أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
حيفا.. بُرقة :البحث عن الجذور:سيرة ذاتية للشاعر سميح مسعود!!
بقلم : سليم النجار  ... 20.09.2013

حتى لو لم تخرج السيرة شعراً، قد يكتشف الكاتب نفسه وهو يكتب الموضوع الذي حسب أنه كان ينوي كتابته . قد يكتشف نفسه من خلال ما يكتب، كما قد يكتشف مكنونه، وقدراته .
كثيراً ما هممت أن أكتب في موضوع جمعت أطرافه، ووضعت عناصره، وألممت بمفرداته، حنى لو كان علماً أو مقالاً، ثم إذا بي أثناء الكتابة تتفتح لي تفاصيل وتراكيب ورؤى لم تكن في بالي أثناء الإعداد، وأشعر ساعتها أن القلم أصبح له دفع ذاتي، وأنه هو الذي يكتبني وليس العكس، بل إن الكلمات تستقل عن القلم وعني وتصبح هي الرائدة في السيرة الذاتية التي لا تقتصر على كتابة السيرة، بل يكتب كاتب السيرة ذلك في كتابته لسيرته الذاتية، كما فعل الكاتب سميح مسعود، في كتابه ‘حيفا … بُرقة: البحث عن الجذور’ الصادر حديثاًعن دار الفارابي في بيروت .
أحب أن أشير في التأمل التالي إلى مسألة الوعي عند الكاتب، وثقافة الكاتب.
في البداية تكون السيرة الذاتية هواية لرسم الكلمات ترضي شيئاً في صاحبها، وهي تبدأ عادة بالمحاكاة للأشياء والموجودات، وكل مكونات المكان النابض بتاريخ شعبه.
ومن هذه الزاوية تحديداً يتعين أن نقف مع مقدمة سميح مسعود، عندما كتب ‘ تشاء المصادفات أن توصلني ‘التغريبة الفلسطينية’ إلى كندا الواقعة في أقصى المعمورة، بلاد بعيدة تترامى خلف المحيطات، هي الأطول في العالم، يتسع مداها وتتعاقب أراضيها المغطاة بالثلوج بلا نهاية في رحاب فضاء يمتد شمالاً في المحيط المتجمد الشمالي عند التقاء أطراف السماء بالمحيط .’ ص .9 .
ولعل من يذهبون منا إلى أوروبا في أي وقت ربما يستلفت نظرهم هؤلاء الفنانون أوالرسامون بالمئات على الأرصفة في لندن أو باريس أو في غيرهما من العواصم والمدن الأوروبية والذين يعرضون عليك أن يرسموا صورتك في ثوان وبمنتهى البراعة وبثمن زهيد، وهم يفعلون هذا فعلاً ولكنهم لم ولن يدرجوا أبداً في عداد المبدعين … لماذا رغم وجود الحرفية العالية، والمهارة الهائلة والخبرة الممتازة في الرسم وتقنياته…لماذا لا يحسب هؤلاء من المبدعين، والإجابة ببساطة … لأنهم لا يملكون (رؤية ) … لا يقدمون كشفا، لا يبدعون جديدا ً … إنهم في أحسن الأحوال ينسخون الكون والأشياء من حولهم.
أما في هذا التأمل، فأحب أن أقف قليلاً عند مسألة طرحها سميح مسعود في كتابه ‘ حيفا … بُرقة: البحث عن الجذور ‘رغم إنه افتتح مقدمته بالحديث والإشارة لكندا، وأي ٍ كانت الصورة اللغوية التي قدمها، إلا أنه تجاوز حرفية الكتابة، وتقنية الصورة اللغوية، وقدم رؤيته القادمة من الشرق، والتي بدا لي انحيازه الكامل لتلك الثقافة عندما أشار إلى سيرة رمز من رموز الثقافة المشرقية تذكرها عندما زار الناصرة التي درس فيها ميخائيل نعيمة في أيم صباه، وتحدث عنها في مذكراته (سبعون: المرحلة الأولى) ويهمني أن أثبت ما قاله عن شخص من حيفا ساعده للوصول إلى الناصرة للالتحاق بالمدرسة، يقول عنه نعيمة بأسلوبه المميز ‘ فاتني في غمرة امتناني وسروري بتيسير ما تعقد من أموري، أن أسأل الرجل عن اسمه، وعن عمله، وعن دينه، ولعله كان من الخير ألا أسأل، وإلا لما كان لي أن أشهد أمام نفسي وأمام الملأ أن معين الخير لم ينضب ولن ينضب في الإنسان من أيمّا لون، أو لغة، أو دين، وحيثما كان نصيبه من رقعة الأرض .’ ص 263 .
