أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
عَيْنان!!
بقلم : سهيل كيوان ... 30.07.2020

تبثُّ العيون كل المشاعر الإنسانية، وتقول أكثر بكثير مما يستطيع اللسان أو القلم أو اللوحة النطق به.
يقال لمن يُنعم النظر في شخص ما: أكله بعينيه!
ويقولون: العيون هي التي تأكل، فالطعام يمر عبر البصر ومن خلال لونه يحسم أمره، إن كان شهيًا أو غير ذلك، هناك ألوان طعام تثير الشهية، وألوان تسدّها.
وكثيرًا ما كانت النظرات مفتاحًا للشرّ، أو للخير والاحترام والحب وغيرها من المشاعر.
وفي الحديث الشريف: «يا علي، لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة».
هناك نظرات ترافقها رفّات في الرّموش، وتعني التردّد، وعدم الثقة.
يقول الناس «كسَرْت عينه» وكسرة العين تعني أنه لم يستطع أن يفتح عينيه بشكل سويّ في عينيك، وذلك لضعف حجّته، أو لأنه في موقف مُحرج أو مُعيب.
هناك النظرة الشريرة، فيها تهديد ووعيد كأن صاحبها يقول لك: بفرجيك، ستندم! وهناك نظرة تتهمك بأمر ما.
وأخرى تقول بأن صاحبها يخفي أمرًا، وهناك نظرات بين الشريكين التي تعني الشك في تصرّف الشريك، وهناك نظرة تقول إن المستمع غير مقتنع أو ليس مصدّقًا ما تتفضل به.. فإذا أغلق رموشه نصف إغلاقة وأنت تتحدث مع انزياح خفيف، فكأنه قال لك: اكذب اكذب..
وعادة ما يفهم المتحدث عينيك فيقول: شِكْلك مش مصدّقني؟
وهناك نظرة تقول بأنك مستصغر لشأن هذا أو ذاك، وهذه تبدأ من أعلى ثم تقفز قفزًا إلى أسفل، وتوجد نظرة إجلال وإكبار، تكون العينان فيها مستقرتين في عيني الآخر بوقار وسكينة.
وهناك نظرة الرضا والعين القريرة.
تشترك العين التي نبصر بها بالاسم مع عين الماء، مصدر الحياة، وأعيان القوم، والعيون هم الجواسيس، وغيرها من معانٍ كثيرة.
وهناك من يؤمن بقدرة العين على الإصابة بالضّرر، ولإبعاد شبهة النظرة الشريرة عليك أن تصلّي على النبي، أو أن تقول، ما شاء الله.
ذُكر البصر والإبصار في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة، وقُصد به الإبصار المباشر تارة، والمعنوي تارة أخرى، مثل: «ذهب اللهُ بنورهم فتركهم في ظلماتٍ فهم لا يبصرون» و«وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون».
ويقال إن أغزل ما قالته العرب هو بيت جرير:
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا».
كنا في مطلع سني المراهقة قد فهمنا الحوَرَ خطأ، فظننا أنه الحَوَل الخفيف، إلى أن اتضح بأن المقصود هو شيء آخر غير الحَوَل، ورغم ذلك، فالحَوَل الخفيف الذي لا يكاد يلحظ فيه جمال.
يقول السّياب: عيناك غابتا نخيل ساعة السّحَر.
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نَهَر
إذا ما أخذنا المعنى المباشر لمنظر العينين لن نرى سوى بؤرتين صغيرتين لامعتين، ولكنّ هاتين النقطتين الدقيقتين تتسعان للغابات وللنجوم والكروم والأنهار والبحار.
وأهجى ما قالته العرب لجرير أيضاً:
فغضّ الطرف إنك من نمير/ فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا» وغض الطرف هنا خجلاً لشعورٍ بالنقص أمام الأكرم والأجوَد.
ويعترف عنترة مُجندل الفرسان بضعفه أمام النظرة، فيقول: رمت الفؤادَ مليحةٌ عذراء/بسهام لحظ ما لهنّ دواء.
