أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
إنها السياسة وإن تنكرت في ثوب الكاميرا… عن «الوعد» الأرمني و«الضابط العثماني»: حدث تاريخي واحد وسرديتان متناقضتان!!
بقلم : ندى حطيط ... 05.05.2017

تقوم إحدى نظريّات دراسة الثقافة المعاصرة على اعتبار الطريقة، التي تقدّم فيها النصوص (المسلسلات التلفزيونيّة، الأفلام السينمائيّة، الأفلام الوثائقيّة وغيرها الكثير من فضاءات التعبير… ) بوصفها أساساً تمثلات أيديولوجيّة، تُقدِّم وتقدّم وفق رؤية معيّنة للعالم والأحداث والأشياء. فالاجتماع البشري – وفق هذه النظريّة – هو مساحة صراع دائم بين قوى متعارضة، وبالتالي فإن على النصوص (والأعمال الفنيّة) أن تنحاز حتماً – بوعي أو بلا وعي – إلى تصور معيّن، وإلا فإنها لن ترى النّور.
ويعبّر عن تلك الفكرة المبدع الألماني المعروف برتولت بريخت بقوله: «المسرحيّة (والواقع أي عمل فنّي على الإطلاق)، جيدّة كانت أم رديئة، تتضمن حكماً تصوراً عن العالم، وليس هناك (عمل فني) لا يؤثر بطريقة أو بأخرى على توجهات الجمهور ومفاهيمه. فالفن لا يكون أبداً دون عواقب». فجميع أشكال الخطابات – مكتوبة أو مصورة – سياسيّة في نهاية المطاف، تقدّم صوراً ذات معان أيديولوجيّة في محاولة للتأثير على رؤية الناس وتصورهم عن العالم.
للتدليل على صحة ما ذهبت إليه هذه النظريّة ربما لن تجد أفضل من امتدادات الحرب الثقافيّة الدائمة بين تركيا والأرمن حول مذابح الحرب العالميّة الأولى في تشكلّها الأحدث على الشاشات: إذ أن هوليوود أطلقت – وبعد قرن من التجاهل بناء على حسابات سياسيّة وضغوط تركيّة – وفي وقت متزامن تقريباً إنتاجين هامين بميزانيات ضخمة تعدت الـ 100 مليون دولار يرويان قصص حب عاطفية تشتعل على خلفيّة تلك الأحداث المؤسفة، أحدهما يقدّم السرديّة الأرمنيّة (فيلم الوعد: إخراج تيري جورج)، بينما يقدّم الفيلم الآخر السرديّة التركيّة المضادة (الضابط العثماني: إخراج جوزيف روبن).
«الوعد»: قصة غرام متوقد على وقع المذابح والغرب هو البطل السرمدي
تقول المصادر العارفة بخلفيّات الفيلم إن تمويله بالكامل جاء من المليونير الأرمني الأصل كيرك كيركوريان وهو إسم معروف في صناعة السينما وعالم الكازينوهات في الولايات المتحدة، وقد خصص قبل وفاته عام 2015 عن 98 عاماً ميزانيّة بلغت 100 مليون دولار لإنجاز إنتاج درامي هوليوودي ضخم يجعل من المأساة الأرمنيّة خلفيّة له.
اختير لإخراج الفيلم تيري جورج الإيرلندي الشمالي وهو الشهير في عوالم تشكيلات الصورة البصرية المتخصصه في الأفلام الدراميّة على خلفيّة المذابح المأساوية، كتلك التي ارتكبت في رواندا (فيلم فندق رواندا – 0420)، وإيرلندا – (بإسم الأب – 1993)، وغيرها.
يروي الفيلم قصّة مايكل شاب أرمني وسيم (يلعب دوره أوسكار إيساك) يترك قريته الصغيرة في أرمينيا (التاريخيّة) لحظة غروب الدولة العثمانيّة ويتوجه إلى العاصمة اسطنبول لدراسة الطب، ليلتقي هناك الصحافي الأمريكي، الذي أوفدته «الأسوشييتدبرس» إلى المدينة لتغطية الأحداث العاصفة في الشرق كريستوفر (يلعب دوره كريستيان بييل)، والذي استقدم معه صديقته الحسناء الأرمنيّة الأصل التي نشأت في باريس آنا (تلعب دورها شارلوت لو بون (. يقع مايكل في حب آنا من أول نظرة، لينتهيا على خلفيّة المذابح الأرمنيّة بالهرب إلى الجبال، والانخراط في مقاومة غير مجدية، قبل التمكن من الوصول حتى الساحل، وإنقاذهما من قبل بارجة فرنسيّة.
«الوعد»، وحتى قبل نزوله إلى الأسواق للعرض الجماهيري تسبب في عواصف وضغوط، وتقول الشركة المنتجة إن عددا من العاملين على الفيلم تلقوا تحذيرات، وحاول السفير التركي أن يثني أحد نجوم العمل عن المشاركة، ولذا فقد شددت الحماية على مواقع التصوير في إسبانيا والبرتغال ومالطا تحسباً من ردود أفعال مبالغ بها.
