر بالحرص على الاعتناء به ووفادته؟ الأمر الأكثر مدعاة للدهشة والحيرة هو منح السلطان عبد الحميد وسام مرتبة القيادة المجيدية لهرتزل سنة 1896 معبراً عن إعجابه به، مع العلم بأن السلطان كان قد اطلع على كتاب الدولة اليهودية لهرتزل وقرأه ويعرف مخططات الحركة الصهيونية.
رغم كل تلك الحقائق الموثقة تاريخياً يأتي سيل التهم من أنصار اغتيال العقل وتقديس الأفراد وكأن نقد السلطان عبد الحميد هو نقد للدين نفسه! ليس هناك أحد فوق النقد، والسلطان وكأي حاكم على وجه الأرض، مسلماً كان أم غير مسلم، يتبع سياسات ينجح فيها أو يفشل، ويوازن بين خيارات وضغوطات، ويحاول أن يناور على خصومه كي يستبق الأحداث عنهم، فأحياناً يصيب وأحياناً يخطئ، وكما له أن يتمتع بالإشادة في الحالة الأولى، عليه أن يتحمل المسؤولية في الحالة الثانية. لم يوجه الكتاب، ولا المقالة، أية تهمة بالخيانة للسلطان عبد الحميد، لأن في هذا انجرار سقيم لمربعات الشتائمية التي لا تقدم في النقاش بل تؤخر في الفهم. بيد أن الكتاب والمقالة يتهمان السلطان بالتفريط والتردد والفشل في المناورات السياسية مع هرتزل والحركة الصهيونية، وهي مناورات سهلت في نهاية المطاف في ضياع فلسطين وتحقيق الحلم الصهيوني فيها.

1