أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
بيروت مدينةٌ كلّ من فيها يموت: تفجير المرفأ… شهداء وشهود ومشاهدون!!
بقلم : ندى حطيط ... 06.08.2021

هي لحظة تعطلت فيها رِئة مدينة، وتناثرت قمصان نومها أكفاناً لشبابها، هي لحظة جُنّ فيها الخلق وملائكته وشياطينه، واختلط الأحمر بالرماد، وأزرق البحر صار أكواناً من وُحول.
بعد السّادسة مساء بقليل يوم الرابع من آب/أغسطس العام الماضي، صارت بيروت على هيئة بُكاء، طعنة غائرة في خاصرتها – عند المرفأ – اتخذت شكل انفجار هائل قيل إن قوّة عصفه وكأنها نصف «الولد الصغير» الذي ألقته الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانيّة نهاية الحرب العالميّة. ليلتها، حملقت بنا الشهيدة الحيّة، دون أن تنبس ببنت شفة وهي ترتمي بين أيدينا، وفي عينيها ذات النظرة تلك في عيني قيصر، وهو يتطلّع لحظة موته مغدوراً بالخائن بروتوس، أقرب المقربين!
وكم من بروتوس أنجبتِ من رحمكِ يا أيتها المدينة؟
بيروت، فارقت الحياة ليلتها. والمدن تماماً مثل البشر، تلمع وتتوهج، لكنّها أيضاً من طين: عرضة لوعثاء الزّمن، والقتل العمد، والخيانة، وقد تذوي أو تموت.
عاصمتنا، قتلها الزّناة وتجار الهيكل وخدم الاستعمار، وتفرّق دمها بين الطّوائف.
بيروت التي ترونها اليوم ليست هي. هذا شبحها، نسخة مقلّدة منها، جثّة هامدة يُنهش جسدها كل حين، وبقيّة من وهمنا الدائم بأنّها مدينة تقاوم ولا تموت.
حسناء الشّرق الساكنة كشامة عشق على كتف البحر المُتوسط، تمشي عرجاء تلملم بقيّة نهاراتها الجائعة للخبز، وتتحضّر لليالٍ أخرى من مزيج العوز والذل وانقطاع التيّار الكهربائي وقهر الرّجال بأنفة تليق بسيدة مترفعة أنهكت فتنتها سحابات من أزمنة مظلمة تتتالى.
*كرنفال للموت
في تلك اللّيلة المشؤومة والتي نستعيدها اليوم بعد مرور عامها الأول، سقط مئات الشهداء، وأصيب الآلاف بجروح، بعضها خطر، وتضررت معظم مباني المدينة كليّاً وجزئيّاً، بما فيها المستشفيات والمنازل والمرافق العامّة. وبينما كان العالم برمته يصاب بالحزن والصدمة على هذه المأساة، كانت المحطات التلفزيونيّة – اللبنانيّة والعالميّة – تعيد بث لقطات لحظة التفجير مرارا وتكراراً، وما تلا ذلك من حالات ارتباك ودخان في شوارع محطّمة تمتلىء بحشود هائمة ملطخة ملابسها بالدماء، وبينها وجوه لمذعورين يبحثون عن أحباء مفقودين.
من البديهي بالطبع أن التواجد الشخصي في أجواء حادث هائل بحجم انفجار مرفأ بيروت حتى وإن نجا منه المرء جريحاً أو سالماً كشاهد، فسيترك آثاراً لا تمحى على الصحة السايكولوجيّة والعقليّة مهما تفاوتت خبرته في عيش التفجيرات والأعمال الإرهابيّة. لكن ضحايا انفجار المرفأ ليسوا الشهداء أو الشهود وحدهم، فقد تشاركنا معهم كلنا الموت: نحن المشاهدون عن بعد، عشاق بيروت وأولادها ومعارفها وجيرانها وكل من مرّ بها يوماً. هذه المجموعة التي استهلك كل من أفرادها جرعة تغطيّة إخباريّة مكثّفة لمشهد الانفجار وما تلاه من صور الخراب على شاشات التلفزيون وصفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تزيد عن المألوف، فإن ثمّة شيئا مات في قلب كل منا مع مشهد اغتيال محبوبتنا الأثيرة.
لقد كان آب/أغسطس 2020 بمثابة مهرجان مكسيكي للموت، متخم بالجثث والعظام المحطمة انتقل في لحظة غفلة من حراس العالم الجديد إلى مرفأ عند منتصف شرق البحر المتوسط.
