أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
في كتاب «ناس الغيوان».. الغناء والشفاء من الشقاء!!
بقلم :  نورة عبيد ... 10.08.2020

أغلب الكتابات التي تناولت «ناس الغيوان» كانت ذات نزعة توثيقية أو سوسيوثقافية. غير أن الناقد والمترجم عبد الله الحيمر، حاول أن يقدم عملا تداوليا له فضل اكتشاف الاحتفالية الغنائية في المشروع الموسيقي الحضاري للمجموعة، في كتاب صدر عام 2020 تحت عنوان «ناس الغيوان: خطاب الاحتفالية الغنائية» وللكتاب عتبات عديدة؛ منها ما يتعلق بالعنوان والتصدير وأقسام الكتاب.
«كل وجدان كبير هو ابن لمعرفة كبيرة» ليوناردو دافنشي. نعلم سلفا أن التصدير عتبة المعنى والتأويل. تختصر روح قراءة الكاتب لخطاب الاحتفالية الغنائية، بالكشف عن مقومات رؤيته ووسائلها، فكما صور ناس الغيوان بالكلام والألحان، صور دافنشي بالألوان، وتقصى منابعها وروافدها قدر الإمكان. فكانت بين وجد ومعرفة كبيرين. وما استعارة الكاتب لهذا القول – والأقوال حكم التجارب وعصارتها ـ إلا دليل على النهج الذي به أدرك خطاب الاحتفالية الغنائية؛ الوجد والمعرفة.
تضمن الكتاب مدخلا بعنوان: «الإسلام والتغير الاجتماعي بالمجتمع المغربي». يكشف المدخل أن «ناس الغيوان» توفرت دواخلها الفنية على مقومات الزمن المغربي الوسيط. والمتمثل في النهضة الفكرية أيام الأدارسة المستلهمة من الإسلام الذي محا الاسترقاق والاستعباد الروماني. ومن التصوف المغربي الذي تزامن مع عصر الثورات والفتن الداخلية وسقوط الدولة المرينية، وعنوان هذا التصوف سيدي عبد الرحمن المجذوب. وكما انعقد الإسلام والثورات على روح الرفض والتغيير والتبديل، انعقدت كذلك «ناس الغيوان» على هذا الصراط المستقيم. يقول الكاتب: «لقد حملت مجموعة «ناس الغيوان» في دواخلها هذا الزمن الوسيط المغربي، تمثلوا الماضي كذاكرة شعبية، منحوا جمالية لاحتفالية غنائية لطقوس لم تكن معهودة، إلا في ثقافة المواسم والزوايا وليالي الحضرة والجذبة، بالنهل من الشعر الصوفي المنتشر في المغرب كثقافة المواسم والزوايا والاحتفالات الدينية». انبنى الكتاب على أربعة أقسام لها من العناوين الرئيسية ما يلي:
ـ الأغنية العصرية المغربية والاحتفالية الغنائية
– عبقرية المكان «الحي المحمدي»: حي الاحتجاج الصوفي والفني.
– النسق التاريخي للروح الغيوانية.
– خطاب الاحتفالية الغنائية عند «ناس الغيوان «، في مرجعياتها الوضعية والدينية.
– ريبرتوار لمجموعة أغاني ناس الغيوان.
توفر التقسيم على بعد نسقي حول نشوئية الاحتفالية الغنائية عند «ناس الغيوان» وتطور حضورها الفني وطنيا وعربيا وعالميا. منطلقا في ذلك من أثر الهجرات العربية والافريقية والقوافل التجارية إلى المغرب على الرصيد الموسيقي المغربي، واستدل بهجرة اليمنيين وقبائل هلالية وخليجية وافارقة القرن الافريقي العربي، تلك التي أذكت المتون الغنائية القائمة على الإنشاد والسماع والمديح. ولا يخفى على الدارس أن هذه المتون التقليدية تنقسم إلى ثلاث ثيمات موسيقية في المغرب: الموسيقى الشعبية كالملحون والعيطة الشعبية والموسيقى الأندلسية التي نشأت في الحواضر التي استقر فيها القادمون من الأندلس والأغنية العصرية المغربية في المدن الكبرى. بعد استقلال المغرب نشأت موسيقى لغة تشبه الناس في أحوالهم وأحلامهم؛ تقول حاجاتهم وتظهر أثلامهم. في هذا الإطار تتنزل موسيقى «ناس الغيوان» باعتبارها إحياء لنغم متوارث من رحم الثورات، يشق طريقا للحرية بالكد والعمل والبحث المستدام: «فالغناء الذي اعتمدته فرقة ناس الغيوان نهل من هذا التراث الصوفي وتماهى معه أحيانا، ولكن بإسقاط معاصر. لقد كانوا أصحاب رسالة ومشروع، غنوا للناس بكلامهم اليومي المعتاد، دخلوا في بيوتهم وأعمالهم وحقولهم ومراعيهم، خاطبوا المرأة والأرض والسلام والحرية والحروب والمهاجرين ومعاناة الاغتراب، وغيرها من القضايا المستنبتة من الواقع المغربي والعربي. كانوا رسل جددا للأغنية الشعبية المغربية».