وكان الفيلم عندما عرض للمرّة الأولى في مهرجان تورنتو الدّولي للأفلام في سبتمبر/أيلول الماضي تسبب في جدل على نطاق واسع من خلال التصويت عبر الموقع المعروف ((IMDB، إذ انقسمت الأصوات بين مجموعتين أعطت إحداهما الفيلم العلامة الكاملة (عشرة نجوم)، بينما منحته المجموعة الأخرى أسوأ علامة ممكنة (نجمة واحدة)، وهو ما يشير إلى استقطاب كبير بين الجمهورين التركي والأرمني، حتى بين مصوتين لم يشاهدوا الفيلم أصلاً. وقد أطلق الفيلم للعموم في نهاية الأسبوع، الذي سبق الـ24 من إبريل/نيسان، وهو اليوم المخصص لذكرى المذبحة الأرمنيّة واحتفت به الأقليّات الأرمنيّة عبر العالم، بينما بدا أنه سيكون مستحيلاً عرضه في الصالات التركيّة، باعتباره مجرد بربوغاندا أرمنيّة ضد تركيا.
«الضابط العثماني»: رواية نقيضة على وقع الحب والحرب
يقال إن السلطات التركيّة لمّا تناهى إليها خبر انطلاق مشروع فيلم «الوعد» بتمويل أرمني وتبدت صعوبة وقفه من خلال الضغوطات الدبلوماسيّة، أوحت إلى متمولين أتراك بإنتاج فيلم نقيض لـ «الوعد» على خلفيّة الرواية التركيّة للأحداث، والتي تنفي حدوث أعمال إبادة جماعيّة منظمة من قبل الدّولة (العثمانيّة)، بل أعمال عنف متبادل تعرّضت له كل طوائف السكان من أرمن وغيرهم في إطار الفوضى العارمة، التي ضربت البلاد أثناء الحرب العالميّة الأولى.
وقد تولى إنتاج الفيلم المخرج الأمريكي المعروف جوزيف روبن، لكنه بدا بعد تسليمه العمل غير راض عنه بسبب التدّخل المكثّف للمنتجين الأتراك في تحريره قبل عرضه على الجمهور، إذ حذفت منه أي حوارات يمكن أن تُشتشف منها تلميحات تتعلق بمذابح أرمنيّة، بل وبولغ في تصويرالضابط العثماني الشاب كبطل يجازف بحياته لإنقاذ أرمن من الاعتداءات.
المجلس الهليني الأمريكي دعى إلى مقاطعة (الضابط العثماني) معتبراً أنه أًنتج فقط للتشويش على «الوعد»، ولتقديم رواية غير دقيقة عن الأحداث وفق الرؤية الرسميّة التركيّة، بينما اعتبره تيري جورج – مخرج «الوعد» – بمثابة نسخة مشوهة من فيلمه أنجزت لغايات سياسيّة لا أكثر.
جرعة سياسة زائدة قد تطيح بالمُنتجَيْن تجاريّاً
رغم تمتع «الوعد» بمتانة تقنيّة ممتازة استفادت دون شك من خبرة المخرج جورج فإن الفيلم ربما – وبسبب جرعة السياسة المكثفة التي تتعبط به – قد لا يصيب نجاحاً تجاريّا ًهائلاً أقله مقارنة بتكلفة الإنتاج العالية، وهو ما عبّر عن القلق بشأنه المخرج نفسه، الأمر ربما يكون أسوأ على الجهة المقابلة إذ أن فيلم «الضابط العثماني» جلب خلال الشهرين الماضيين في بلدان مختارة أطلق فيها – ليس بينها تركيا التي سيعرض فيها اعتباراً من 19 من مايو/آيار الجاري – ربع مليون دولار بالكاد في مبيعات شباك التذاكر. ومع ذلك فإن الطرفين في مزاج الجدال وحروب السّرد هذه لا يجدان كبير غضاضة برهانهم الذاهب إلى حتمية الخسارة ، فلا صوت يعلو فوق صوت «الحقيقة»، ولكن عن أي حقيقة (منهما) تتحدثون؟
ومهما يكن من أمر الفيلمين، فإن هذا الصراع الثقافي – بعد انتفاء إمكانيّة الصراع الدموي لحسن الحظ – يكشف عن دور هوليوود – مصنع (الحقيقة) الأمريكي – في التعتيم لقرن كامل على هذه المذابح المؤلمة، بغض النظر عن السرديّة المعتمدة، مقابل ذلك الكم الّذي لا ينتهي من الأعمال التلفزيونيّة والسينمائيّة والوثائقيّة التي تعالج موضوعة الهولوكوست اليهودي (عدّد النقاد 16 عملا ضخماً في هوليوود وحدها خلال عام واحد). وتذكر مصادر تاريخيّة أن إحدى شركات هوليوود الضخمة أرادت في الثلاثينيات إنتاج فيلم ضخم عن المذابح بسرديتها الأرمنيّة، لكنها صرفت النظر عن المشروع بضغوط من الخارجيّة الأمريكيّة والسفارة التركيّة.
لا يوجد فن خالص ما دامت «الحقيقة» غزال مذبوح على فضاءات مؤدلجة، إنها السّياسة دوما وإن تنكرت في ثوب الكاميرا.

المصدر : القدس العربي
1