في قصة «نظرة» منح يوسف إدريس نظرة الطفلة التي تعمل في الفرن وتحمل على رأسها صينية البطاطس بعدًا اجتماعيًا، إذ تنظر بحسرة إلى الأطفال في مثل سنها يلعبون الكرة.
منَحت الأغنية العربية النظرة مكانة مرموقة، لا أظن أنها موجودة في مثل هذا التعدد لدى شعوب أخرى. ويعود ذلك لأن عاداتنا وتقاليدنا لم تُبِح الكلام بين الرجل والمرأة الغريبين، فكان للنظرات دور أكبر في التعبير عن المشاعر والنوايا.
تقول أم كلثوم: نظرة وكنت أحسبها سلام وتمرّ قوام/ أتاري فيها وعود وعهود وصدود وآلام.
صدق شوقي في قوله: أخشى على الفصحى من عامية بيرم.
وتقول في أغنية أخرى من كلمات مأمون الشناوي «فين دموعي عيني اللي ما نامت ليالي/ بابتسامة من عيونو نسّهالي».
ويقول عبد الحليم حافظ: «الأمان في عينيها.. حسّيت إني عدّيت للأمان في عينيها» من كلمات محمد حمزة.
أما نجاة الصغيرة فتشدو من شعر الأبنودي:عيون القلب سهرانة».
ويقول فريد الأطرش: عينيا بتضحك وقلبي بيبكي. من كلمات عبد العزيز سلام.
ويسهم عبد الوهاب فيقول: وتعطلت لغة الكلام وخاطبت/ عينَيّ في لغة الهوى عيناك.
وتقول نجاح سلام: دخل عيونك حاكينا.. لولا عيونك ما جينا..
وأعتقد أن جميع المطربين العرب ذكروا النظرة أو العين بواحدة أو أكثر من أغانيهم. ويخرب بيت عيونك يا عاليا اشو حلوين.
قد تدخل قاعة أفراح تبحث في عينيك عن مقعد فترى مكانًا شاغرًا، ولكن نظرة واحدة من أحد الجالسين تكفي لتقول لك: قف ليس مرغوبًا بك، أو العكس، تقول لك أسرع قبل أن يشغله غيرك».
لغة العيون عابرة للغات والأجناس والأقوام، تستطيع أن تبث نظرة رضًا أو حيرة أو خوف ويفهمونك في كل مكان.
الحيوانات لا تنطق ولكننا نفهم من نظرتها إذا ما كانت تشعر بالسعادة أو بالحزن، بالأمان أم بالحذر، وحتى بالرّجاء والخوف. وأخبث الحيوانات و(البشر) هم أولئك الذين يستطيعون بث نظرات حيادية، لا تعكس أي نوايا، ثم ينقضّون فجأة على فريستهم، هذه النظرات الرمادية عادة ما تراها لدى السياسيين.
هناك أناس حُرموا من نعمة البصر، هذا يعني أنهم حرموا من كل ما يمكن أن تقوله لغة العيون، وليس الإبصار وحده.
وهناك مرضى ينتظرون متبرّعًا، والمتبرّع بالعين يجب أن يكون إنسانًا فارق الحياة.
رأيت قبل يومين خبرًا عن رجل أردني يدعى الدكتور مجدي الدارس، فقد ابنه في حادث سقوط عن ماكنة ألعاب في عمّان، تبرع بقرنيتي عينيّ ابنه (عليّ) ابن الثلاثة عشر عامًا إلى مُحتاجَين، وأثناء متابعتي للخبر، قرأت عن كهل أردني آخر، تبرّع قبل أسبوعين بأعضاء ابنه (يزن) الذي قضى في حادث سير.
في مثل هذه المواقف تستسلم العيون، عينُ من يعطي وعين من يأخذ، فتفيض بالدمع ليعينها على التعبير عما يجيش في الصدور من مزيج مشاعر من حزنٍ ونُبلٍ ونور.

1