فلا غرو أن يكون «الحي المحمدي» كحي الاحتجاج الصوفي والفني، دالا على عبقرية المكان، تشكل مع بدايات القرن العشرين وترامى وامتد إبان الاستقلال المغربي، إذ ضم النازحين الباحثين عن العمل من قبائل الشاوية ودكالة وعبدة والصحراء المغربية. والعدل أساس العمار، ولم يكن عمرانه سوى بيوت من صفيح وأحياء من حجارة وطين ودروب وأكواخ (كريانات). هذه التجمعات السكنية، أنتجت ثيمتها الجمالية ضمن أجواء الاحتفالات والتضامن المصاحبة لكل موطن للبشر، ثيمات تحاكي الموجود بنبرة الوجود ورد الاعتبار لكل مفقود. ولعل الفنون الشعبية أكثر الفنون التصاقا بسيرة الحياة الكادحة، لذلك برزت في الحي المحمدي فنون شعبية عديدة ومتنوعة كالفلكلور المغربي وفضاء الحلقة، متون شفوية أنتجت بدورها حلقات كالمونولوج والمسرح. تعبيرات ثقافية احتفالية تجلي تعب اليومي وتنسي الغمة، تحاكي عاداتهم وتقاليدهم، تبرز خصوصياتهم في الاحتفال مستمدة من طقوس دينية وصوفية في الأساس.
فالاحتفالية الغنائية ظاهرة عامة يعيشها المجتمع الإنساني، تصور حياته بدون زيف أو نفاق أو خوف، إذ هي الحياة بكل أبعادها متحررة من كل قيود وضغوط مهما كانت دواعيها. وليس غريبا إذن أن تظهر فرقة «ناس الغيوان» ضمن المد الثوري الذي ظهر في فرنسا وحركة مايو/أيار 1968، حراك سياسي واجتماعي يناهض الرأسمالية المتوحشة، وينادي بالحرية والتحرر والمغامرة الفردية.
مجموعة «ناس الغيوان» ولدت من رحم الحرمان في الحي المحمدي، من رحم الاحتفالية الدينية الصوفية، في بداية سبعينيات القرن العشرين، ولدت في مسرح «الطيب الصدقي» ففكرة «بوجميع» وشارك في مناقشتها محمد زفزاف. تأسست سنة 1970 تحت اسم «الدراويش الجدد» حتى عثر «بوجميع» على اسم «ناس الغيوان» داخل التراث الصحراوي المغربي الأصيل. وللاسم كل الدلالات التي تهبه جوهره وحاله ومداه. فناس «الغيوان» أهل الترحال والتجوال، وناس المحبة والخير والسلام؛ أهل الفهامة والعشق والغرام». هم خمسة بوجميع أحكور والعربي باطما وعبد الرحمن بكو – رحمة الله عليهم ـ وعلال يعلى وعمر السيد. لم يواصلوا التحصيل المدرسي ولم يتعلموا الموسيقى في المعاهد. احترقوا بطفولة قاسية بأحياء الصفيح، نسجوا أسطورتهم الحية باحتفالية غنائية من رحم الاحتفال الديني والمسرح، شذوا عن الموجود بأنغام تجيش الوعي الجماعي المغربي برد جمالي متحرر من كل ما هو مسطور ومقيد ونظامي ومؤسساتي، يشبه أحياءهم أكواخهم ودروبها، يشبه ناسهم وأهل الحال والترحال في المعنى والمجاز، فكان التضرع لغير الله والترقق مذلة واندثار: «لقد تم شحن الزمن الهامشي، بإعادة الهوية الأصيلة إلى الوعي الجماعي، وخلق نوع من التوازن السيكولوجي مع تبعات التغيير الاجتماعي الجديد. وهذا ما فعلته ناس الغيوان. أخرجت الهوية والتراث الموسيقي من محيط الحي المحمدي إلى الوطن بأكمله، أعادت التمسك باللحمة المغربية بمضمون هذا المخزون الثقافي الشعبي، وجعلته جامعا للهوية والاندماج المغربي، وخزانا مقاوما لتغريب المجتمع المغربي (ضياع الأبعاد والمعالم) وانتزاعه من تراثه الشعبي المغاربي والعربي».
