أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
جدل النص والواقع!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 21.10.2013

يغترب النص عن الواقع إن تعالى عليه، ثم ما يلبث أن يصبح عالة على الواقع إن يخضع لاشتراطاته وينخرط في تلك الدينامية الإنسانية التاريخية التي تخلط النص بالواقع وتعيد تشكيل الإثنين وفق توافقات وتنازلات دائمة الحدوث. يحدث هذا مع أي نص يتوجه إلى تغيير الواقع، وينهمك في رصد اعتلالات الاجتماع البشري ويأخذ على عاتقه مهمة إصلاحها، أو بتواضع أكثر محاولة إصلاحها. نصوص الأيديولوجيات البشرية التي حاولت مناطحة الواقع وتغييره تقدم تاريخاً غنياً وبديعاً، متابعته تتيح استنطاق تجارب لا تعد ولا تحصى على مدى قرون، وأحد دروسه تشير إلى انحناء الأيديولوجيات المتكرر لعواصف الواقع التي لا تقف أو تخف. تولد الأيديولوجيات تفسيرات تنحرف بها عن «المبدأ» الأصلي، وتعيد إنتاج تفسير ذاتها لتخرج بثوب «تصحيحي» أو «ثوري» جديد، جوهره تقديم تنازل آخر للواقع. ذات الصيرورة تحدث أيضاً في قلب النص الديني، ذلك أنه مع مرور الزمن واستطالة التجربة التاريخية وتعقدها وتشابك مصالح الطبقات الحاكمة، والمتنفذين، مع مصالح رجال الدين (الذين يحتكرون تفسير النص الديني على وجه التحديد)، فإن النص ينخرط عملياً في سيرورة دائمة التغير لناحية التفسير والتطبيق، وفق السياق الزماني والمكاني. وفي هذه الحالة يتصدى المفسرون والمفتون للعب دور الوسطاء وتقديم الحلول الوسط بين النص الأصلي والواقع المتغير، حتى لا ينفصل النص عن سيرورة التاريخ. في كلا الحالتين، وفي كل حالات النصوص التي تُقارب الواقع مُقاربة تغييرية، تواجه السمة الاستقلالية للنص عن الواقع، بحسب ادعائها الأولي، واستعلائها على ظروف التعرية والضعف التدريجي، كأنما ذاك ضرورة تاريخية لا مناص منها. تنبع هذه الضرورة من عبقرية الإرادة البشرية في تطويع وتطوير النص ومواءمته مع الواقع الذي يبقى المادة الصلبة في التاريخ الإنساني. في مواجهة ذلك يواصل رجال الدين والنخب السياسية الحاكمة إتكاءهم على النص وتوظيفه واستخدامه بما يعني عملياً إعادة إنتاجه. وبذلك فإن الجانب الاجتماعي السياسي الجمعوي من النص، الديني في هذه الحالة، يظل في عملية مستمرة لا تتوقف عن الإنتاج وإعادة الإنتاج، وهو ما تقوم به التفسيرات المختلفة للنص، والفتوى التي تحاول مصالحته مع الواقع. ما يبقى ثابتاً من النص، الديني مرة ثانية هنا، هو ما يتعلق بالجانب الطقوسي العقدي التعبدي الذي ينظم علاقة الفرد بخالقه.
وفي مستوى آخر يتبلور النص ويتفاعل وينفعل في قلب الأيديولوجيا مقدماً سيرورة مثيرة أخرى. وهو يفعل ذلك في نوعي الأيديولوجيا، الأول ما هو قائم منها على جوهر إنساني والثاني ما هو قائم منها على جوهر غير إنساني (تسلطي). الأيديولوجيا الإنسانية هي تلك المرتكزة على الحرية وتحرير الإنسان والفرد من كل القيود وتمكينه بالنقد والنقد الشامل الذي يشمل أيضاً نقد الأيديولوجيا ذاتها التي حررته. أما الأيديولوجيا غير الإنسانية فهي تلك التي قد تنطلق لأجل تحرير الإنسان وتقاتل من أجل ذلك لكنها تخضعه لنظام ثقافي، تسلطي، فوقي، بديلاً عن النظام الذي حررته منه. ولكونها ذات برنامج فوقي خلاصي، فإنها لا تسمح لهذا الفرد المحرر والمتحرر بأن يتحرر منها أيضاً أو ينقدها. هي تشجعه على نقد النظام الثقافي والسياسي والأيديولوجي المُنقضي، بيد أنها ترفع ذاتها إلى مرتبة عليا، فوق النقد والناقدين، وتتحول إلى منظومة مُستبدة للأفراد الذين حررتهم (النازية، والستالينية كمثالين ناجزين).
