أحدث الأخبار
الأربعاء 24 نيسان/أبريل 2024
المثقف القلِق وتوليد «الطبقة الوسطى الثقافية» !!
بقلم : د.خالد الحروب  ... 19.01.2019

كيف يمكن أن يشتغل «المثقف القلق» ومعه قلقه الدائم على مستوى المجتمع و«المشروع الوطني»؟ وأين يمكن موضعته في سياق دفع المجتمع والوطن إلى الأمام وتنميته؟ ليس من السهل تناول هذا السؤال، وليس ثمّة زعم بأن ما تقدّمه هذه الصفحات يتضمن جوابا كافيا أو وحيدا، لذلك فإن المقاربة التالية لما يمكن أن ينجزه ويقوم به المثقف القلق، ومن دون أي ادعاءات رسولية وتبشيرية، هي مجرد تأمل من زاوية نظر محددة، وهي زاوية مساهمة هذا المثقف في تشكيل وتعميق «طبقة وسطى ثقافية» تشتغل فيها مكوّنات القلق مثل اللايقين واللاتمركز، وعدم الوقوع في أسر الأيديولوجيات الخلاصية أو السرديات الكبرى.
وتعبير «ثقافية» هنا يحمل المدلولات الأوسع، التي تتضمن الأبعاد الدينية والاجتماعية والفكرية والأيديولوجية. في هذه الطبقة الثقافية الوسطى المُفترضة والمأمولة تتقارب أمزجة «التيار العام»، لكنها لا تتوافق تماما ولا تتماهى مع بعضها بعضا. تتسم الطبقة الوسطى الثقافية بسيادة قيم التعايش والتعددية والاحترام المُتبادل والقبول المتبادل بين الجميع والإقرار بحرية تفكيرهم وسلوكياتهم، رغم رفضها وعدم الاقتناع بها.
كلما اتسعت «الطبقة الوسطى الثقافية» أفقيا وتعمّقت رأسيا في أي مجتمع، فإنها تؤسس لتوافقات ثقافية وفكرية وسياسية، تنجذب إليها شرائح المجتمع بمختلف خلفياتها، وتشكل التيار الرئيس في المجتمع ثقافيا وعقلانيا ومزاجيا.
على ذلك فالتوافقات الثقافية هنا تتوزع عمليا على مجموعتين، أُولاهما وأهمّهما منهجية تؤسس لآلية التفكير وآليات الاجتماع السياسي وطرائق تداول الأفكار، والثانية فكرية مباشرة ومتعلقة بمجموعة وعمق الأفكار التي يتم التوافق عليها من خلال التجربة العملية (مثل أفكار أولوية المجتمع المدني، والحرية السياسية والاجتماعية، وفصل الدين عن السياسة، وهكذا).
مجموعة أو مجموعات الأفكار التي تظل خارج نطاق التوافق داخل المجتمع يتم التعامل مع الاختلاف حولها من خلال التوافق المنهجي على كيفية التعايش وعلى قاعدة التعددية.
كلما اتسعت «الطبقة الوسطى الثقافية» أفقيا وتعمّقت رأسيا في أي مجتمع، فإنها تؤسس لتوافقات ثقافية وفكرية وسياسية، تنجذب إليها شرائح المجتمع بمختلف خلفياتها، وتشكل التيار الرئيس في المجتمع ثقافيا وعقلانيا ومزاجيا.
وكلما تماسكت قناعات وثقافة وممارسات هذه الطبقة (رغم تعدديتها الفائقة، ولايقينها الراسخ) استطاعت أن تحمل فوقها السياسة وخلافاتها وشروخها وتعدديتها، من دون أن تؤدي تلك الاختلافات إلى انشطارات رأسية تدمّر المجتمعات. عمق وترسّخ التوافقات التعددية والفكرية -الاجتماعية لهذه الطبقة، يعني تصليب المساحة التوسطية الأعرض في المجتمع، بحيث لا تقود الخلافات السياسية إلى تهشيم الطبقة الوسطى التي تحمل المجتمع برمته، ولا إلى الانقسام الرأسي فيه.
الانقسامات والاختلافات والصراعات الحزبية وغيرها تقع فوق سطح طبقة التوافقات الثقافية الراسخة ولا تشقّها، أما إذا كانت تلك الطبقة هشّة ورقيقة والتوافقات الفكرية – الاجتماعية ضعيفة، فإنه لا يكون في مقدورها احتمال ثقل الاختلافات التي تدور بين الفئات والمجموعات المختلفة داخل المجتمع، سياسيا وحزبيا ودينيا أو غيرها، وسرعان ما تتحطم وتتشظى ومعها المجتمع نفسه، حيث يبرز الاستقطاب الرأسي ضاربا في أعمق نقطة في ذلك المجتمع.
من منظور آخر، يمكن تعقّل وفهم موقع وأهمية «الطبقة الوسطى الثقافية» عبر مقارنتها بـ«الطبقة الوسطى» بالمفهوم الاقتصادي، ويشكل وجودها واتساعها وعمقها في أي مجتمع من المجتمعات الحامل الأهم للسياسة والتنمية والديمقراطية.