«ناس الغيوان» ليست فرقة موسيقية وحسب، بل هي احتفالية غنائية الوجود والمجتمع، هي الفن الذي يعطي للموسيقى معنى وللحياة مغنى، حتى تصير الموسيقى توأما للفكرة والمذهب والنهج الذي به تواجه الحياة كما تجلت هنا «في الحي المحمدي» وهناك في كل مكان. «جاءت من رحم سوسيوثقافي، بإرادة فردية / جماعية، بلغة بسيطة / يومية متداولة / وبآلات موسيقية أثثت المشهد الغنائي المغربي القديم، تعزف وبألحان من جذور التربة المغربية». إنه خطاب غنائي احتفالي متحرر من ربقة العنف اليومي وبؤسه، وهشاشة الوضع الإنساني وبأسه خطاب مشحون بجرعات الشفاء من الشقاء والهموم، مشحون بخطاب سيكولوجي انفراجي، يجعل المنادى قريبا يلبي دعوة الداعي إذا دعا. فهو خلق متنوع كأصولهم ودروبهم بعيدا عن التحزب، غايته التصالح مع الثقافة الشعبية والأغنية الشعبية كمعادل وجودي، مشحون بقضايا العصر والواقع، وصوره واحتفاليته الغنائية، حتى يتجدد الوعي بأهمية التماسك الاجتماعي والعدالة الاجتماعية عبر دهشة النص الصوفي والنغمة الصوفية، والاحتجاج الصوفي، الجسد في مصعد الروح والنغمات تراتيل السماء. خطاب غنائي شائق صاغه الكاتب عبد الله الحيمر في عمق ودقة، كشف ان «الاحتفالية الغنائية الغيوانية» تدرك بدورها بتبويب الأغاني وفق مرجعية موسيقية، ومرجعية دينية تظافرت على إنتاج احتفالية غنائية ملتزمة امتدت عقودا، حتى لفتت انتباه الفرنسيين والأمريكيين، خاصة بعد عرض الفيلم الوثائقي «الحال» سنة 1981 للمخرج المغربي أحمد المعنوني، فيه سافرت الموسيقى واستقرت في المشترك الإنساني العظيم، ذاك الذي يروي الحياء البشري، حياء المهمشين والمحقرين المستقرين على أحزمة المدن الكبرى، في أي موطن وبر. فما أشبه الحي المحمدي بحي «لابوكا» في بيونس أيريس، ذاك الحي بقصديره وألوانه المتنافرة، أنتج موسيقى «التانغو» ورقصات «التانغو» وبات محجا للفنانين والسائحين في العالم. فلم لم يتحول الحي المحمدي كذلك؟ إيقاع القلوب دليل الموسيقى في حياة الشعوب، ويدلنا عليها خطاب الاحتفالية الغنائية عند ناس الغيوان منهجا وتوثيقا وتأويلا. فالموسيقى إيقاع محصلة تربوية متكاملة تنهل من محصلة تراثية ذات جمالية في ديناميكية تفاعلية بين أصالة البيئة الثقافية وجدارة التجديد والتطوير. ارتحال كتلك الآلات الوازنة في الاحتفالية ترتد إلى ذهني محملة بثنايا المكان والزمان. ثنايا تقاطعت بين أسين، أس عربي (البداوة والصحراء) وأس افريقي (موسيقى العبودية المؤجلة). خطوات بخطوات تجد وطنا في الكلمات على عتبات مدينة الهامش الدار البيضاء في الحي المحمدي.
هنا نتعرف على الكاتب بصيغة الباحث العضوي، وعلى المشاء في براري الروح الشعبية المغاربية والعربية الذي أرخ للناس مرجعيا وحجاجيا، ليؤكد الاحتفالية الغنائية بمرجعيتها الدينية والوضعية، مدنية أولى جمعت حكمة الهامش الجميل المجذوبين والمهمشين والمشردين والدراويش والفنانين. جمعت فيض الإنسان وقدرته على تحدي العدم، باحتفالية غنائية دينية حضرية حضارية: «فخطاب الاحتفالية الغنائية عند ناس الغيوان، ليست نظرية أكاديمية أو أبستمولوجية» أو محاولة للنقد، خطاب العقل الديني والأخلاقي للمغاربة، ليست له حمولة أيديولوجية، صاف من كل شيء إلا من إنسانيته وكونيته، يجعل من الموسيقى بوصفها محفزا كبيرا لمختلف الظواهر في المجتمع المغاربي والعربي، بموسيقى تقيم حفلا كبيرا ليس في الروح وحسب، بل أيضا في وخز الوعي».
الكتاب في الأخير، مدونة مرجعية تؤرخ لفرقة «ناس الغيوان» السيرة والمسيرة ذات أبعاد تداولية نابعة من خطاب الاحتفالية الشعبية المغربية والمغاربية، ترصد المشترك في الأصول والتطلعات الفنية. تلك التي تعتني بالتراث الإقليمي وتهبه شرعية عربية وكونية. شرعية تستمد مقوماتها من الانتقاء الواعي للكلمات: «صرخوا صرخة الاحتفالية الغنائية؛ ليعيدوا التوازن النفسي لمخيلة شعب بأكمله. كسروا حاجز الصوت، بالحكمة والكلمة الموزونة، وبالإيقاع الشجي، كانوا منارات تهتدي بها الطبقة المهمشة والمسحوقة في ظلمات الروح، وتكسر الأفق المسدود، وتزرع بذور الأمل والفرح في جسد الذات المغربية. فتحوا أبواب الاحتفالية الغنائية نحو نداءات المستقبل المؤجلة».

٭ كاتبة تونسية..المصدر:القدس العربي
1