أحدث الأخبار
السبت 20 نيسان/أبريل 2024
تفاصيل الحزن الصغيرة:قراءة في "أرواح هائمة" لكمال العيادي!!
بقلم : صلاح الدين بوجاه  ... 05.03.2014

شدتني مجموعة كمال العيادي، الموسومة بأرواح هائمة بكاملها، بيد أن قصتين من قصصها القصيرة قد لفتتا انتباهي أكثر من باقي القصص، بسبب الكم الهائل من التفاصيل الصغيرة التي تتردد بين جنباتهما . وهل ذلك إلا من قبيل ما يوطد السرد الحديث، ويكسبه المزيد من الرسوخ والثبات !
فكأننا بالعيادي قد أقبل على إحصاء الأشياء كلها، بدءا بباريسا ألكسندروفنا حتى الغرفة رقم 216، طردا وعكسا، انطلاقا من هذه الغرفة حتى السيدة ألكسندروفنا … بعد أن نكون قد تحرينا بعض الشيء في هذا الرقم، وانتهينا إلى انه الرمز الهاتفي للبلاد التونسية، التي لا تعدو أن تكون غرفة، مجرد غرفة …مقارنة بالبلاد الروسية الشاسعة الممتدة عبر الجبال والقارات وبيداء الثلج السيبيرية.
فالجزئيات تتكثف، مثلما تعمل العين على ابتداع الوجود، إسهاما في خلق مناخ للقصة، يختلف عن الرواية، وعلى النصوص الوسيطة ! يحيلنا هذا الكلام على إعادة تمثل الجاحظ، في القديم، في أسلوب القص الشرقي الأثير لديه، وأخذه من كل شيء بطرف …إيذانا باستعادة طوب الأرض، وفتحة المزاريب، والمغاليق، والرزات .. وغيرها !
يتولى الراوي تقديم الشخصيات بالتعرض إلى جزئياتها، التي تستند إلى اللغة، والبجع الأبيض، وشواطىء الفولغا، والقصائد، وسجائر الكوسموس، فضلا على تمثال بوشكين، والعجائز والصبايا الروسيات، وغنج طيور الدوننباي .
فالراوي قادم إلى موسكو طلبا للعلم، أو لبعضه ! والحق أن ولعه بالجزئيات قد أدى به إلى تبعيض الأشياء.
بهذا الولع الكبير بالعناصر المجتزأة يدخل الراوي قاموس الأشياء، فيعيد الاحتفاء بها، قبل أن يعود إلى التريث لدى باريسا ألكسندروفنا، وهي إمرأة في الأربعين، ذات ابتسامة تخفي آثار الزمن، ويتعمد الراوي ذكر الشارع الذي تقطنه(جالوشكا)، قبل الإحالة على الغرفة عدد 216، وهي واحدة من الغرف الواقعة في الطابق الثاني . ومثلما أن المحبة لا تكون إلا بعد عداوة، فلقد استهل الأمر بخصومة صاخبة معلنة بين الراوي وباريسا ألكسندروفنا، قبل التريث عند جزئيات الحياة اليومية التي يدعى الراوي إلى ممارستها في ثلج روسيا !
بهذا يحضر الحزن في كل المواقيت، بل يؤكد سطوته في كل حين، على اعتباره كائنا فاعلا قادرا على تغيير الواقع تغييرا كاملا، فاعلا لا رجعة فيه ! إنه يلف الكائنات كلها في أرديته الضبابية التي تحيل على الوجود، بأقرابه وأبعاده ! فيفضي بها إلى عوالم غير معهودة، هي عوالم سيبيريا، المأخوذة من بيداء الثلج التي لا تختلف كثيرا عن السباسب الجنوبية، والتي غالبا ما تتجنب الإفضاء بأسرارها، على مسامع الغرباء، أو تكاد !
فقبل الانغماس في مجال الاستفهام عن الأدب ،أو قل عن الآداب عموما، والنظر في مدى التحصيل الذي يمكن أن يدركه السارد، في هذا البلد البعيد، نتساءل عما يولد القوة ونور الحقيقة ! الجزئيات هي التي تصنع الأدب الجميل، وتمكن الكاتب من إتحاف متقبليه بألف ألف من الأشياء الصغرى التي تسهم في توطيد كيانه، وتـأكيد قوامه!
