أحدث الأخبار
الجمعة 29 آذار/مارس 2024
الحقيقة المُرَّة : " القضية الفلسطينية " أم " قضية فلسطين " ؟
بقلم : د. لبيب قمحاوي ... 14.01.2020

الحديث في الشأن الفلسطيني يصبح أكثر مرارة مع مضي الأيام ، ومؤشرات الإنكسار في الموقف الفلسطيني تبدو الآن أكثر وضوحاً من مؤشرات النهوض ، ولكن ماهو البديل ؟ ظواهر الأمور تشير الى انحسار عام في الإهتمام الدولي و العربي بما يجري في فلسطين ولفلسطين وللقضية الفلسطينية مع أن بواطنها قد لا تكون بذلك السوء .
ولكن ما الذي يخفيه الباطن بحيث يفسح المجال أمام بعض التفاؤل وسط خِضَم هائل من الخسائر الواضحة في الموقف الفلسطيني العام ؟
من الحصافة أن نحصر حديثنا داخل حدود فلسطين التاريخية و ندرس و نحلل عوامل القوة و الضعف الكامنة في الوضع العام داخل فلسطين المحتلة شاملاً مكوناتها الفلسطينية و الإسرائيلية بإعتبار ذلك هو العامل الأهم والأكثر تأثيراً في تحديد مستقبل القضية الفلسطينية .
يعاني المجتمع اليهودي الإسرائيلي من حالة استقطاب سلبي حاد يكاد أن يصل في تجذره الى واقع تقسيم ذلك المجتمع الى قطبين : التيار الديني اليميني المتشدد و التيار العلماني البراغماتي ، علماً أن كلا القطبين يشتركان في صهيونيتهم و عدائهم للشعب الفلسطيني و حقوقه . و على الرغم من حالة الإستقطاب و التشرذم تلك والعداء المتبادل داخل أوساط و مكونات المجتمع الإسرائيلي ، إلا أن عداءهم للفلسطينيين يبقى هو الأساس و العامل المشترك بينهم جميعاً . أما الآمال الساذجة المحزنة لبعض الفلسطينيين بإمكانية النفاذ من داخل الخلافات الإسرائيلية للحصول على مكاسب استراتيجية للفلسطينيين فتبقى في خانة الأوهام نتيجة لضخامة و تماسك قاعدة العداء الأيديولوجي و الإستعماري الإحلالي التي ما زالت تغلف موقف الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين .
إن ما جرى مؤخراً من رفض كافة الكتل السياسية الإسرائيلية القبول بتشكيل حكومة إسرائيلية تعتمد في بقائها على أصوات النواب العرب في الكنيسيت و إعتبار القبول بذلك من أي طرف اسرائيلي بمثابة انتحار سياسي ، يعطي فكرة واضحة عن مدى تأصل العداء الايديولوجي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين العرب ، ولكن واقع الحال هذا ليس نهاية الطريق . الإسرائيليون مهما فعلوا لن يستطيعوا التخلص من الفلسطينيين ونفس الشيء قد ينطبق على الفلسطينيين فيما لو كان هذا هو هدفهم . الوضع الراهن يشير إلى أن الفلسطينيين إبتدأوا في تبني مواقف أكثر ليونة وذكاء واستجابة للتحديات و للمتطلبات التي لازمت ونتجت عن الواقع السيء لقضيتهم على مدى العقود الأخيرة ، وأخذوا بالتالي يهدفون على الأقل الى استعادة حقوقهم في وطنهم كمواطنين ، في حين ما زال اليهود يهدفون ، حتى الآن ، الى التخلص من الفلسطينيين كوسيلة لإستعمار كامل وطن الفلسطينيين و تحويله الى وطن لهم . ولكن الفلسطينيين موجودون على الأرض وكذلك اليهود الإسرائيليين وهذا هو واقع الحال القائم بالرغم عن ما يريده كل طرف لنفسه وهو التحدي الأكبر الذي يجابه كل الأطراف المعنية .
حقيقة الأمور بالنسبة للفلسطينيين تؤكد أنهم لا يعانون فقط من عداء الاستعمار الصهيوني الإحلالي حصراً ، ولكن أيضاً و بالإضافة من عداء العديد من دول العالم الغربي التي ترتبط دينياً أو ثقافياً أو مصلحياً مع دولة اسرائيل و تعتبر أن إستمرار وجودها و بقاءها هو جزء من الإرث الأخلاقي للغرب و وسيلة للتكفير عن ما جرى لليهود في الحرب العالمية الثانية ! و هذا الوضع الشاذ يتطلب تفكيراً ابداعياً من قبل الفلسطينيين لجعل مطالبهم الوطنية أكثر انسجاماً مع الواقع و أكثر قبولاً من دول العالم و هي في معظمها معادية للمطالب الوطنية الفلسطينية .
