أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
أن تخاف على ذكريات كما تخاف على حياتك!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 29.10.2020

إلى أمي
أي مصادفة هذه أن يكون موعد هذا المقال هو يوم رحيلك، هل هناك موضوع أكبر من هذا يستحق الكتابة، وكل شيء فيك؟!
قبل عام رحلتِ، في مثل هذا اليوم، سأعترف لكِ أنني لم أكن أفكر بالكتابة إليك، لأنني كنت أعتقد أن ما كنت أريد قوله لكِ قلته في «بسم الأم والابن» وقلته في «طيور الحذر»، والرواية الجديدة التي لا بدّ أنك عرفتِ اسمها حتى قبل أن أكتبها! الله. كم أنتِ حاضرة فيها، وكم أكتشف في كل مرة أكتب عنكِ أشياء جديدة لم أكن رأيتها من قبل، أو لم أكن عشتها من قبل كما ينبغي أن تُعاش.
الآن يمكن أن أقول لكِ إنني لا أعرف متى سأتوقف عن الكتابة عنك؛ أنتِ لا تنتهين.
كنت تقولين لي، أنتِ التي عانيتِ من أمراض تسعين عاماً كانت أمراض الجسد أكثرها رحمة: شوفْ! أنا بعرف! ما راح أشفى من أمراضي إلا لما أموت!
فأحاول تغيير الموضوع:
– كنت تريدين أن تقولي لي قصة، أمْ تراجعتِ؟
– «لا، لم أتراجع، سأظلّ أحكي لك كل ما عشته، كل ما أتذكره، ولكن أنت تعرف: شو بدي أتذكر لأتذكر؟! هو قليل اللي عشته! سأقول لكَ قصة أخرى، لتحفظها، لا أريد أن تموت هذه القصص إذا متُّ؛ أريدك أن تعرف ما حصل، فأنتَ الكبير».
*رياح الذكريات
حين كانت تهب عليكِ رياح الذكريات، ذكرياتك في فلسطين، يستمر ذلك عدة أيام. في ذروتها تطلبين أن نأخذكِ إلى الطبيب. كنتِ تخافين على ذكرياتك أكثر مما تخافين على حياتك.
في كلّ مرة كنت تريدين أن تثبتي لنا أنكِ ما زلتِ قوية وتعيشين حياتك كلها، وتتذكرين ما مضى منها!
والآن، لا أغبط نفسي لأنني عشت عام 2020 بعدكِ، ولا أغبطك لأنك لم تعرفي ما حصل فيه.
«لقد وصلنا إلى تلك الدرجة التي لا نبتهج فيها بحياة ولا يهزّنا فيه الموت».
هذا الكلام ليس لي، إنه لكِ.
حين كتبتُ سيرتك نثرًا في «طيور الحذر»، اكتشفتُ أنني لم أكتب كل ما أريد، بالطريقة التي أريد، فكتبتكِ شعرًا في «بسم الأم والابن». كان عليَّ منذ البداية أن أكتشف أن النثر أقلّ من مقام روحك، وأضيق من اتساع قلبكِ مهما اتّسع بحر هذا النثر وماج.
ولذا، حينما رحلتِ في ذلك الفجر، في مثل هذا اليوم، رحتُ أستعيد بعضًا من ثلاثين قصيدة ضمها ذلك الديوان، هي سيرتكِ، فأحسستُ أنني كتبتُ كل شيء عنكِ، أحببتكِ وعشتكِ، حتى قبل أن أولد، وقبل أن تولدي؛ كم أحب أسطورتك عن أبيك.. أطمئنكِ كتبتها!
تعرفين، من المهم أنني لم أنتظر أن يحرقني فقدانكِ حتى أكتب عنك، كتبتُ عنك في أوجكِ، أنت التي لا تخطئين في ترديد واستعادة أسماء سبعين ابنًا وبنتًا، حفيدة وحفيدًا، كما لم تخطئي قَط في وصف طعم حبة تين قطفتِها ذات وطن عن شجرة في حوش بيتكِ هناك، في قريتك المدمرة، ولا ترتبكين، كالكتّاب، إذا ما وجدتِ نفسك على وشك وصْف نسمة قادمة من البحر؛ ستصفينها بدقة كما لو أنها حفيدة جديدة وضعوها بين يديكِ لتختاري لها اسمًا وحلمًا.
