أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
تقرير :صراع البقاء بين الجمل والجمّال في أكبر أسواق الإبل في مصر !!
بقلم : شيرين الديداموني ... 05.08.2019

*العلاقة بين الجمل والجمّال أصابها التوتر، ولم تعُد كما كانت في سابق عهدها بعد انتشار فيديوهات حول تعرّض الجمال في سوق "برقاش" لضرب مبرح باستخدام العصا والسوط.
يعدّ سوق “برقاش” بالجيزة في جنوب غرب القاهرة، أكبر سوق لتجارة الإبل في مصر، بل وتحوّل إلى مقصد للسائحين لمشاهدة حيوانات تحتلّ مكانة كبيرة في وجدان الشعوب العربية. وبدلا من أن تلتقط عدسات الكاميرا صورا فنية تظهر “سفينة الصحراء” معتلّة بعد تعامل قاس مع الإبل، توقفت فيديوهات عند ضربها بشكل دموي. وأثارت هذه المشاهد غضب كثيرين ونددوا بالعلاقة السيئة بين الجمل بالجمّال والتي جعلت الأول يذرف دما على غير العادة. وانتقلت “العرب” ورصدت مجموعة من الروايات والمشاهد الحقيقية.
الجيزة (مصر)- لم يكن سوق “برقاش” للجمال الجمعة الماضي كما ألفته الأعين على مدار سنوات طويلة، فقد شهد حالة استنفار وأجواء متوترة ظهرت جليّا على محيا التجار والصبية المتربصين بكل غريب تطأ أقدامه المكان، خاصة إذا كان صحافيا (صحافية) أو مصورا.
حدثت تلك التطورات عقب نشر أحد المستخدمين، بصفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، صورا مؤلمة قيل إنها لسوق الجمال في “برقاش”، تضمّنت مشاهد دموية لوجوه جمال نازفة وعيون مفقوعة، وأخرى تذرف الدموع، وانتشرت فيديوهات حول تعرّض الجمال لضرب مبرح باستخدام العصا والسوط، وتحول رغاؤها (صوت الجمل) إلى عويل وأنين.
ولأول مرة منذ نشأة السوق قبل عشرين عاما تقوم محافظة الجيزة بتنفيذ حزمة إجراءات احترازية، مثل تركيب كاميرات مراقبة داخل السوق وعلى بوابات الدخول والخروج منه، معلنة أنه سيتم متابعتها وتفريغها دوريا للتأكد من عدم وجود تجاوزات ضد الجمال، مؤكدة تنظيم ندوات إرشادية وتوعوية للتجار بكيفية التعامل السليم في هذا المجال.
يقام السوق الدولي في موقع متميّز وعلى قرابة 25 فدانا، ويعدّ أكبر أسواق تجارة الجمال في الشرق الأوسط، حيث تفد إليه الإبل من السودان والصومال. اهتزت صورة هذا السوق مؤخرا، بعد أن طفت حملات بعناوين، مثل “أنقذوا جِمال برقاش من التعذيب” و“مجزرة برقاش” و“مذبحة الجمال في سلخانة برقاش”، بسبب التجاوزات اللاإنسانية التي تحدث داخله.
قال أبوإسلام إنه يعمل في تجارة الجمال منذ حوالي 15 عاما ولم يشهد خلالها ما يراه الآن من إقبال ضعيف، وتحوّل السوق من كرنفال للبيع والشراء إلى صورة قاتمة يسودها القلق. يقلب الرجل الخمسيني شفتيْه كإشارة لعدم الرضا شارحا، لـ”العرب”، أنه لم يتم رصد مخالفات لأحد، بينما شهدت الأيام الماضية انتشار عناصر الشرطة والحقوقيين في المكان، وكأنه سوق لـ“اللصوص وليس للجمال”.