تترافد الجزئيات في هذه النصوص محدثة ضربا من الدلالات التي تعرفنا على دقائق الحياة اليومية، من رسوم بيكاسو وسلفادور دالي، وصور بوب مارلي، حتى الحبيب بورقيبة وكلاوس كنسكي، وأوجين يونسكو، وليرمنتوف، ووالد السارد، فضلا على مجموعات من الكتاب والكتب بالروسية والعربية والفرنسية، وبعض الصحف المبعثرة، والإحالات غير المرتبة على كافكا، وشذوذ بيكاسو !ّ
هل كل هذا إلا مما يقتضيه تنظيم المدن ! فعلا نقر بأن المدينة تقتضي كل هذا ! فليس من الغريب أن يكون تمصير الأمصار بمثابة الإغراق في بحر لا حدود له من الجزئيات التي لا تعرف نهاية !
بالانغماس في هذه الجزئيات التي يستحضرها السارد ليمكن قارئه من معرفة دقيقة بالحياة اليومية في روسيا، رغم أن هذه المعرفة غير مبررة الوجود . فهي قائمة على التعامل مع عهود سابقة، والزج بها في سياق النص .
بهذا يضعنا السارد مباشرة أمام سياق مختلف، حيث تؤدي العين ما يطلب منها، وأكثر مما يطلب منها .
العين تبدع الوجود إذ تنظر إليه، هذا هو اليقين الذي ندعى إلى الإقرار به . والعين لا تظفر بالمرئيات من أشياء الحياة العامة فقط، فهي تتريث لدى مقاطع الشعر التي تجتهد باريسا في روايتها على مسامع الراوي، وبوشكين ودواوينه ونصوصه النثرية، وإقباله على تصوير المجتمع الإقطاعي . بهذا فإنه يعبر عن الواقعية النقدية في الأدب الروسي، بمختلف جوانبه الثورية، وغير الثورية :
إني أحب سماع أصوات البعوض، وصوت أفراح الصبيان فوق المرتفعات، حيث يثيرون الصخب، كي تأتي الصبايا . بهذا غدت باريسا خيطا يشد السارد إلى وجوده الروسي المتثلج ! وبهذا تنبثق الأجناس بعضها من البعض الآخر، فتولد القصة ولادة مفصولة عن انبثاق الرواية، في سياقها الخاص .
يبدع كمال العيادي في تعامله مع جنسي القصة والرواية ! فرغم أنه في صلب القصة القصيرة، فإن السياق الذي يضع فيه نصوصه يحيل على إمكانات شتى مترافدة.
بهذا سرعان ما نكتشف أن الأمر يسير بنا نحو ضرب من السرد العام الذي لا يأنس إلى جنس بعينه . ونقدر أن هذه السمة يمكن أن تمثل أرفع السمات التي سار العيادي في نطاقها مروضا هذا الجنس العصي على التمثل والفهم .
على هذا يعتمد كمال العيادي في نصوصه الآسرة هذه ! يسير بها إلى غايتها، ويطوعها حتى منتهى ما يتيح الجنس من ناحية، والنص المفرد من أخرى . فنكون إزاء تدافع بين الإفراد والجمع، مما يسهل علينا حسن الإنصات إلى ما تنادي به هذه النصوص .
يقول هنري جيمس في شأن أصل الأنواع: ‘الأجناس هي حياة الأدب، والإقرار بحقيقتها والذهاب حتى منتهاها هو الانغماس في حقيقة الأثر الأدبي’. فنحن إزاء كائن مصنوع من الكلمات ومن جنس القصة في آن واحد، كائن يتلوى لدى طرف صنارتنا ممسكا بالسمكة الطائرة، قبل النضج، بين مخالب الدب الغاضب .
ألا يختزل هذا كله في حكاية الرسائل التي تكتب إلى زوجة سالم؟ رسائلك هي السبب يا ليتنا كتبنا لها كلاما معقولا مختصرا!’. فكمال العيادي سارد بارع، يضع الأمور في مواضعها، ويلبس لكل حال لبوسها . لذلك اختار ههنا أن يمزج – مزج دراية وتمكن – بين جنس القصة وجنس الرواية . فيمكن قارئه من أن يحس بأنه يتردد قدما بين هذين الجنسين، لا يستقر على حال .
بهذا يواصل السارد الإحالة على مصنفات يميل إليها . ومنها ديوان أغاني الحياة للشابي، وألواح للوهائبي، وبيارق الله للقهواجي، وحدث أبو هريرة قال للمسعدي، والكتاب المقدس، والقرآن الكريم، الذي يحمل إسم الوالد، على اعتبار أن ما يقلقه حقا هو تأخر مجيء البجع الوحشي هذا العام !’.