لقد مر الفلسطينيون بحقبة الحل العربي و فشلوا ومن ثم حقبة الحل الفلسطيني و فشلوا و حقبة حل الكفاح المسلح و فشلوا و حقبة أوسلو و التعاون مع الإحتلال و فشلوا و حقبة الإنتفاضة الأولى و الثانية وفشلوا ، فما العمل ؟
سواء فشل الفلسطينيون أو أُفشلوا ، فإن الحقيقة واحدة . فالفشل في الحسم أو في الوصول الى نتيجة هي الحقيقة التي تتراوح أصولها بين فشل الفلسطينيين أنفسهم أو إفشالهم من قبل الآخرين ، علماً أن الفلسطينيين عانوا في الحقيقة من الإفشال أكثر من معاناتهم من الفشل .
إن فشل الفلسطينيين يعود في أصوله الى تشتتهم في بقاع الأرض وتعرضهم لمؤثرات مختلفة ومتناقضة من جهة ، والى دولية الصراع في فلسطين واختلاط القوى المؤثرة والفاعلة في تحديد مسار هذه القضية وصولاً الى نقطة الإستقرار من المنظور الدولي عندما أصبحت قوة اسرائيل العسكرية تفوق مجموع القوى العسكرية للعرب . هذا بالإضافة الى أن القيود التي فرضها الفلسطينيون على أنفسهم من خلال الإصرار على برنامج من الثوابت الوطنية الجامدة التي لا تقبل الجدل مع كونها تتناقض مع ميزان القوة السائد قد عزز من فشل الفلسطينيين في الوصول الى نقطة الحسم أو التعادل . و إستمر هذا الموقف الى أن جاءت اتفاقات أوسلو كمنعطف جديد نحو تنازلات أوصلت الفلسطينيين الى حقبة السلطة الفلسطينية و تعاونها مع الإحتلال الإسرائيلي من خلال التنسيق الأمني . وهكذا قفز الفلسطينيون بقيادة حركة فتح من المسار النضالي و الكفاح المسلح الى مسار التعاون والإستسلام لواقع الإحتلال والقبول بدويلة على جزء من أرض فلسطين التاريخية وحتى هذا الأمر رفضه الإسرائيليون بالنتيجة !! مسار عجيب ولكنه حقيقي .
ما الذي نحن بصدده الآن ؟ تبادل تهم التجريم و التخوين أم البحث على مسار جديد يخدم طموحات و آمال الشعب الفلسطيني إلى أقصى درجة ممكنة ضمن معطيات الواقع المؤلم والشرس الذي تعيشه قضيتهم ؟
الواقع الفلسطيني كما هو الآن يشير الى أن حركة فتح قد أصبحت نظام حكم لدولة غير موجودة وحماس أصبحت بالمقياس نفسه نظام حكم لدولة شبه موجودة بحكم عدم رغبة الإسرائيليين بالإستحواذ على قطاع غزة لأسباب عديدة .
نحن إذاً أمام واقع مؤلم تندثر فيه حركات مقاومة فلسطينية بائدة بحكم إختيارها ليتحول واقعها الى أنظمة حكم تسعى الى المحافظة على وجودها حتى ولو كان ثمن ذلك تمزيق الوحدة الوطنية الفلسطينية والتنازل عن الأهداف الوطنية الفلسطينية ، وهو أمر يرحب به الإسرائيليون كونه يخدم مصالحهم بشكل ملحوظ . و هكذا تحولت التنظيمات الثورية المقاتلة في أصولها الى أنظمة حكم في واقعها ، تستمد شرعيتها من سلطات الإحتلال علماً أن سلطتها أقرب ما تكون الى إدارة أمنية / خدماتية دون أي سيادة حقيقية أو حتى شبه حقيقية.
إن إنزلاق القيادات الفلسطينية المختلفة الى فخ السلطة قد جاء على حساب القضية الفلسطينية . وهكذا فإن الواقع الحالي للفلسطينيين ، على مرارته ، يتطلب نظرة شجاعة جديدة تتعامل مع قضيتهم بمنظور جديد و استيعاب أفضل للواقع و تحدياته دون التفريط بالثوابت الأساسية للحقوق الفلسطينية تحت شعار الواقعية .