ومن هذا المنطلق يرصد التاريخ تمثلات متعددة للدين؛ أولها في الغالب الأعم تمثله أيديولوجيا تحررية انعتاقية تزيح القيود السلطوية والفوقية المفروضة على الفرد والتي تعودت على استغلاله وتعود هو على الخضوع لها. هنا يعمل الدين على تحرير الفرد من الإكراهات السياقية والأفقية، رابطاً مصير المحررين بعلاقة عمودية وطوعية وحسب مع خالقهم. في هذه المرحلة يكون الدين أيديولوجيا إنسانية وثورية. لكن إثر تغلب الدين على بقية السلطويات وإخضاعه لها سرعان ما تتبلور قوى سياسية واجتماعية ونفعية وحتى دينية تعمل على توظيف الأيديولوجيا الجديدة لإخضاع الفرد مرة أخرى، وهذه المرة باستخدام ذات الأيديولوجيا التي حررته. هنا يتحول الدين، وتفسيراته وتوظيفاته، إلى مجرد نظم قوننة جامدة، وتطبيقاته تؤول إلى السلطات التي تسيطر على الفرد والمجموع، ويكون قد تخلى عن مرحلة التحرر والانعتاق فدخل -ومعه الأفراد- إلى مرحلة الأيديولوجيا غير الإنسانية. ومن ناحية تاريخية أيضاً لا يسقط الدين كلياً في قبضة الفكر المنغلق أو في حفنة من المفسرين الجامدين أو المهووسين بالتضييق والتحريم من ناحية، والتحكم والإخضاع من ناحية ثانية. فالذي يحدث عادة حتى في قمة ظافرية الانغلاق وسدنته هو تواصل سلسلة المقاومة وتجديد التحرر والانعتاق. وطالما ظلت الحرية والنداء إليها شكل أحد الاندفاعات الكبرى وراء الطاقة الثورية للدين، فإن ما يتمكن منه الانغلاق والاستبداد في حقبة ما يخسره في حقبة لاحقة.
وفي بداية عمره يقترب النص من الواقع بتواضع، يجادل الناس الذين يرون فيه قادماً جديداً على ثقافتهم وما ألفوه بتؤدة ومنطق. هنا يطرح النص بديلاً طوعياً واختيارياً، يضعه إلى جانب البدائل الأخرى. وفي سياق جدله المُتحول تدريجياً إلى نوع من المعركة الفكرية، يبدأ النص بالتحول إلى شيء آخر، إلى «خطاب». و«الخطاب» يختلف عن النص جوهرياً وبشكل شبه تام. النص يصف ويطرح ما يحمل من دون اندفاعة في التشخيص الحاسم وطرح الحل الحاسم. «الخطاب» يطرح المشكلة ويطرح لها الحل التام والمُطبق. و«الخطاب» وبطبيعة حوامله الأيديولوجية والتبشيرية وبرامجه التي تستهدف تغيير الواقع ذاته، قليل المهادنة مع «الخطابات» الأخرى، ويضيق ذرعاً بما تطرحه، ذالك لأنها تنافسه عملياً على ما يقوم به، أي تغيير الواقع إلى الوجهة التي يريد. وهنا نرصد آلية أخرى من آليات تحول أيديولوجيا ما من طور نزعتها الإنسانية إلى طور الجبر والإكراه والانغلاق. يتحول النص إلى خطاب، وتتحول الأيديولوجيا من العتق إلى الاستعباد.

1