كاتب متعدد الألسنة، كثير الانتماءات، جم الوظائف، مستند إلى الجزئيات، في نباهة نادرة، مقبل على عالمه الخاص، انطلاقا من رؤيته الخاصة . هذا ما نروم أن نسم به كمال العيادي، الذي تمكن بنجاح من المزج الذكي بين عالم الأدب وعالم الإنسان، حتى غدت الأرواح الهائمة منبعثة من كم المرجعيات الأدبية واللغوية المنسجمة مع الاستيهامات التي قلما يتركها الشاعر! وهو بذلك يجمع في نجاح تام بين عالمي القصة والرواية !
ترد قصة باريسا ألكسندروفنا والغرفة 216 في المرتبة الثانية ضمن تراتب المجموعة. أما رسالتي المستعجلة إلى حبيبتي الالكترونية فإنها الثانية، ضمن الترتيب العكسي، الثانية من النهاية !
ضمن هذا السياق هما متناظرتان، تحيل إحداهما على الأخرى، ضمن بناء المجموعة . نؤكد ذلك فضلا على تناظرهما الغرضي، وانسجام المسائل التي تحيلان عليها، والمواضيع والتيمات التي تدرسانها.
ثم رأيت من يضرب برأسه على الحاسوب من فرط القنوط، فلذة كبدي الدافئة، سلسبيل 67، رسائلك المصورة بطريقة مغرية، تدفع دماء الحياة وقلة الحياة إلى قلبي، أشدها، أداعبها ألاطفها’.
بهذا تتماثل باريسا ألكسنروفنا الغريبة مع فلذة الكبد القريبة، محدثتين تناظرا صريحا يسهم في خدمة تيمات مجموعة كمال العيادي هذه الرائقة، وينبئنا أننا إزاء كاتب قد توطدت قدمه في باب السرد، وننتظر منه المزيد من نصوصه الجيدة هذه، خدمة للقصة العربية، وتـأكيدا للمختلف الذي ننتظر أن نعلن عنه ! والحق أن أسلوبه هذا نادر بين الآخذين بالسرد الحديث اليوم، هؤلاء الذين يرسلون الكلام على عواهنه، غير آبهين بالمتقبل، وما يقتضيه من تريث واتزان .
‘أرواح هائمة’ مجموعة لافتة، تستند إلى نصوص قصيرة، لكنها تعمل أداة الفعل المتأني في جديد النصوص التونسية التي تندرج ضمن جيدها، مثل قصص حسن نصر التي تجمع بين العجائبية والحكايات القديمة، فهي نظير حكايات ألف ليلة وليلة، حيث نفهم من القطعة أننا إزاء قصة قصيرة، منسجمة مع النص الأكبر، غير منفصلة عن اقتضاءاته !
في هذه القصص القصيرة إقبال على التلاعب بالحاسوب، حيث تترافد رموز القدس، برموز البنوة، ومتطلباتها الجارحة ! فكأننا بالعربي يغدو شخصا واحدا، قريبا مترعا ألما وحزنا، ينتشر فوق الوجوه .
إننا إزاء رسالة تغري بالمراوغة الجميلة، تشبثا بالخوف، بل إبداعا للخوف من جديد ! وهل إبداع الخوف إلا من قبيل مراودة المطلق .
بهذا تصبح سلسبيل 67 رمزا للعروبة المضطهدة، التي تشكو الضياع، دون أن تكون قادرة على الدفع به بعيدا، والخروج من غياهبه البعيدة.
الشعور بالخوف هو مرتكز الأمر كله . فهو المنطلق وهو الغاية، لذلك فإننا نظفر به داخل القصص المفردة، لكننا نقع عليه في إطار الكتاب، على وجه العموم والإطلاق .
بهذا نكد أن نصوص العيادي رغم ظاهر الصخب الذي تنغمس فيه نصوص حزينة . فإذا ما أكدنا أن الصخب لا ينسجم كثيرا مع الحزن، فإن الصمت، الذي يتماشى مع الانتظار هو مدار الأمر كله .
نغمة جديدة تطل علينا من تجاويف النص التونسي الجديد، حيث ننصت إلى حداثة ثابتة ترتكز على المزج بين القديم والجديد .
بهذا نستشف أن النص التونسي، والنص العربي أيضا، يدخل مجالا مفاجئا من مجالات السرد المستحدث، لم نكن نهجس بها إلا قليلا.

كاتب تونسي/ مسقط
1