عرف المصريون “برقاش” من الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، وليس من سوق الإبل فيها. وامتلك هيكل مزرعة واسعة هناك، كان يلتقي فيها الكثير من الزعماء والسياسيين والمفكرين والمثقفين من دول مختلفة، خلال فترة توهّجه في ستينات القرن الماضي، عندما كان الصحافي المفضّل والمقرّب من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
تؤكد أمينة ثروت، الناشطة بمؤسسة “الجمعية المصرية للرفق بالحيوان”، وقوع جرائم ضد الجمال وقررت رفع دعوى قضائية على تجّار السوق، مستندة على ما لديها من أدلة تتضمّن فيديوهات تكشف الممارسات الوحشية ضد الإبل.
وتشير، إلى “العرب”، إلى تفنّن الرعاة في تعذيب الحيوان واستخدام طرق عديدة، مثل الضرب المبرح والجرّ بحبال غليظة ما يحدث إصابات في الرقبة والأنف والفك والجهاز التناسلي وتكون النتيجة الذبح أو النفوق. وتؤثر هذه الممارسات على نظرة العالم لمصر، لأن السوق تحوّل لمزار سياحي ويشارك في مسابقات مختلفة.
ناشدت المحامية دينا المقدم المواطنين داخل مصر وخارجها بعمل توكيل خاص لها بالشهر العقاري لاتخاذ إجراء قانوني ضد التجار، وتفعيل قانون العقوبات المصري في المادة 355 بتطبيق الحبس مدة لا تزيد على سنة مع الشغل، وتوقيع غرامة مالية لمن يقتل عمدا حيوانا من دواب الجر أو الحمل أو الركوب.
تكشف هذه المعطيات كأنّ هناك ثأرا بين التجار والإبل، فهل حدث شرخ في العلاقة التي تجمعهما على مدار قرون طويلة أم هناك سوء فهم لما يحدث بالسوق، وما اللغز وراء إثارة تلك القضية في الآن؟
ثمن الحياة
قال محمد حسن الناشط بجمعية الرفق بالحيوان، لـ“العرب”، إن السوق تحوّل إلى “سلخانة” لتعذيب الجمال، وفور وصول الدواب من موطنها يشبعها مشتروها ضربا تحت ذريعة “الترويض” لإجبارها على “النخ” (الانصياع للأوامر) وتوجيهها للمكان الذي سيتم وضعها فيه، وبعضها ينفق جرّاء التعذيب، ما يفسر وجود إبل نافقة متراكمة في الطرق الفرعية المؤدية للسوق.
لم ينكر بعض التجار ما قاله الحقوقي، لكنهم دافعوا عمّا يفعلوه بالمثل الشعبي “إذا عُرف السبب بطُل العجب”، فمن يلجأ للضرب منهم ليس رغبة في التعذيب، لكن لحماية حياته من هياج الإبل.
كشف الحاج نصر، وهو جزار وتاجر إبل، أن الإبل تأتي إليهم من صحراء السودان أو غابات إريتريا والصومال، ولا تشعر بألفة مع البيئة الجديدة وينتابها الفزع والهياج، وتهاجم الرعاة لذلك يضطر الصبية لضربها حفاظا على أرواحهم.
وضرب التاجر كفّيْه ببعضهما البعض، في حركة مفاجئة متسائلا بغضب “ماذا يفعل الراعي إذا هدد الحيوان حياته وهل وضع من التقط الصور نفسه مكان الجمّال”؟ وأكد أنه ضد تعذيب الحيوان، وهو شخصيا يتعامل معها كصديق يغنّي لها، إلى أن وقعت خصومة بينهما لأن أحد الجمال هجم على قريب له وأطبق فكيه على رأسه حتى لفظ أنفاسه.