من دون «طبقة وسطى» اقتصادية قوية وواسعة وتشمل غالبية المواطنين، تتقارب فيها الدخول وتتشابه الهموم والقضايا والاهتمامات، فإن المجتمع ينحدر إلى انقسام مريع بين هوامش طرفيّة فاحشة الثراء، وغالبية كاسحة بالغة الفقر، تفصلهما عن بعض فجوة هائلة، وهذه الفجوة هي التي تحتلها «الطبقة الوسطى» وقوّتهما واتّساعهما، أو غيابهما، يعكسان درجة نجاح النظام السياسي والاقتصادي في توزيع الثروة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية، أو عدمه. وقد اعتبر كثير من المنظرين وجود هذه الطبقة واتساعها وتعمّقها شرطا أوليا لتحقق الديمقراطية أو أي انفتاح سياسي تعددي.
بيد أن السؤال المُلحّ هنا يدور حول كفاية شرط «الطبقة الوسطى الاقتصادية» لقيام أنظمة سياسية تشاركية وتعددية وديمقراطية في البلدان العربية، أم من الضروري وجود شروط أخرى ملازمة لذلك الشرط، لا تقل أهمية عنه في الحالة العربية؟ ما تطرحه المقاربة هنا هو المغامرة بالقول إنّ هناك شرطا آخر لا يقل أهمية للانتقال من الحقب الاستبدادية نحو أي شكل سياسي تعددي وتشاركي، وهو قيام وتوسيع «الطبقة الوسطى الثقافية» وتعميقها.
عندما يقع أي مجتمع فريسة للاستقطاب الثقافي الحاد (الإسلاموي والعلماني، أو المدني والعسكري، أو الديني الطائفي، وسوى ذلك) فإن مساحة «الطبقة الوسطى الثقافية» تختفي لمصلحة الأضداد المتنافسة والمتعاركة.
وكلما تطابقت دائرة «الطبقة الوسطى الثقافية» مع دائرة «الطبقة الوسطى الاقتصادية»، تحقق تماسك أكثر في المجتمع وتقارب في المزاج الثقافي والفكري يعزز من الأساسات المشتركة، ويستطيع تحمّل أي خلافات سياسية أو غيرها من دون أن ينشق ويتحلل.
يمكن أن يتضح مفهوم «الطبقة الوسطى الثقافية» والمراد منها أكثر، عندما نتعقّلها من منظور نقيضها وهو «الاستقطاب الثقافي» (وهنا يكون الثقافي بمعناه العريض والعمومي ومتضمنا الأيديولوجي والديني والفكري والسياسي).
وعندما يقع أي مجتمع فريسة للاستقطاب الثقافي الحاد (الإسلاموي والعلماني، أو المدني والعسكري، أو الديني الطائفي، وسوى ذلك) فإن مساحة «الطبقة الوسطى الثقافية» تختفي لمصلحة الأضداد المتنافسة والمتعاركة، وتتوالى الانشقاقات الطولية حسب الأيديولوجيات والطوائف والولاءات القبلية والجهوية وغيرها، لتكون هي السمة الأبرز للمجتمع. وفي حالة كهذه يصعب الوصول إلى مشتركات ثقافية وتوافقية تشكل البنية المتوسطة والوسطية للمجتمع المدني، التي هي ما نصفه هنا بـ«الطبقة الوسطى الثقافية».
الاستقطابات الحادة والمدمّرة هي نتيجة التصلب الأيديولوجي والولاءات الطائفية والجهوية العمياء، وهي في المحصلة النهائية نتاج ثقافات اليقين، ويقودها ويساهم في تعزيزها «مثقف اليقين». وعلى النقيض من ذلك يعمل «مثقف القلق» على إزالة الحدود الأيديولوجية ومساءلتها وتخفيفها وتفكيك الولاءات العمياء، ودفع الأفراد والمجموعات إلى تعقّل الأمور من زاويتي الشك والقلق الصحي، وليس اليقين الأعمى، وهو بهذا يساهم بفاعلية في إقامة وترسيخ القلق المشترك والأفكار المشتركة وطرائق النظر المشتركة، وكلها تعزز وتشكل «الطبقة الوسطى الثقافية».
يمكن فهم موقع وتعريف «الطبقة الوسطى الثقافية» من زوايا أخرى أيضا، منها عدم حصر التعريف والنظرة لها في المنظور الديموغرافي، أي أن «الطبقة» المقصودة هنا ليست ديموغرافية عددية تناظر «الطبقة الوسطى الاقتصادية» عدديا، ويكون الهدف هو زيادة نطاقها، أي كلما زاد عدد أفرادها ترسّخ وجودها. هذا فهم أوّلي ومباشر لمفهوم «الطبقة الوسطى الثقافية»، لكن الموازي لذلك والأهم منه هو تبلور وانتشار أفكار وممارسات ومناهج التفكير والمقاربات العامة للقضايا والإشكالات، وهي مقاربات، وكما ذكر أعلاه، قائمة على التعددية واللاأدرية واحتضان التناقض واللايقين واللاتمركز. هذه كلها وما ينبثق منها ويتطور عنها من قيم تكون برسم الانتشار والتبنّي من قبل الشرائح الأوسع، أي شرائح «الطبقة الوسطى الاقتصادية». وعندما يتحقق أكبر قدر من الانطباق بين دائرتي هاتين الطبقتين الوسطيتين: «الاقتصادية» و«الثقافية»، عندها يكون المجتمع قد أنشأ مركزه ووسطه العريض والعميق والذي يحمل كل تعددية وخلافات المجتمع وديموقراطيته ومخاطره!!

1