أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
المفتاح !!
بقلم : اميرة المشعل* ... 13.10.2016

سماء ملبدة بالغيوم وأنا أركض تحتها بحذاء بلاستكي رباطه مفلوت. من دون جاكتة، وبدستة من البلوزات الصوفية ألوانها فاقعة، مثقوبة من الكوع، تحت مريول أزرق... يا لأناقة الفقراء! حيث أصعد وأنزل ثلاثة جبال متتالية حتى أصل مدرسة لها رائحة مستشفى حربي مترب، أو هيئة مطار مهجور.
أخيراً وقفت عند مطعم ضئيل، مطعم طلاؤه الدهني مقشور، يقع مباشرة أمام المدرسة. بالكاد يكفي الوقوف فيه لعامل مصري بسحنته المتعرقة، خلف صاج أسود عميق طافح بالزيت النباتي، ومتفحم لكثرة قلي أقراص الفلافل البنية المنمشة. رائحته اللاذعة، ما زالت تصل إلى أنفي حتى الآن، مع أني على بعد عشرين عاماً من تلك الحادثة.
التقط أنفاسي، أبلع ريقي، أسوي حقيبتي على ظهري، الحقيبة التي تحوي كل أنواع السندويشات التي أكرهها: زعتر وزيت، زيت وزعتر، زيت وزيت، زعتر وزعتر...أمسح شعري ببعض قطرات المطر التي بدأت تتساقط عليه.
-عمو كم الساعة؟ أسأل الحارس الهرم، نصف الأطرش.
يقوس يده النحيفة ذات البشرة الجافة حول شحمة أذنه المتهدلة.
-الساعة... الساعة. أكرر له بضرب إصبعين على معصمي.
فيفهم إشارتي:
-آه عشرة إلا دقيقتين.
أقدم له امتناني بابتسامة طفلية، ثم أصعد الطوابق الثلاثة لمدرسة الـUN، ذات العلم الأزرق المبلول، قماشته مهترئة وقد التصقت بساريته النيكل فما عاد يرفرف أبداً.
الحمد لله لم أتأخر كثيراً.. لحظتان..لحظة فقط وأكون في الصف قبل دخول الأستاذ، أو بعده بخطوة. ها أنا قد وصلت. ولكني تفاجئت، كان الصف خالياً تماماً، إذ لا مدرس، ولا طلاب، ولا حقائب، وحين تلفت حولي وجدت صفوفاً مكتظة، هنالك عدد من المعلمين والمعلمات الذين يجهدون أصواتهم بشكل أسطوري من أجل إقناع أكثر من ستين طالبا منحشرين في غرف رمادية، بالكاد تكفي الواحدة منها ثلاثين طالباً.
أجتاز الممر، ثم أهبط مسرعة، متعثرة الخطوات على سلم بمحجر حديدي يقود إلى غرفة الإدارة.
أدخل، فأسأل المديرة بتلكؤ، وبرأس محني بشدة.
فتأمرني بالخروج من غرفة الإدارة في الحال، إذ لا يحق لي الدخول أو السؤال بهذا الشكل، مؤكدة على ذلك بنظرة حازمة.
في غرفة الإدارة، فوق رأس المديرة مباشرة ثمة صورة هائلة. يظهر فيها أبو عمار وهو يسلم على امرأة بشعر عنابي قصير جدا، رقبتها غليظة، يطوقها عقد لؤلؤ بلفات كثيرة.
ما أن خرجت، حتى سمعت صوته:
-أميرة أميرة...كان الصوت قادماً من عتمة الممر، أما هو فقد كان هناك، بعينيه المشدوهتين الشبيهتين بسحلية مجعدة. هاتان العينان مازالتا حتى الآن، ومنذ عشرين عاماً، تحدقان بي.
-تعالي، تعالي إننا هنا!
أخلع حقيبتي، أنسل خلفها إلى غرفة داكنة مكتظة بأكثر من مئة وعشرين طالباً، حصيلة صفين من الصف السادس الابتدائي.
لا أعرف كيف التقتطتني عينا الأستاذ «محمد عرابي». لقد انهالت مسطرته على كتفي، انهالت بقوة حتى تركت ندبة حمراء عليها. لكني بقيت ثابتة في مكاني. لم أصرخ، لم أعبر عن ألمي إلا بدمعة مدورة، رسمت قوساً كاملاً، حتى وصلت ذقني.
-ليش متأخرة وله آه.
في العتمة، لم ينتبه أحد لذالك. لقد وقف هناك بوجهه العظمي المجدور، وسط بقعة ضوء مربعة تنعكس على الحائط، وهو يضرب بمسطرته الصفراء السميكة على يده، ويقول بصوت عال:
-اليوم راح نعرض لكم فيلما..
ثم يستأنف كلامه:
-إحنا فلسطينيين، طيب. الكلبة غولدا مائير قالت: الجيل الأول سيقاوم، والثاني سيقاوم، والثالث سيقاوم، أما الرابع فسيتعب! فشرت في نص عينها الشرمو.....استغفر الله!
ما علينا..هلا بدنا نعرضلكوا فيلم عن حق العودة..حقنا نرجع لفلسطين بلادنا، إحنا هون في الأردن لاجئين فاهمين؟
من دون أقل تفكر هززت رأسي..
استأنف كلامه:
-لاجئ يعني بيجي يوم وبيرجع لبلادو.
زم شفتيه ثم نظر إلى لأستاذ الرياضيات الضئيل، والضائع تماماً في بذلة فضفاضة، وأشار له أن يشغل الفيلم.
-ياللاه حسن!
اندفع الضوء الساطع دفعة واحدة إلى العيون المندهشة والمفتوحة على اتساعها.
صور، صور، صور، تتحدب، تتقعر في عيني، تغتسل بالدمعة، وأنا أشهق بصوت مكبوت لا يكاد يسمعه أحد وسط تمتمة مئة وعشرين طالباً.
صور لأزقة مخيم تحيط أسلاك الكهرباء بمنازله وتربطها مع بعض. سيدة عجوز بثوب نابلسي أبيض اللون تعلق على صدرها المترهل مفتاح بيتها في فلسطين. رجل مسنٌّ بكوفية وحاجبين ثلجيين يدفع نحو الشاشة مفتاح منزله في فلسطين. نساء في منتصف العمر. شباب متوقدون يدفعون عيونهم الفضولية أمام الكاميرا.
صور لبلاد جميلة، بيارات برتقال، شوارع نظيفة. أفق مضيء، محلات بيع تحف للحجاج ولسياح قبة الصخرة وهي تلمع، بل ما زالت تلمع حتى الآن في عيني، على بعد عشرين عاماً، كأنها نهد ذهبي مطلي بالعسل !!!
حق العودة! أتنهد بسخرية..أتحسس كتفي، الندبة الحمراء التي تحولت إلى زرقاء ثم إلى نقطة سوداء في قلبي، الندبة التي أورثتني هذه العادة التي تكرهها، أقصد تحسس كتفي بشدة وأنا أتحدث.
في ذلك اليوم فكرت كثيراً، رغم أني لم أفهم ماذا يعني «غولدا مائير» بالتحديد، لكني فكرت كثيراً في حق عودة اللاجئين إلى منازلهم، وما زلت إلى الآن يا عزيزي، أتمنى بعنف لو أنني اندفعت للأستاذ «محمد عرابي» وسألته فقط:
أستاذ..أنا بدوية من دوار الخليل، جدي كان عايش في بيت شعر..وبيت الشعر مالو مفتاح...بيت الشعر إلو مفتاح إستاز..من وين بتسكر ؟؟».

*كاتبه فلسطينيه
1