ما ذكره نصر عن “خيانة الجمل” أحيانا تم تداوله بسبب مصرع الأميركي ريتشارد ميلنسكي مالك حديقة الحيوانات في منتجع تولوم المكسيكي بعدما هاجمه جمل وانهال عليه رفسا وعضا ثم جلس عليه. وقتها نقلت صحيفة ذي ديلي تلغراف البريطانية أن سبب الهياج ليس معروفا، وهناك احتمال بأن الجمل ثار لعدم حصوله على مشروب غازي كان ميلنسكي يعطيه له وتأخر عنه في ذلك اليوم.
أوضح نصر، لـ“العرب”، أن هياج الجمل حالة تصيب (ذكر الإبل) حيث يصبح عنيفا وعدائيا، وتنشط تلك الحالة في موسم التزاوج فيقوم بعضّ مروضه ويوقعه أرضا ويرفسه، وثمة من يدخل في صراع مع جمال أخرى حتى الموت ويجب التعامل معها بحذر شديد إلى أن يعود إلى وداعته السابقة.
نصح الكاتب البريطاني روبرت إيروين، في كتابه “الجمل.. التاريخ الطبيعي والثقافي”، بتجنّب غضب الجمل الذي يمكنه أن يرفس بقوة من الجانب وللأمام وللخلف، وضرورة حسن معاملة هذا الحيوان، لأن له طريقته في الاحتجاج على المعاملة غير المعقولة وهي أن يموت.
طالب أبوحامد، وهو مربّي إبل، الرعاة الجدد بحسن معاملة الإبل وعدم اللجوء للضرب، فهي تتميز بالذكاء والذاكرة القوية، وفي حال قيام شخص بالضرب فقد يعرض حياته للخطر حتى ولو مضى وقت طويل على ذلك، فهو حقود لا ينسى غريمه ولديه قدرة على معرفته ويتصرّف بشكل طبيعي إلى أن تواتيه الفرصة للانتقام، وعدوانيته لها خلفية تاريخية أحيانا.
يمتصّ مربّو الإبل غضب الجمل بحنكة لما له من خبرة في التعامل، فإن هاجمه يقوم بخلع قميصه وإلقائه أمامه وبدوره يقبل على القميص ويوسعه ضربا وتمزيقا للتخلص من حقده وإحباطه.
أضاف أبوحامد أن تلك الطريقة لا يتقنها إلا المربّي المتمرّس، لكنّ الصبية المستجدين لا يسألون شيوخ المهنة، ويتخذون الضرب قانونا لترويض الحيوان، وبالرغم من أنها تصرّفات فردية لكنها طالت كل المتواجدين بالسوق.
وشرح، لـ”العرب”، أن بعض الرعاة يضربون الجمال بسبب ضآلة أجسامهم أمام ضخامته وعنفوانه وافتقاد بوصلة التحكم في القطيع. وفي أثناء طرح الجمال بالمزاد الأسبوعي يوجّه الرعاة الإبل كي لا يدخل أحدهم في قطيع شخص آخر لكثرة أعداد الجمال في سوق “برقاش”، وقد تتعدى الستة آلاف جمل كل أسبوع.
تظهر المشكلة عند محاولة إخراج الجمل من مجموعته لتسليمه للمشتري، ويرفض الاستسلام للانفصال عنهم ويهيج عند وضعه في عربات النقل، ويفاقم الوضع ندرة العمالة المتخصصة في شحن الجمال، فالمتواجدون يتعاملون بعشوائية.
الإنسان والإبل
في مشهد تمثيلي ظهرت مجموعة من التجار داخل السوق وهم يقسمون على حسن معاملة الجمال، وقام بعضهم بإعطاء التحية لهم كمبادرة على بدء صفحة جديدة، وأصرّ آخرون على التقاط صور تجمعهم بالجمال وهم يقبلونها مؤكدين خصوصية العلاقة بين الإنسان والإبل.
قال أحد التجار، لـ“العرب”، إنه يمتلك مزرعة تضمّ نحو مئة من الإبل وتربطه علاقة صداقة بها، مؤكدا أنّ الجمل اعتاد عليه ويأتي إليه ويجلس عند رجليه ويحبّه، ويمتلك صفات نادرة منها الخجل وتذوّق الموسيقى، وهذا ما اكتشفه الرعاة منذ القدم.