هذه هي السيرة الذاتية المبدعة، والمعنى المقصود من الرؤية … ومن الوعي بالحديث عن الوطن وقضاياه.
أن يحضر في العمل السيري بقانون الإبداع الجيد، وبقانون الرؤية المتفتحة، وهي قوانين بالمناسبة غير مكتوبة، ولا أملك لها وصفة خاصة، لأنها بنت الحس المرهف، والثقافة الواعية المستنيرة المحيطة بعصرها وبظروفها وبفنها، وتدور هذه السيرة غير الخطابية وغير الزاعقة وغير الدعائية … فالسيرة الذاتية الحقيقية ضد الخطابة والصياح والدعاية … أقول هذا في نفس الوقت الذي أعترف فيه، بأنه لا يوجد مبدع حقيقي يعيش في برج عاجي بمعزل عن قضايا عصره واشكاليات واقعه وهموم وطنه … وأن المبدع الذي يولي ظهره لكل هذا مبدع متخلف عن عصره ووطنه ولحظته، ولكن السؤال هو: كيف تتم المعادلة ؟ … وكيف يتحقق الإبداع عبر هذه الاشتراطات ومن خلالها؟ أن أبدع دون أن أكون غائباً عن عصري وقضايا وطني … وفي نفس الوقت أن أحمل عصري وقضايا وطني إلى إبداعي … ولكن بلا صراخ ولا خطابية ولا مباشرة فجة.
في هذا الإطار عاش سميح مسعود تجربته السيرية متجاوزاً المباشرة، وجاءت انعكاساً وجدانياً لهذا التشكيل الجميل من المعاناة والصبر في رصد ذكرياته :
(أسرفت بالذكريات، استحضرت لحظات من أيام طفولتي في حيفا، تخيلت والدي سائراً في شارع الناصرة، حاملاً بيديه حلوى هريسة معطرة كنت أعشقها وتخيلته ملوحا ً لي عن بعدٍ، وتخيلت نفسي راكضا ً نحوه ناثراً أصابعي الصغيرة في كفيه.
أفقت على صوت أحمد أبو غربية، صحاني من أحلام اليقظة، أخبرني بأننا على وشك الوصول إلى حيفا … نظرت حولي، رأيت قبة البهائيين، تطل على البحر من نقطة عالية فوق الكرمل ملفوفة بأردان غيوم شفيفة، قلت له: ‘نعم نحن على أبواب جنة أخاذة الجمال’) ص. 188 .
التراث الشعبي لشعب من الشعوب معطيات ماثلة ومتجسدة ومبلورة لمجموعة من القيم الاجتماعية والفنية والرؤيوية، والتي ما زالت تفعل فعلها بشكل أو بأخر في أي شعب ذات تراث معين، وليست مجرد أشكال قديمة مفرغة من المعنى والدلالة .. مثال ليس عبثاً أن التراث الفلسطيني قبل النكبة، خصوصاً في فاعليته لم يكن يترك فراغاً اطلاقا بين أجزاء المكان الفلسطيني … فلا فراغ بين المكان والإبداع، بل المفردتان ملتصقتان كالروح في الجسم . وليس غريباً على سميح مسعود أن يلتقط بقلمه الراصد والمتحفز تلك المفردات، عندما كتب سيرة هذا التراث الفني الذي تغنى به عبر صور مختلفة، لكن الصورة التي رصدها ذات دلالة …
(وبينما كنت أخط هذه السطور توقف ناظري عند خبايا الأرشيف الفلسطيني في الناصرة، وجدت فيه ما يؤكد على أن أم كلثوم زارت حيفا بالقطار في زمن مضى، وأحيت حفلتين غنائيتين، احداهما في شارع الملوك وثانيتهما في مسرح متنزه الانشراح، غنت فيه بعد ان أرخى الليل أستاره الرقيقة على حيفا في تلك الأمسية، أغنية ‘أفديه إن حفظ الهوى’… تحمست سيدة حيفاوية ساعتئذ ٍ وصرخت ضاغطة على حبالها الصوتية من شدة طربها لأم كلثوم : ‘أنت كوكب الشرق’.
وهكذا نالت أم كلثوم لقب كوكب الشرق في حيفا . اطلقته عليها سيدة مجهولة اسمها أم فؤاد، والتصق هذا اللقب بأم كلثوم طوال حياتها.
وغنى في حيفا محمد عبد الوهاب ومنيرة المهدية وفريد الأطرش وأسمهان وسهام رفقي وحليم الرومي الذي عاش فيها مع أسرته وعمل وأنهى دراسته في المعهد الموسيقي العربي وغيرهم ) ص. 24 .