" القضية الفلسطينية " هو اصطلاح أصبح يعني أموراً محددة مرتبطة بالفلسطينيين أنفسهم فقط وبالمطالب التقليدية التاريخية للفلسطينيين . المطلوب الآن التوقف عن استعمال مصطلح " القضية الفلسطينية " و التوجه نحو استعمال اصطلاح " قضية فلسطين " بدلاً عنه ، حيث أن واقع الأمور الآن يشير الى أن الثوابت التقليدية للقضية الفلسطينية قد تم انتهاكها من قبل الجميع بما في ذلك القيادات الفلسطينية نفسها و أنظمة الحكم التي تمثلها ، ناهيك عن العرب و المجتمع الدولي . كما أن اصطلاح " القضية الفلسطينية " يشير الى الفلسطينيين فقط بإعتبار أن هذه القضية هي قضيتهم وقضية الشعب الفلسطيني بصورتها التقليدية . و في هذا السياق ، فإن اصطلاح " القضية الفلسطينية " مرتبط في ذهن الجميع بالفلسطينيين حصراً و ليس بفلسطين كمساحة جغرافية تشكل الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني ، ولكنها تحتوي الآن على آخرين مما يقتضي توفر القدرة على التوصل الى حل مشترك يعكس القدرة على التعامل مع الواقع ولكن بنديَّة و ليس من خلال التشبث بالخيال و التعلق بحبال من الأوهام ، أو الولوج في مسار التنازلات و الإستسلام لإرادة الإسرائيليين .
إصطلاح " قضية فلسطين " يشير الى الأرض وما عليها ويتطلب توفر الرؤيا و القدرة على التعامل مع تلك الحقائق المرّة الموجودة على الأرض بغض النظر عن الأسس الشرعية والقانونية والأخلاقية لذلك التواجد . إن التعامل مع الأرض وما عليها بإعتبارها " قضية فلسطين " يهدف الى نقل القضية من كونها مشكلة الفلسطنيين فقط الى كونها مشكلة كل من يقطن الآن على أرض فلسطين التاريخية .
ارتباط الشعب الفلسطيني بأرض فلسطين لا يعني بالضرورة عدم وجود حل سوى الحل التقليدي الإقصائي الذي لا يسمح بشيء سوى التحرير الكامل و عودة الأمور الى ما كانت عليه بالرغم عن الحقائق المرّة للإحتلال الاسرائيلي وقضمه المتواصل للأرض و الشعب معاً ، وتفريط القيادات الفلسطينية و العربية بالحقوق و الثوابت التاريخية للقضية الفلسطينية .
الواقع يحتم على الفلسطينيين الآن إعادة التفكير في هذا الموضوع بشكل جدي يتوافق مع التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية خلال السبعين عاماً الماضية والتي تحتم إعطاء هذه القضية العنوان الملائم و المحتوى الواقعي من خلال استبدال هدف التحرير بالحقوق الوطنية وهو هدف أكثر واقعية كونه يعمل على ربط المواطنة بالأرض وعلى ربط كلاهما بالحقوق الوطنية أكثر من ربطهما بالتحرير وبالمنظومة التاريخية التي رغم صحتها و أحقيتها قد لا تنسجم مع الواقع الجديد أو قد تفتقر الى مقومات النجاح في المدى المنظور . هذا التطور قد يتطلب تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرير الى قضية حقوق انسان بمفهومها الكامل الذي يشمل الحقوق السياسية ضمن إطار دولة واحدة على أرض فلسطين التاريخية.
التعامل مع القضية الفلسطينية من منظور جديد يصبح أمراً ملحاً في ظل الأوضاع البائسة و الإنهيار المتتالي في وضع " القضية الفلسطينية " والهدف بالطبع لا يسعى الى التفريط أو يقبل به بأي شكل كان ، بقدر ما يسعى الى إعادة تعريف قضية فلسطين ضمن أولويات جديدة و وسائل نضالية جديدة و مبتكرة تهدف الى كسر الجمود الذي لحق بالقضية الفلسطينية والإنهيارات المتتالية التي لازمت مسيرتها السياسية و النضالية علماً أن حل " القضية الفلسطينية " لن يأتي إلا من داخل فلسطين وهو بالتالي يجب ان ينبع من الواقع القائم الآن على تلك الأرض ويفترض بل ويتطلب بقاء الفلسطينيين على أرضهم التاريخية فلسطين وتمسكهم بهذا التواجد وبوضعهم وحقوقهم كمواطنين في وطنهم التاريخي بغض النظر عن مسمى الكيان السياسي الذي يحكم ذلك الوطن في مرحلة تاريخية أو أخرى.

1