*الأثمان الباهظة للتغطية الإخباريّة المستمرّة
يحظى اللبنانيّون بتغطية إخباريّة تلفزيونيّة مستمرّة لشؤونهم المحليّة أوسع – نسبة إلى عدد السكان – من معظم الشعوب العربيّة المجاورة، إذ تتعدد الشاشات المتنافسة على سوقهم الصغيرة (أقل من 6 مليون نسمة) فتتسابق لملء ساعات البثّ على مدار الساعة بأيّ حدث، كبيراً كان أم صغيراً. ويقضي معظم اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، ساعات عديدة كلّ يوم في متابعة التغطيات الإخباريّة عن بلادهم تزداد بشكل طردي مع ارتفاع (سخونة) الأحداث كما حدث ساعة انفجار 4 آب/أغسطس. لكن كثيرين قد لا يدركون أن التغطية الإخبارية هي أكثر بكثير من مجرد مصدر لتحديث المعلومات وجمع الحقائق. فكل محطة تلفزيونيّة تعبّر في النهاية – بوعي أو دونه – عن تموضع أيديولوجي محدد، وأن أشياء كثيرة منها تتسلل إلى لا وعينا وتؤثر على نظرتنا إلى العالم بطرق غير متوقعة، بداية من مواقفنا تجاه المسائل المثيرة للجدل سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، وصولاً إلى محتوى طموحاتنا الشخصيّة.
لكن الأهم – ونحن نعرف الآن نتيجة لأبحاث علميّة حديثة (دراسة هولمان وزملائه حول الحادي عشر من سبتمبر/أيلول) – أن التعرّض لتغطيات تلفزيونيّة متطاولة للأخبار يمكن أن يقود إلى سوء حساب بعض المخاطر الأمنيّة أو الصحيّة، وتشكيل وجهات نظرنا من الآخرين على نحو سلبيّ غالباً، ويزيد من خطر الإصابة بفرط الإجهاد المرتبط بالصدمات، كما القلق المرضيّ المستمر والاكتئاب.
وهناك أدلة متزايدة على أن التداعيات العاطفية الناشئة عن الجرعات المكثّفة من تلك التغطيات يمكن أن تؤثر حتى على صحتنا الجسديّة لا أرواحنا المعذّبة فقط، إذ أنها تضاعف على المدى الطويل من فرص الإصابة بالنّوبات القلبية، وقد تتسبب بمشاكل صحيّة تتطوّر مع مرور السنوات، لا سيّما مع ميل البشر التقليديّ إلى رؤية الأشياء من جوانبها القاتمة. وبالطبع فإن القلق الناتج عن متابعة التغطيات التلفزيونيّة يؤدي غالباً إلى مزيد من استهلاك المواد الإخباريّة وهكذا في حلقة جهنميّة عواقبها وخيمة.
ولذلك كلّه فإن دائرة ضحايا تفجير 4 آب/أغسطس، توسعت لأبعد بكثير من الشهداء والشهود. لقد أكملت التلفزيونات بحماسة بالغة إدراجنا جميعاً، شعباً برمته، في أتون النار.
*التغطيّة المؤدلجة: العبث بالعقول
هناك دراسة من 2012 حول تأثير صياغة الخبر على المشاهدين قاست توجهات الجمهور لزيارة بلد ما بعدما عرض على البعض مشاهد لحدث تخريبي قيل لهم إنّ جماعات إسلاميّة متطرفة نفذته، فيما شاهد البعض الآخر ذات المشاهد وقيل لهم إنها نتيجة هجوم شنته جماعات محليّة متمردة.
وقد ظهر التباين جليّاً في مواقف الطرفين من السياحة إلى ذلك البلد، إذ أعربت غالبية المجموعة الأولى عن عدم رغبتها في الذهاب هناك، فيما وجد كثيرون من المجموعة الثانية أن الهجوم لن يكون بعائق كبير يمنعهم من قصد ذلك البلد للسياحة.
ومن المعروف أن محطات التلفزيون اللبنانيّة تمثّل قوى سياسيّة طائفيّة مختلفة لكل منها مصالحه وتوجهاته وأيديولوجيته الناظمة.
ولعل هذا مما يضاعف نكبة اللبنانيين بعاصمتهم الشهيدة، إذ تسرد كل من هذه الشاشات سرديّة تكاد تكون نقيضة لسرديات الشاشات الأخرى بالكامل، وتشير بأصابع الاتهام بالتسبب في حدوث التّفجير المرّوع نحو هذا الطرف أو ذاك.
ولذلك فإن متابعة التغطيّة الإخباريّة المستمرّة على قناة بعينها يسهّل عمليّة التلاعب بتصورات طائفة معينة حول ما حدث، وتكرّس عداء وتوجساً في لا وعي المجموعات المختلفة تجاه المجموعات الأخرى تحديداً بسبب الصيغة التي تصمم بها التغطية الإخباريّة، كما لو كانت معنيّة بتجهيز العقليّات تدريجياً لصراع دموي آت.
كرنفال الموت الذي اغتال بيروت، وقتل شهداء المرفأ، مستمر على شاكلة تغطية إخباريّة مستمرّة تمتد إلى أرواح بقيتنا – من النّاجين بالصدفة – عبر الشاشات.

1