لا يمتلك التاجر حسابا على مواقع التواصل الاجتماعي وبالكاد يعرف كيف يتعامل مع الهاتف المحمول، لكن وصل إلى مسامعه ما تم تداوله عن العنف ضد الجمال المنتشر بالسوق، فانحني هامسا بأنها “حملة مُمنهجة في وقت تنشط فيه عمليات البيع والشراء بالسوق مع اقتراب عيد الأضحى”.
واعتبر أن وراء الحملة وجود مستثمرين يريدون شراء الأرض القائم عليها السوق لاستثمارها بسبب مساحتها الكبيرة وموقعها المتميّز بالقرب من ضفاف النيل، وأنه “توجد جهات تناصرهم وتدعمهم للاستحواذ على الأرض بدل تجار الإبل، كي لا يكون لديهم منافسون في السوق”.
يجلس بجوار مكتب التاجر شابّ أربعيني يُدعى جميل تسلل الشيب لخصلات من شعره أكد أن الصور المتداولة غير صحيحة، فهناك من يتعاملون مع الجمال بقسوة ويضربونها بالفعل لكنهم قليلون ولا تستدعي أفعالهم المطالبة بإغلاق السوق ويمكن تغريمهم، كما فعلت المملكة العربية السعودية مع إحدى المجازر عندما انتشر فيديو لتعذيب الإبل داخله.
يتنافى ما قاله الرجل مع العصا التي يحكم عليها قبضته، لكنه سارع بالتوضيح أنه يوجه بها قطيع الإبل حتى لا تشرد منه ولا يضرب أو يعذب أو يفقع كما يقولون. لا يمتلك الرجل جمالا يبيعها مثل آخرين، لكن لديه مكتب في السوق يلجأ له التجار ليبيع لهم الجمال مقابل نسبة من الربح، وعلاقته بالجمل لا تتعدى الساعة فهو يستلمه ويبيعه للجزار أو التاجر لذلك لا تكون هناك ألفة بينهما.
يعرف الراعي الجمل الشرس من عينيه فيضطر لضربه وأحيانا يرفع رأسه فتجرح العصا عينيه أو وجهه، ويمكن أن يصاب في أثناء التحميل والشحن. يتفق التجار الجالسون في المكتب مع “سمسار” الإبل. ويتلقف العم ناصر الكلام قائلا، لـ“العرب”، إن “قانون السوق هو وقف أو قلة الضرب لأن الجمل مصدر رزقنا الوحيد، والإبل في سوق برقاش تتوجّه للذبح وليس من مصلحة التجار ضربها لأن ذلك يؤثر على جودة اللحوم، نتيجة حدوث نزيف في الأنسجة الداخلية ما يفسدها ويجعلها غير صالحة للبيع”.
ويشير أنه ليس منطقيا فقع عين الجمال، حتى من منطلق مادي لأن “الجمل الأعور” سعره يهبط بمقدار أربعة آلاف جنيه، ولا ينفي أنهم يربطون الإبل من قدم واحدة لإعاقة حركتها كي لا تؤذي المتواجدين في السوق.
من المؤكد أن العلاقة بين الجمل والجمّال أصابها التوتر، ولم تعُد كما كانت في سابق عهدها رمز ارتباط قوي وفخر وعزّة. ولفتت مشاهد العنف المسلّط على الجمال الأنظار لعدم وجود رقابة صارمة على الأسواق، وربما تصبح هذه الأحداث والمشاهد دافعا للتحرك في قضايا لا تختلف تفاصيلها كثيرا عما يحدث الآن في سوق برقاش، من أجل وقف انتشار تعذيب حيوانات أخرى مثل الأحصنة والحمير والكلاب.

**المصدر : العرب
1