عندما تقول مثقف بعينه أنك تقول قنبلة أو وردة … أو فكرة … وما العالم إلا فكرة، والفكرة إما خير أو شر . كل ما حولنا من مثقفين هم مجموعة من البشر بهم الاشرار والاخيار بهم الثوار وبهم المرتزقة والخونة … ليسوا كلهم سواء …
إن مشكلة المثقفين العرب عامة والفلسطينيين خاصة ازدواجية وغيبوبة ثقافية ينتقلون من خندق إلى آخر بحثاً عن ملجأ اقتصادي وآمان وهمي …
وأذكر هنا في حديث مع الشاعر الراحل أمل دنقل في مجلة الاسبوع العربي اللبنانية عدد 72 في 25 مارس 1974، قال أمل دنقل عن المثقفين (الوضع الثقافي في مصر اليوم يمر في مرحلة من الترهل . إن الكتاب الذين بدأوا ثوريين منذ شبابهم تحولوا بفضل الظروف العديدة الى مرتزقة وهذه محنة الثقافة الحقيقية في مصر … إن الخوف قاد الكثيرين منهم إلى التسليم وإلى نوع من الانفصام العقلي فهم يدلون في أحاديثهم الخاصة بأراء ثم يكتبون نقيضاً ويتبنون مواقف غير التي يتداولوها. إني أعتقد أن الجيل السابق لا يختلف كثيراً عن الجيل الحالي).
أسوق هذه الاستشهادات للشاعر أمل دنقل للقول ان سميح مسعود، هو الذي دفعني بتلك الاستشهادات، فسميح كما عرفته منذ اليوم الأول، وحتى هذه اللحظات ما يقوله في الجلسات الخاصة، يكتبها مقالا، أو شعراً، أو رأياً، وهذا ما فعله مؤخراً في سيرته الذاتية ‘حيفا … بُرقة: البحث عن الجذور’ فكتب بكل جرأة عن تاريخ محدد من تاريخ شعبه، بدون تزييف أو بتجميل للقبيح:
(توسع النقاش بعد ذلك ودار حول التجربة المريرة للتصفيات الجسدية للمخالفين في الرأي السياسي وآثارها السياسية الخطيرة على موضوع الوحدة الوطنية، كما دار الحديث حول التقسيم وحول رغبة الحكومة البريطانية بإنهاء الانتداب بعد أكثر من عقدين على الإنتداب … كانت الجلسة حافلة بأحاديث ٍ كثيرة سمعتها لأول مرة، وكالعادة كان جارنا رشيد الإدريسي آخر من تحدث من الحضور،أجال بصره بينهم، وقال: ‘يقنعني أي رأي يأتي من خارج الزعامة التقليدية المتحجرة، لأنها تتفنن دوماً في جلب الضرر والمصائب للقضية الوطنية، على الأقل لم يلوث اليسار بالاغتيالات والتصفيات، وأراء نشطائه لا علاقة لها بالزلمنة والعشائرية وتقديس الزعماء …) ص . 133، 134.
يكون البحث اشكالياً بالمعنى الذي يتحول فيه إلى مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها علينا، وأتصور أننا من الممكن أن نرقى إلى مستوى البحث عندما نتعامل معه بمنطقه، أي أن نضيف إلى الأسئلة التي يطرحها أسئلة جديدة، فمن المؤكد أن أحد المعاني الضمنية التي ينطوي عليها هذا الكتاب ‘حيفا … بُرقة : البحث عن الجذور’ معنى يقول: أنه لا سبيل الى التحديث ولا سبيل إلى تجاوز الماضي والحاضر بسلبياته إلا عندما نبدأ في صياغة الأسئلة وطرح الأسئلة وأن نبدأ بالشك في كثير من المسلمات التاريخية الرسمية ألتي آمنا بها طويلاً.
وهذا ما فعله سميح مسعود في رحلته بالبحث عن الجذور، وإن كان قال ذلك عبر تقديم لوحة فنية تأسر المشاهد قبل القارئ، وفي كلا الصورتين أوحى مسعود بالتالي :
(شعرت في تلك اللحظة أنّ جذوري بهما أصبحت أعمق وأكبر، شعرت أنني بالبحث عن الجذور تعرفت على نفسي أكثر، وتأكد لي أنّ لدي ما يكفي لكي اكون جذراً لأحد، يكفي لكي تتدفق عصارة جذوري إلى أحفادي، لكي تنبت في فصول أيامهم، ويتعرفون بها على وطنهم بأرضه وإرثه التاريخي المتراكم عبر الزمن) ص . 307.
هل يمكن أن تبقى سيرتنا الفلسطينية حية؟ هذا ما سعى له سميح مسعود في كتابه الذي توحدت فيه جذوره مع مسقط رأسه حيفا وقريته بُرقة وأصبحتا معاً أيقونة حياته.

1