كنت تربكينني بحكمة روحك وكأنك تتنفسين، وحين تشاهدينني أكتبها، تقولين لي بجدية: «هذا الكلام مش للنشر!» أو حين تُسمعيننا حكاية، وتلتفتين إليّ وتقولين لي، أنتِ التي تعرفين كم أحبُّ السينما: «عليك أن تتذكّر، لا أريد أن أشاهد قصصي هذه غدًا في الأفلام!».
حين أدركتِ حجم إصراري على أن أدرس الموسيقى، أنا الذي لم يشبعني أيّ فن! قلتِ لي: «وماذا ستصبح إذا درستَ موسيقى؟ طبّالاً خلف سميرة توفيق؟!» في زمن كان الطبّال خلفها يسرق الأضواء من فرقة موسيقة كاملة.
لكنك، وكم هو أمر غريب هذا، أقنعتِ أبي في النهاية أن يسمح لي بدراسة الموسيقى، في واقع يعتبر الموسيقى فضيحة كالوقوع في الحب!
إلى أن حدث بعد ذلك ما حدث!
كنتُ أريد أن أقول لك شيئًا آخر، لا عمّا عشتِهِ، فكلّ شيء مرَّ في حياتك عشتِه عشرات المرات، مئات المرات، عشتِه إلى درجة لم يعد فيها قابلًا لأن ينتهي.
*جيوش وقادة
أتذكرين حينما توقّفنا ذات يوم في منطقة الأغوار، على الضفة الشرقية لنهر الأردن، وقلنا لك تلك «أريحا». لم تصدّقي، لم تصدّقي أن مسافة قصيرة كهذه، ما بينك وبين تلك المدينة المحتلة، لم تستطع جيوش العرب كلها اجتيازها خلال ستين عامًا. كنا نعيش أيامها الذكرى الستين، فقلتِ: والله وأنا العجوز، لو تركتوني، لاجتزتها في ساعتين!
تلك اللحظة اختطفتُها، دون علمكِ، وكتبتُها في رواية «حارس المدينة الضائعة».
لم تفرحي يومها بالرحلة، بقيتِ صامتة.
وفي طريق عودتنا، على مشارف العاصمة، سمعتكِ تقولين بلا مقدّمات:
«كأننا أخطأنا منذ البداية، كأننا أسأنا التقدير حين اعتقدنا أنهم سيحرروننا. فِكْرَكْ فلسطين هي اللي رايحة تحررهم؟!».
لم أكن أريد أن أصل إلى هذا الجزء وأنا أتحدث معك، بعد عام من رحيلك، هذا كلام لا يقال إلا في مجلس عزاء، وأنت لم تموتي، لم يمت إلا أشباه القادة الغِلمان.
بعد عام من رحيلكِ، وقد تمَّ احتلال ثلاثة أوطان عربية في أقل من نصف خريف، دون أن تطلق رصاصة واحدة، أفكر جيدًا في رحلتنا الحزينة تلك، وأنا أستعيد ما قلتِ بأسى: « فِكْرَكْ فلسطين هي اللي رايحة تحررهم؟!».
وبعد، في حديثك عن حقلكِ:
التِّينُ والزّيتونُ، والسَّروُ الدّوالي
المرْيـَمِيَّةُ في ظلال البرتقالِ
وريحةُ الليمونِ، فوْحُ الياسمينةِ في الليالي
الّلوزةُ الخضراءُ، والرُّمانةُ.. العِنَّابُ
والمشمشُ والصُّـبيرُ
صفصافُ المواجع في الأعالي
الـحَوْرُ والرّيحانُ، روحُك، والبدنْ
ها كلُّ شيء، ههنا، في حقلِ منفانا تماماً
مثلما في أرضنا الأُولى.. ولم يَـدُر الزَّمنْ
لنَـحُسَّ نصفَ دقيقةٍ أنَّ المنافي كالوطنْ

1